التاريخ الثوري كأنه رواية من الخيال

الروائي البريطاني تشاينا ميلفيل يكتب عن ثورة أكتوبر في ذكراها المئوية

لينين يخطب في الجماهير عام 1917
لينين يخطب في الجماهير عام 1917
TT

التاريخ الثوري كأنه رواية من الخيال

لينين يخطب في الجماهير عام 1917
لينين يخطب في الجماهير عام 1917

ربما تكون الثورة الروسيّة (أو ثورة أكتوبر) (تشرين الأول) 1917 أهم حدث مفصلي شكّل مسار التاريخ في القرن العشرين برمتّه. على الأقل هكذا كان يعتقد إريك هوبزباوم المؤرخ البريطاني الأهم عندما كتب أن ثورة البلاشفة الشيوعيين الذين أسقطوا منظومة الإقطاع الروسي المستمرة لعدة قرون كان لها تأثير حاسم وعالمي النطاق أكثر بكثير من الثورة الفرنسية أو حتى الحربين العالميين. وعلى الرغم من السقوط المدوي لدولة الاتحاد السوفياتي عام 1991 - وهو الكيان الذي كان نشأ نتيجة لتلك الثورة -، فإن التجربة ما زالت وهي تحتفل بمئويتها هذا العام - موضوعاً للجدل والانتقاد والتقييم والإلهام، اعتماداً بالطبع على الموقف الآيديولوجي للقائم بالمهمة. أليس التاريخ في النهاية رؤيتنا الذاتية المحضة - المتلونة بكل انحيازاتنا وتصوراتنا كما هي راهناً - لما نعتقد أنه أحداث الماضي؟
حدث تاريخي بهذه القيمة أسال أطناناً من الحبر في وصفه وتحليله، ويكاد القارئ العادي يبدو كما قشّة تائهة في أكوام المصادر التي بإمكانه الاطلاع عليها لأحداث تلك السنة الفاصلة، لا سيما أن أجواء الحرب الباردة راكمت السرد على طرفي النقيض من ثورة «تحالف العمال والفلاحين». فهي عمل دموي متسرع أسقط روسيا في أتون حرب أهليّة ثم سلطة شموليّة تسببت بموت الملايين أو هي ثورة نبيلة نادرة للطبقة العاملة وبارقة أمل للبشرية بالانعتاق من فداحة النظام الرأسمالي رغم أنها أُسقطت بالحرب والحصار والثورة المضادة وحكم الفرد الواحد.
لهذا القارئ بالأخص يأتي نص الروائي البريطاني تشاينا ميلفيل (أكتوبر) الصادر حديثاً عن دار فيرسو في لندن ونيويورك بمثابة ترياق شاف. فميلفيل الآتي من روايات الخيال العلمي وأجواء مدن المستقبل، والمخلوقات العجيبة وحروب الخير والشر التي لا تنتهي، نزع قبعة الروائي - لكنه بالتأكيد لم يخلع موهبته في القص - وكتب سِفر (أكتوبر) الذي يمكن اعتباره بحق السرد الأمتع - شهراً بشهر - لأحداث ذلك العام العجيب.
«أردت أن أروي تلك الثورة كقصة، كملحمة روائيّة، لكن كل شيء في روايتي مأخوذ وبدقة شديدة من مصادر تاريخيّة منشورة» يقول ميلفيل الذي لا يخفي أنه يكتب بقلم كان يتمنى للثورة أن تنجح، لكنه لا ينكر أن التجربة كانت أكبر من الثائرين، وانتهت إلى سقوط محتوم بعد سبعين عاماً تقريباً.
ومع أن ميلفيل لا يكشف جديداً بشأن الثورة، إلا أنه نجح في أقل من 350 صفحة - وحيث أخفق كثيرون - بتقديم نص يكاد يقفز أمامك كأنه عمل سينمائي تعود فيه تلك الشخصيات المثيرة للجدل كلها إلى قيد الحياة: من نيكولاس القيصر المكتئب الذي يكره منصبه في تردده وانعدام الحس التاريخي لديه، إلى فلاديمير لينين عبقري السياسة والثورة في التقاطه اللحظة الثوريّة وتنقلاته عبر العواصم للقبض عليها، وليون تروتيسكي الزعيم الكاريزمي الذي كان قلب وعقل ويد الثورة في آن، وألكسندر كيرنسيكي الداهية الاشتراكي الروسي الذي صدّق أنه مسيح مخلص للأمة الروسيّة فعلق للأبد في حكومته المؤقتة، مروراً بجيرجوري راسبوتين الذي تسرب إلى المخدع الملكي بشعوذاته فانتهى إلى موتة لا أقسى منها إلا ربما ذلك المصير المؤلم الذي انتهى إليه القيصر نفسه وأسرته كبيرها وصغيرها، وانتهاء بالطبع إلى جوزيف ستالين الثوري العديم الخيال الذي لم يحظ يوماً بثقة لينين وانتهى - بعد تصفية كل الرفاق تقريباً - زعيما أوحد للأمة الروسيّة ورمزاً لفترة رعب مقيتة استمرت ما يقرب من خمسة وثلاثين عاماً ولقي فيها الملايين حتفهم أو دمرت حياتهم.
وكما شريط سينمائي، أبدع ميلفيل في (أكتوبر) بربط سلسلة الأحداث المهمة وشخصياتها الشكسبيريّة الكبيرة من خلال تفاصيل إنسانيّة صغيرة كرسائل ومذكرات وشهادات لأناس هامشيين عاشوا تلك المرحلة وربما تظاهروا وقاتلوا فيها وكتبوا عنها من وحي اللحظة فأدخلونا في عميق أرواحهم كي نرى بعيونهم كيف ماجت تلك الأيام بتغييرٍ وموتٍ وأملٍ معاً على نحو يستعصي على الإدراك البشري أحياناً. لكن إضافة ميلفيل الأهم (أكتوبر) - إلى جانب أسلوب السرد المضيء - ربما تكون في الإشارة إلى الأجواء التقنيّة ونظم العيش والعمران الحضري التي كانت بمثابة المسرح الذي جرت عليه أحداث الثورة. هو مثلاً ينبهنا كيف أن الثورة كانت على شكل أو آخر هبة تكنولوجيا القطارات التي وبمحض الصدفة التاريخيّة كانت مشروع القياصرة لتحديث روسيا: من قطار لينين الألماني المغلق الذي نقل القيادة الشيوعيّة من المنفى السويسري إلى الحدود الروسيّة الفنلنديّة، إلى القطار الملكي الذي أقل القيصر الأخير في منافيه عبر روسيا ولحظة إجباره على التنازل عن العرش، إلى محطات القطارات التي شهدت الإضرابات الثوريّة وتنقلات الجنود ولاحقاً الثائرين عبر روسيا - الهائلة جغرافياً -. حتى ليظن المرء أنه ربما لم تكن الثورة ممكنة من دون تلك القطارات. ومثلها أيضاً كانت التلغرافات وسيلة التواصل الأهم في الدولة المترامية الأطراف، ولذا كان يكفي لأي طامح بالسلطة أن يمسك بدفة الحكم من خلال التحكم بداية بشرايين الاتصال والنقل هذه.
لم تكن الثورة - كما يرسمها ميلفيل - صراع أمراء حرب ومافيات، بل كانت أساساً صراعات بين كتل مثقفين رفيعي الاطلاع ومتحدثين مفوهين في بدلات أنيقة، يسهرون لساعات متأخرة في مداولات ومناقشات تنتهي غالباً بالتصويت، - ليعاد طرحها لاحقاً والتصويت عليها من جديد - وغالباً بتغير الاتجاهات وفق تطور الأحداث وتأثيرات لوبيات الأفكار المتصارعة. الصحف اليوميّة كانت أيضاً محوريّة في أجواء الغليان الفكري هذه، ليس فقط في نقل الأحداث بل وأيضاً طرح الأفكار من قبل نجوم العمل السياسي والثوري وهي تمتعت في نطاق ثورة أكتوبر بتأثيرٍ مذهل على المسارات وما آلت إليه لاحقاً.
ومع أن ثورة 1917 باهظة التكلفة - عدة آلاف من القتلى والجرحى بين الطرفين - فإن ملمح العنف فيها يبقى رمزيا أقله مقارنة بأحداث الثورة المضادة وفترة حكم ستالين والحرب ضد ألمانيا في الأربعينات. فاقتحام القصر الشتوي - مقر السلطة - في أكتوبر 1917 لم يسقط فيه من الجانيين عدد يذكر، ورغم الانقسامات الحادة داخل الجيش طوال أشهر الثورة التي بدأت في فبراير (شباط) ذلك العام وتوجت بأكتوبر فلم تحدث مواجهات عسكريّة حاسمة وكان أغلب الذين قتلوا من منسوبي الجيش فيها ضحايا صراعات انتقاميّة بين الضباط والجنود.
ومع أن ميلفيل - المعروف بتعاطفه مع اليسار - يعتبر «بما أن الثورة وقد حصلت، فلم لا تحصل الآن أيضاً» كما كان كتب في «الغارديان» البريطانيّة عن كتابه، فإنه يبدو من دون أوهام بشأن النهاية المظلمة التي انتهت إليها الثورة. وهو ربما لم يقل ذلك صراحة، لكن مسرد الشخصيات الذي اختتم به (أكتوبر) لا يدع مجالاً لأي افتراضات أخرى. فالأغلبية الساحقة من الأبطال الثوريين الذي نظموا الثورة ونفذوها وقاتلوا من أجلها انتهوا وفق المسرد - في أغلبيتهم الساحقة - مقتولين على يد ستالين، بينما تفرق كبراء روسيا الذين نجوا ليموتوا من اليأس في المنافي أو يطاردهم عملاء ستالين حتى آخر بقاع الأرض. نص ميلفيل ذو الملامح الروائية الصارخة عن 1917 قد يكون شديد التشويق، لكن الثورة حقاً أكلت أولادها ومعهم عدة ملايين من العمال والفلاحين والفقراء، ولا أي نثر - مهما أضاء - يمكن أن يطغى على تلك الحقيقة المفجعة.



«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.