دریائي: تاریخنا في إیران مسیس.. ولا یمكننا التعامل مع الماضي بسهولة

كتابه الجديد يؤرخ للإمبراطورية الساسانية «بحثا عن الهوية»

تورج دريائي  -  غلاف الكتاب
تورج دريائي - غلاف الكتاب
TT

دریائي: تاریخنا في إیران مسیس.. ولا یمكننا التعامل مع الماضي بسهولة

تورج دريائي  -  غلاف الكتاب
تورج دريائي - غلاف الكتاب

ظهر جیل جدید من المؤرخین والباحثین في التاریخ یولون اهتماما خاصا بتاریخ إیران القدیم. وهم لا یتعصبون للتاریخ تعصبا أعمی، كما لا یبحثون في التاریخ عن مجاهله ومتاهاته. وقد سعی هؤلاء في السنوات الأخيرة لأن یطرحوا تحكیماتهم المسبقة جانبا قدر الإمكان من خلال الأخذ بالأسالیب الجدیدة والنظرة النقدیة، محاولين التعامل مع تاریخ إیران القدیم تعاملا علمیا ونقدیا. ویعد الدكتور تورج دریائي من بین هؤلاء الباحثین. وقد أصدر أخيرا كتابه «ناگفته هاي امپراتوري ساسانيان» (خفایا الإمبراطوریة الساسانیة)، وهو من أحدث الكتب التي نشرتها مؤسسة «بارسه» ضمن سلسلة «هزاره ‌هاي دنياي باستان» (ألفیات العالم القدیم)، وقد ترجمه من الإنجليزية آهنگ حقاني ومحمود فاضلی بیرجندي.
ولد الدكتور تورج دریائي عام 1967 في طهران، وأمضی الدراسة الثانویة في إیران وطهران. وفي عام 1999، تخرج في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجليس حاصلا علی شهادة الدكتوراه. وهو الآن أستاذ في التاریخ والحضارة الإیرانیة بجامعة كالیفورنیا بأرواین. وقد حاز كتابه «إيران الساسانیة» جائزة الجمعیة البریطانیة لدراسات الشرق الأوسط عام 2010. ومن كتبه: «سقوط الساسانیین، الغزاة الأجانب، المقاومة الداخلیة وتصویر نهایة العالم»، «التاریخ والثقافة الساسانیة»، «الإمبراطوریة الساسانیة»، و«مدن إیران شهر (بلاد إیران)». هنا، لقاء معه على هامش كتابه الأخير:

* كیف بدأ اهتمامكم بتاریخ إیران القدیم؟ وما ضرورة هذا الاهتمام؟
- درست في مقتبل عمري في الیونان وكان والداي قد اصطحباني قبل ذلك إلی آثار تخت جمشید. وقد كان الحدیث یدور دوما خلال فترة زیارة الأماكن التاریخیة في الیونان عن قدوم الإیرانیین. ومن القضایا الغامضة التي كنت أواجهها هي أننا ماذا كنا نفعل هناك. فالیونان تبعد عن إیران آلاف الكیلومترات، وهو ما أثار فضولي لاستكشاف السبب. وما زلت أتذكر بعد مرور ثلاث وثلاثین سنة المكان الذي قیل عنه إنه تل دفن تحته الإیرانیون والتل الآخر الذي یرقد تحته الیونانیون. وعلی أي حال، فإن الحرب أمر غیر محبب.
* لماذا علینا - من وجهة نظركم - أن ندرس تاریخ الأمم السابقة، وخاصة تاریخ إیران القدیم الذي تفصله عنا قرون طویلة، بل إن هنالك بعض الاختلافات بیننا وبینه من حیث العادات والتقالید والفكر؟
- أری أن أسسنا الفكریة قد جرى وضعها علی مر التاریخ، وأننا قد بلغنا هذه المرحلة الآن. وأهمیة دراسة ماضینا لیس مصدرها المفاخر والفتوح التي لا تتعدی كونها من باب السباقات الغبیة، بل هي طریق یحدد تاریخ تحولنا الفكري والثقافي. فهنالك فاتحون مثل الإسكندر المقدوني، أو نادر شاه الأفشاري وغیرهما تسببوا في الدمار ولم ینشئوا أیة حضارة أو دولة منیعة. وأنا أری أن من یعرف تاریخه ووطنه فإنه سوف لا یخسر نفسه بسهولة أمام الآخرین والثقافات الأخرى. أنا أبدأ دوما محاضراتي حول تاریخ العالم القدیم بهذه العبارات: «إن الشخص الذي یجهل ما حدث قبله (التاریخ) سوف یبقی طفلا علی الدوام». وما یریده «سیسرو» من هذه العبارة أن من لا یعرف ماضیه، فإنه سوف یتصرف كالأطفال. إن علینا أن نعلم من أین أتینا وكیف وصلنا إلی هنا.
* فلنتحدث الآن عن كتابكم «خفایا الإمبراطوریة الساسانیة». لماذا اخترتم هذا العنوان لدراستكم؟ وما الخفایا التي رأیتموها والتي لم یكشف عنها حتى الیوم؟
- كان من المقرر أن یكون العنوان الأصلي للكتاب «أسرار الأسرة الساسانیة»، ولكن كان یبدو أن هذا العنوان یعاني مشكلة. وقد كان اسم الكتاب في ضوء إحدى المقالات التي كنت قد كتبتها حول بدایة الدولة الساسانیة وأردشیر بابكان وهي موجودة في هذا الكتاب، الذي یضم مجموعة مقالات كنت قد كتبتها باللغة الإنجلیزیة، وأنا أشعر بالسرور لكونها في متناول ید الناطقین بالفارسیة.
* یحظی الساسانیون بأهمیة من نوع خاص من حیث قدمهم والفترة التي حكموا خلالها إيران. ومن جهة أخری، فإنكم لم تغفلوا دراسة الألواح الطینیة، الأختام، المسكوكات، بل وحتى النقوش، فضلا عن دراسة النصوص والكتب. تری ما خصوصیة الساسانیین المهمة من وجهة نظركم؟
- تبنى الساسانیون فكرة «إیران شهر» أو (بلاد إیران) التي نستخدمها الآن حتى بعد مضي ما یقرب من ألفي سنة، كما أنهم أشركوا معهم في هذه الفكرة أتباع الأديان المسیحیة والیهودیة والزرادشتیة والشعوب المختلفة.. لقد أبدع لنا الساسانيون ثقافة ما تزال قائمة.
واستنادا إلی ما جاء في مقدمة الشاهنامه لأبي المنصوري، فإن بلاد إيران تمتد من نهر جیحون وحتى نهر الفرات. وأنا أری أن هذه الحدود لیست مجرد حدود جغرافیة، بل هي ثقافیة. وبالطبع، فإن هذه الثقافة اتسعت فیما بعد حتى ما وراء النهر أیضا، ونحن الیوم ما نزال نشهد الأثر الثقافي لإیران رغم تلك النزعة القومیة الكاذبة في آسیا الوسطی. واللغة لیست علی قدر كبیر من الأهمیة هنا، بل إن الثقافة من شأنها أن تسبقها.
* أنتم معنیون في دراساتكم بأن تسلطوا الأضواء علی تاریخ إیران إلی جانب تاریخ الیونان والهند والصین والعرب. فإلى أي مدی یمكن لتاریخ إیران القدیم، وخاصة تاریخ إیران الساسانیة، أن یكون متمیزا بین التواریخ الأخرى التي ذكرتها؟
- علي أن أقول إن التاریخ الساساني مهم بدوره ولم یخضع للدراسة بالشكل المطلوب وما تزال الدراسات في أول الطریق. ولكن ومن أجل أن یعرف تاریخ الحضارة الساسانیة بشكل أفضل (وخاصة في الغرب)، فإن من الواجب أن ندرس ونقارن تاریخ هذه الحضارة إلی جانب الحضارات المجاورة لها. ومن الواجب في إیران أیضا أن نقوم بدراسات تتجاوز حدودنا الثقافیة كي تتسع رؤیتنا أكثر.
* كانت هنالك دول مختلفة، أو بعبارة أخری بلدان وثقافات مختلفة في عصر الساسانیین تربطها علاقات ثقافیة جادة مع إیران. ما الإشارة إلى تأثیرها وتأثرها في عصر الحضارة الساسانیة؟
- كانت تربط إیران في العصر الساساني علاقات ثقافیة مهمة مع الدولة البیزنطیة، أو روما الشرقیة ومع الهند والصین. وقد تركت كل من هذه الحضارات آثارا مهمة علی الحضارة الساسانیة في العلوم والفلسفة والفن. ونحن معنیون عادة بدراسة نفوذ إیران في الحضارات الأخرى أو تأكیده. ولكننا نتعرف أیضا في مقابل هذا النفوذ الثقافي الإیراني علی نفوذ الثقافتین الهیلینیة والیونانیة في فلسفة مزدیسنا والطب والفن.
ونحن نطالع أساليب جدیدة من الهند في النصوص البهلویة والفارسیة فیما بعد. ومن الصین تستوقفنا المعتقدات الأسطوریة ورموزهم وفنونهم التي تركت آثارا مهمة علینا، ولكن علینا أن نتذكر أن الحضارة الناشطة في حالة تعاط دائم مع الحضارات الأخرى. وإلا لما كانت ناشطة ومتحركة ولما كتب لها البقاء.
* ذكرتم في قسم من الكتاب أنوشیروان بصفته ملكا مثالیا. فما مثالیة هذا الملك من وجهة نظركم؟
- یعد أنوشیروان من أهم الحكام في تاریخ إیران. ولكن، لیس بسبب حروبه وانتصاراته، بل لأنه استطاع مع أبیه أن یغیر إیران. فلقد دبت الروح في إیران من جدید من النواحي الاقتصادیة والعلمیة والفلسفیة والإداریة. وقد استلهم أنوشيروان في الحقیقة أفكارا جدیدة من الحضارات الأخرى (باسم التقالید طبعا) من خلال تأكید التقالید والموروثات وأحدث تغییرات مهمة في إیران. وفي الحقیقة، فإن إیران أصبحت في القرن السادس المیلادي من أقوی وأهم حضارات العالم، إذ مارس كسری أنوشیروان إشرافه علی كل الشعوب والأدیان لأول مرة في العصر الساساني.
* لا في شك في أن الشاهنامه تعد وثیقة هویة الإیرانیین، وقد ذكرتم في هذا الكتاب الشاهنامه بوصفها وثیقة تاریخیة. إلی أي مدی حاولتم أن تنظروا إلی الشاهنامه بوصفها وثیقة، وأن تظهروا الفردوسی بصفته مؤرخا استطاع تقديم تقرير عن التاريخ القديم للإيرانيين، وخاصة تاريخ الساسانيين؟
- تمثل الشاهنامه نصا حماسيا، والهدف منه استعراض تاريخ الإيرانيين. وأنا أرى أن بإمكاننا أن نستخرج من الشاهنامه معلومات مهمة حول العادات والتقاليد والأفكار في إيران، ولكن لا يمكننا الاستناد إليها بصفتها نصا تاريخيا بحتا اللهم إلا فيما يتعلق بعهد قباد وكسرى أنوشيروان (حينما كتب خداينامه «كتاب الملوك»)، فإن بالإمكان الاستناد إلى الشاهنامه كنص تاريخي مهم والتعرف على رؤية الساسانيين.
* كيف تنظرون إلى دراسة التاريخ القديم في عالمنا المعاصر.. وما المستقبل الذي تتصورونه لمثل دراسات كهذه؟
- لقد أصاب الفتور دراسة التاريخ القديم في المجتمع المعاصر، وخاصة في أمیركا. وسبب ذلك واضح. فأمیركا تمثل مجتمعا شابا ينظر إلى المستقبل. وبالطبع، فإن هذا الموضوع سوف يسبب لهم بعض المشاكل على المدى البعيد.
وأما في بلدان مثل إيران واليونان ومصر، فإن قضية الهوية تقود الشعوب إلى تاريخها الماضي. وللأسف، فإن تاريخنا قد جرى تسييسه ولا يمكن التعامل مع الماضي بسهولة. فهنالك فريق يحاول نفي تاريخ ما قبل الإسلام أو اعتباره منتحلا بهدف التهجم عليه. ويريد فريق آخر العيش في القرن السادس قبل الميلاد في عهد قورش الكبير، بينما يريد البعض أن يحيي القرن السادس الميلادي في الجزيرة العربية. والموضوع هو التفاخر دون مبرر بالماضي وتضخيم أنفسنا من أجل التعويض عن النواقص وخيبات الأمل التي نواجهها اليوم. وأنا تعجبني التجربة الإيطالية في هذا المجال. فنحن نعيش في القرن الحادي والعشرين وعلينا التفكير في المستقبل، ولكن يجب أن نتعلم من التاريخ ونفتخر كذلك بعظمة حضارتنا لكن ضمن الحدود المعقولة وبكل تواضع.

* إعداد «الشرق الأوسط» بالفارسية (شرق بارسي).



العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

شوقي ضيف
شوقي ضيف
TT

العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

شوقي ضيف
شوقي ضيف

«ومن مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف، فيقع التفنن في شهوات البطن من المأكل والملاذ والمشارب وطيبها. والأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد. وإذا فسد الإنسان في قدرته، ثم في أخلاقه ودينه، فقد فسدت إنسانيته وصار مسخاً على الحقيقة».

لم أعثر على استهلال لهذه المقالة التي تتناول شؤون الحب والعشق في العصر العباسي أفضل مما كتبه ابن خلدون في مقدمة «كتاب العبر»، الذي رافق بالنقد والتحليل انتقال المجتمعات البشرية من طور إلى طور. ذلك أن أي قراءة معمقة لمآلات الحب وتعبيراته، لا يمكن أن تتجاهل الخلفية العقائدية والسياسية للسلطة الجديدة، إضافة إلى النسيج الفسيفسائي المعقد للمجتمع العباسي. ففي حين شكل العرب العمود الفقري للدولة الأموية، وطبعوها بطابعهم على المستويات كافة، بدت التركيبة السكانية للدولة العباسية خليطاً متنوعاً من الإثنيات والأعراق التي شملت، إضافة الى العرب، كلاً من الفرس والترك والروم وغيرهم. وإذ انخرطت هذه الإثنيات في نسيج الدولة الفتية، وصولاً إلى المشاركة الفاعلة في نظام الحكم، فإن كلاً منها قد أدخل معه عاداته وتقاليده، بحيث اختلط حابل المذاهب والمعتقدات بنابل الحياة اليومية. ومع الغلبة الواضحة للفرس في عقود الخلافة الأولى، كان لا بد للثقافة الفارسية أن تتغلغل في مفاصل ذلك المجتمع المترع بالتباينات، وأن تعمل على وسمه بطابعها الخاص، بما يتضمنه ذلك الطابع من عناصر وتقاليد محلية ما قبل إسلامية.

طه حسين

وإذا كان العصر العباسي الأول هو عصر التحولات الكبرى فهو في الوقت ذاته عصر المفارقات بامتياز، حيث تنافست على الأسبقية حركات التجديد والمحافظة، العقل والنقل، الفلسفة والفقه، كما تعايشت نزعات الزهد والتنسك مع نزعات التهتك والاستهتار. ولعل من الضرورة بمكان الإشارة إلى أن السلطة الحاكمة التي أحاطت نفسها برعيل حاشد من الشعراء والفلاسفة والفقهاء وعلماء الكلام والمترجمين، هي نفسها التي شرعت الأبواب واسعة أمام شتى صنوف اللهو والمجون واصطياد الملذات، كما لو أنها أرادت إرساء توازنٍ ما، بين روح الحضارة وجسدها، أو بين أثينا المعرفة وروما الرغبات.

ومع أن باحثين كثراً قد أسهبوا في تناول تلك الحقبة بالدراسة، فقد حرص طه حسين على رد ظاهرة العبث وطلب الملذات إلى عاملين اثنين، يتعلق أولهما بما تستدعيه الحضارة من مظاهر الترف والمجون، فيما يتعلق ثانيهما بدور العقل النقدي والفلسفي في زحزحة اليقين من مكانه، الأمر الذي دفع البعض إلى زرع بذور الشك في الثوابت، والحث على المجون والحياة اللاهية. وليس من الغريب تبعاً لحسين «أن يظهر في لهو هؤلاء وعبثهم، كل من مطيع بن إياس وحماد عجرد وابن المقفع ووالبة بن الحباب، إنما الغريب أن يخلو منهم ذلك العصر، ولا يظهر فيه سوى الفقهاء وأهل الزهد والنساك».

كما لا بد من ملاحظة أن التفاوت الاقتصادي والاجتماعي البالغ بين الحواضر الكبرى، ومناطق الأطراف الفقيرة، قد انعكس تفاوتاً مماثلاً في مراعاة سلّم القيم وقواعد السلوك وأحكام الدين. ففي حين تحولت عاصمة الخلافة، في ظل الرخاء والازدهار اللذين رافقا اتساع الدولة، إلى برج بابل جديد من الهويات والرطانة اللغوية وأشكال الفسق، كان ثمة في أحيائها الفقيرة، وفي الأطراف المتباعدة للإمبراطورية، من يتمسك بأهداب الفضائل والاعتدال السلوكي وأحكام الدين الحنيف. وإذا كان تصيد الملذات قد بات عنوان الحياة في بغداد في العصر العباسي الأول، فاللافت أن الخلفاء أنفسهم قد انخرطوا في هذه الورشة الباذخة، دامغين إياها بالأختام الرسمية، ومحولين قصور الخلافة إلى مرتع للشعر والمنادمة والغناء. وكان من الطبيعي تبعاً لذلك أن يحتفي المحظيون من الشعراء والمغنين بالحياة الجديدة أيما احتفاء، بعد أن وفرت لهم الإقامة في كنف البلاطات كل ما يحتاجونه من متع العيش وأطايبه وملذاته.

ومع اتساع رقعة الإمبراطورية المنتصرة، استطاعت مدينة المنصور أن تجتذب إلى حاناتها ودور لهوها أعداداً كبيرة من الجواري والقيان، سواء اللواتي جيء بهن كغنائم حرب، أو اللواتي اجتذبهن طوعاً ازدهار المدينة ورخاؤها المتسارع. وقد ازدهرت في تلك الحقبة تجارة الرقيق ودور النخاسة والقيان إلى الحد الذي جعل أبا دلامة يحث الشعراء الباحثين عن الربح على ترك الشعر والاشتغال بالنخاسة، كما يظهر في قوله:

إن كنتَ تبغي العيش حلواً صافياً

فالشعر أتركْهُ وكن نخّاسا

وهو عين ما فعله أبو سعيد الجزار في حقبة التدهور العباسي اللاحق، حين تأكد له أن الشعر، بخاصة الذي لا يمتهن التكسب في البلاطات، لا يطعم خبزاً ولا يغني من جوع، فاختار أن يهجره ويعمل في الجزارة لكي يتمكن من توفير لقمة العيش. وحين عُوتب على فعلته قال:

كيف لا أهجر الجزارة ما عشتُ

حياتي وأهجر الآدابا

وبها صارت الكلابُ ترجّيني

وبالشعر كنتُ أرجو الكلابا

على أن حرص الخلفاء والوزراء والنخب المحيطة بهم، على الإعلاء من شأن الأدب والفن، جعلهم يتطلبون من الجواري والقيان، مواهب ومواصفات لا تقتصر على شرطي الجمال والأنس، بل تتعداهما إلى الثقافة والاطلاع وحفظ الشعر، وصولاً الى نظمه. وهو ما حققته بشكل لافت كل من عريب جارية المأمون، ودنانير جارية البرامكة، وعنان جارية الناطفي، وأخريات غيرهن.

وحيث بدا الشعراء المشمولون برضا السلطة، وكأنهم قد أصابوا كل ما يتمنونه من الإشباع الجسدي، بات شعرهم تأريخاً شبه تفصيلي للحظات عيشهم وطيشهم وفتوحاتهم الغرامية، ولم يترك لهم الواقع المستجد، عدا استثناءات قليلة، ما يسوغ الحديث عن لوعة الحب أو مكابدات الفراق. وفي ظل هذا العالم الذي استقى منه مؤلفو «ألف ليلة وليلة» العديد من الليالي المضافة، لم يكن مستغرباً أن يفضل الشعراء والكتاب، القيان على الحرائر، ليس فقط بسبب جمالهن المغوي والمتحدر من مساقط مختلفة، بل لأن الجواري بخضوعهن الكامل لهم كن يشعرنهم بالخيلاء والاستحواذ الذكوري ومتعة التملك.

وإذا كان من التعسف بمكان وضع نزعات الفسق برمتها في سلة الشعوبية، فإن تجاهل هذا العامل والقفز عنه لن يكون إلا نوعاً من قصر النظر المقابل. ولا حاجة إلى تكرار المقطوعات والأبيات التي نظمها أبو نواس وغيره في ذم العرب والغض من شأنهم، بوصفهم نبتاً بدوياً غارقاً في التصحر، لا تمكن مقارنته بالمنجز الحضاري الفارسي. كما أننا لا نستطيع التغاضي عن الجذور الفارسية لنزعات الزندقة والمجون التي تجد تمثلاتها الأصلية في المجوسية والمانوية والمزدكية، حيث النيران التي لا تنطفئ لرغبات الجسد وملذات الوجود الأرضي. ولعلنا نجد في النقد العربي القديم والحديث، بدءاً من الجاحظ وأبي الفرج الأصفهاني وصولاً إلى شوقي ضيف، من يلقي المسؤولية الرئيسية عن «الهستيريا» الانحلالية التي اخترقت المجتمع العباسي في صميمه، على عاتق الفرس الراغبين في التقويض الكامل للحكم العربي. إلا أن من التعسف بمكان رؤية الأمور من الزاوية الشعوبية دون سواها من الزوايا. وإذا كان علينا الأخذ في الحسبان المصادر الفلسفية الأبيقورية لهذه الظاهرة، خصوصاً وأن العرب قد ذهبوا بعيداً في التفاعل مع الفلسفات اليونانية المختلفة التي وصلتهم عن طريق الترجمة، فينبغي أن نتذكر في الوقت ذاته أن المغنين والشعراء لم يكونوا بأجمعهم من الفرس. فمقابل بشار وأبي نواس وابن المقفع، كان في الجوقة عرب كثيرون، من أمثال زرياب ووالبة ومطيع بن إياس والحسين بن الضحاك وحماد عجرد ومسلم بن الوليد.

ومع ذلك فقد كان من السهل على الكتاب المتعصبين للعرب أن يضعوا هؤلاء جميعاً في خانة الشعوبية، أو يردوا بعضهم إلى أصول فارسية بناءً على الشكل وملامح الوجه. ففي ذروة التهاجي المتبادل بين أبي العتاهية ووالبة بن الحباب، لم يجد الأول ما يهجو به الثاني سوى أنه في شقرته البادية وسحنته البيضاء، أشبه بالموالي المدسوسين على العرب، فيسأل متعجباً:

أترون أهل البدو قد مُسخوا

شقراً، أما هذا من المنكر؟