تدور «مخاطر الدولة» حول تقييم الآفاق الاقتصادية للدولة بشكل شامل، وذلك ضمن الأرضية القانونية والتربة الجيوسياسية بمعناها الأوسع التي لا يستطيع المستثمرون المؤسسون من دونها تنمية أصولهم. وتدفع حكومة قطر في الوقت الراهن ثمناً غير ملائم لقاء الاعتقاد أن بوسعها وإلى الأبد تحدي قوانين الجاذبية الجغرافية الاقتصادية.
دخلت هذه الدولة الصغيرة دائرة الاهتمام البريطاني للمرة الأولى في أوائل القرن التاسع عشر، عندما اضطر الأسطول الحربي البريطاني إلى قصف العاصمة الدوحة لوقف الأعمال المستمرة من القراصنة القطريين، الذين كانوا يهددون التجارة الأنغلو - هندية في الخليج. وصارت قطر بعد ذلك مستعمرة تركية ثم مستعمرة إنجليزية صغيرة حتى عام 1971، ولقد ولد كثير من أعضاء النخبة القطرية الحاكمة بالفعل مواطنين بريطانيين، وهي الحقيقة التي لا تزال ماثلة في أذهان الزمرة الثقافية السياسية في البلاد والهندسة المعمارية الحاكمة لبرج شارد الزجاجي وغيره من الأصول المهمة في وسط لندن، قلب العاصمة الإمبريالية السابقة!
وإثر استخدام دبلوماسية دفاتر الشيكات على نطاق لم يسبق له مثيل، تقدمت قطر لملء الثلمة الهائلة التي تكونت في الخليج العربي في أعقاب الغزو الأميركي للعراق عام 2003 ولقد ساعدهم في ذلك عصابة المحافظين الجدد المتواطئين وصناع السياسات الجدد في واشنطن ولندن، الذين لم يروا أي غرو في دور الدوحة المستمر في إسناد الراديكالية الإسلاموية وتعزيزها من مانشستر وحتى مانيلا، وعلاقاتها شديدة السرية والغموض مع النظام الإيراني، والفصائل الراديكالية الفلسطينية المعارضة لعملية السلام.
غير أن السياق الجيوسياسي قد تغيّر بصورة كبيرة خلال الربع الأول من عام 2017 الحالي، مع صعود جيل جديد من السعوديين تحت قيادة ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الرجل القوي في مجلس التعاون الخليجي، وبمزيد من الأهمية، وصول الإدارة الأميركية الجديدة إلى البيت الأبيض غير المستعدة إلى التسامح مع جرائم التخريب الآيديولوجي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بل وخارجها كذلك.
ووفق اعتيادهم المروق عن قوانين الجذب السياسية والمالية، أُخذ حكام الدوحة بالمفاجأة، عندما أعلنت كل من المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، ومصر، والبحرين عن قرارها بقطع العلاقات مع قطر في الرابع من يونيو (حزيران) الحالي، ووقف جميع أشكال التحركات البرية والجوية والبحرية مع الدول الصغيرة المحاصرة. ومنذ ذلك الحين، كان على قطر اللجوء إلى الواردات باهظة التكاليف القادمة من إيران وسلطنة عمان للتعويض عن هذا التحرك، ومثل هذه التصرفات القطرية النفعية غير العملية غير مقدر لها الاستمرار على المدى البعيد، إذ إن إيران نفسها خاضعة لحزمة قاسية من العقوبات الاقتصادية الدولية، ولا تملك قطر في الوقت نفسه البنية التحتية البحرية الحديثة التي كانت قد سهلت عليها تحمل آثار الصدمات القاسية. إن ما نشهده الآن هو معركة بين كبار منتجي النفط والغاز الطبيعي على مستوى العالم في الوقت الذي تنهار فيه أسعار الوقود الأحفوري في المجالات كافة.
تستغل كل من تركيا، وإيران المنبعثة من جديد، من جانبهما، الأزمة الراهنة بدهاء خبيث للمضي قدما في تحقيق الغايات السياسية المتميزة، وإعادة بناء الترسانة العسكرية والاقتصادية على طول «الجناح الشرقي» من شبه الجزيرة العربية من سلطنة عمان وحتى جنوب العراق، ذلك الجزء من العالم الذي أجبروا من قبل على مغادرته عنوة على أيدي البحرية الملكية البريطانية في عام 1917، أي منذ مائة عام على وجه التحديد. إن رقعة الشطرنج المحلية تزداد ازدحاماً بكثير من اللاعبين المتعطشين للمكاسب، في الوقت الذي تبدو فيه المملكة المتحدة والولايات المتحدة منشغلتين ذاتيا وقد فقدتا الاهتمام كلية بذلك الجزء من العالم، وهذا من المؤشرات التي لا تبشر بخير قط بالنسبة للاستقرار طويل الأمد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
* المدير العام لمجلس صناديق التقاعد العالمي عضو المجلس الاستشاري لمرفق البنية التحتية في البنك الدولي
الأزمة القطرية و الجناح الشرقي للعالم العربي
الأزمة القطرية و الجناح الشرقي للعالم العربي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة