كوربين... من المقاعد الخلفيّة للبرلمان إلى النجم السياسي الأول

«المرشح» الذي ملأ الدنيا وشغل الناس

كوربين أثناء حملته الانتخابية
كوربين أثناء حملته الانتخابية
TT

كوربين... من المقاعد الخلفيّة للبرلمان إلى النجم السياسي الأول

كوربين أثناء حملته الانتخابية
كوربين أثناء حملته الانتخابية

أثار الصعود المتسارع لشعبيّة حزب العمّال البريطاني المعارض، وأداؤه المبهر في الانتخابات العامة المبكرة الأخيرة دهشة المتابعين داخل بريطانيا المؤيدين والمعارضين معاً، وعبر العالم. فبينما كانت رئيسة الوزراء الحاليّة تتمتع بأغلبيّة مريحة في البرلمان السابق يمنحها صلاحية الاستمرار وحزبها الحاكم - حزب المحافظين - في السلطة حتى نهاية العقد تقريباً، اختارت أن تدعو لانتخابات مبكرة، مستفيدة من تراجع شعبية حزب العمال المعارض إلى مستويات متدنيّة قياسية وفق استطلاعات الرأي. كانت وجهة نظر فريق مستشاريها - الذين أقيلوا قبل أيام - بأن الفرصة التاريخيّة سانحة حينها للقضاء المبرم على حزب العمال ودفنه إلى الأبد بالاستفادة من صراع الأجنحة داخله، وصراع البقاء الذي كان يعيشه جيريمي كوربين، زعيم الحزب.
لكن حساب الحقل وفق فريق ماي التي خرجت من عباءة التاتشرية النيوليبرالية لم يوافق حساب البيدر. فخلال أسابيع قليلة من انطلاق الحملات الانتخابيّة، بدأت استطلاعات الرأي التي تحدثت عن تقدم المحافظين بأكثر من 20 نقطة مئوية تحولت تدريجياً لمصلحة العمال حتى وصلت في الأيام الأخيرة للانتخابات إلى ما يشبه نقطة التعادل. وسرّب أعداء كوربين داخل حزبه مانيفستو حملته الانتخابية لضرب مصداقيته، فكان أن تحول إلى برنامج عمل شديد الجاذبيّة للطبقة العاملة في المملكة المتحدة، كما جرت الرياح بما لا تشتهي السفن بالنسبة لصحافة اليمين التي شنّت حرباً شعواء انتهت كلها إلى تلميع صورة الرجل وفقدان تلك الصحف لمصداقيتها عند الجمهور. وهكذا عندما جرت الانتخابات أخيراً، فقدَ الحزب الحاكم أغلبيته البرلمانية، وذهب مضطراً لحفظ ماءِ سلطته لاهثاً وراء تحالف مع حزب آيرلندي يميني مغمور للتمسك بالسلطة بأغلبيّة هشة، بينما حقق حزب العمّال أفضل نتيجة له منذ عام 1945 - عندما فاز بالانتخابات العامة حينها - وانتزع مرشحو الحزب عشرات المقاعد من المحافظين وغيرهم، بل هم فازوا بتمثيل منطقة كينغستون وتشيلسي في قلب لندن الأثرياء، وأصبح جيريمي كوربين المرشح الأوفر حظّاً لقيادة جبهة تقدميّة تتلقف السُّلطة من المحافظين إن هي أفلتت منهم لأي سبب.
لم تكُ تلك اللحظة في تاريخ السياسة البريطانيّة نتاج نوع من السحر أو حتى سوء الحظ للمحافظين. لقد كانت تتويجاً لمسيرة فريق صغيرٍ متماسك داخل (غابة) حزب العمال الشائكة يقوده جيريمي كوربين، وهو حقق تراكم انتصارات مذهل في إطار صراعات حزبه خلال السنتين الأخيرتين من خلال خلية عمل نابهة غاصت في تفهمٍ عميقٍ لتحولات مزاجات الناخبين البريطانيين وأساليب التأثير عليهم عبر أجواء النيو ميديا وتكنولوجيات التواصل الحديثة.
كتاب «المرّشح» للصّحافي البريطاني أليكس نونز الذي صدر حديثاً في لندن يقدّم - ما هو خارج فضاء الدراسة الأكاديميّة البحتة - رواية شديدة التشويق كأنها عمل أدبي مزركش بالخيال لسيرة صعود جيريمي كوربين العصيّة على التصديق: من مجرد نائب راديكالي دائم عبر الدورات الانتخابيّة لمجلس العموم البريطاني، إلى أهم زعيم لحزب العمّال منذ أيام الرّاحل توني بين (الأب الرّوحي لكوربين). ورغم أن الكتاب صدر أثناء الحملة الانتخابيّة الأخيرة - وبالتالي فهو لا يغطي المرحلة -، فإنه مرجع أساسي لفهم نجم الطبقة العاملة الصاعد وبنية الحركة التي يقودها.
يذهب نونز بعيداً ليلقي بالضوء على أسباب يجادل أنها تفسّر تلك الأحداث التي أعادت تشكيل العمل السياسي في بريطانيا المعاصرة، وستكون دليل عمل لكل الأحزاب السياسيّة الطامحة إلى السلطة لا سيما الحركات العماليّة واليساريّة التي تنتمي لمدرسة الاشتراكيّة الديمقراطية في أوروبا.
وبالنسبة لنونز فإن ظاهرة كوربين جاءت نتيجة إحساس عميق بالغضب في أوساط ناشطي حزب العمال وجمهوره من الأداء الباهت والمركزيّة غير المبررة لتيار جناح اليمين (جماعة توني بلير) وانخراط الأخيرين التام في مشاريع الحروب الأميركية بالشرق الأوسط، وتمريرهم للسياسات النيوليبراليّة الموروثة منذ أيام ثاتشر - رئيسة الوزراء البريطانيّة الرّاحلة - وسوء إدارتهم إبّان الأزمة الماليّة العالميّة التي ضربت العالم عام 2008 وبقيت مفاعيلها حتى الوقت الراهن. وبالنسبة لنقابات العمّال التي تشكل جزءاً مهماً من الحزب - وهي المتّجهة يساراً بحكم الضغوط الاقتصادية وسياسات التقشف التي اعتمدتها السلطات في مواجهة مفاعيل أزمة الـ2008 - وكذلك بالنسبة لتيار يسار الحزب والقواعد الشعبيّة، فإن تلك القيادة اليمينيّة اعتبرت تمثلاً لأسوأ الشياطين، وسرّ نكبات الحزب المتتالية.
تسببت تلك الأجواء المسمومة بنوعٍ من حرب أهليّة داخل حزب العمال، مما دفع بعض نوابه الوسطيين في البرلمان إلى قبول ترشيح كوربين لمنصب القيادة بعد الانتخابات العامة عام 2015 - التي كانت منحت المحافظين أغلبية مريحة على حساب العمال بالذات - وذلك كنوع من محاولة أخيرة للمحافظة على وحدته في مواجهة خطر الانشقاق من خلال السماح ليسار الحزب بتقديم مرشح لهم. كانت تلك نوعاً من مناورة فارغة، إذ إن كتلة نواب الحزب في البرلمان تعاطت قناعة شبه تامة بأن كوربين شخصية غير قابلة للنجاح في الانتخابات الداخليّة، ناهيك عن الانتخابات العامة. يمين الحزب كان قد دفع وقتها باتجاه تغيير أنظمة الانتخاب الداخليّة بحيث يمنح كل عضو صوتاً واحداً بينما عارضها يسار الحزب بشدة لإبقاء الثقل بيد النقابات. وكحلم سوريالي عجيب، كان ذلك التغيير بالأنظمة بالذات هو ما جعل فوز كوربين بمنصب القيادة ممكناً. فالرجل ببساطته وصدقه وانحيازه لقضايا المواطنين العاديين وهواجسهم كان أكثر قرباً لقواعد الحزب الشعبيّة - ولاحقاً بالطبع لقطاع عريض من الناخبين البريطانيين - مقارنة بأولئك المتأنقين المتحذلقين من يمين الحزب الطامعين بالوصول إلى مناصب السلطة من دون كبير اهتمام بهموم ومتاعب المواطنين الحقيقيّة.
يَصِفُ نونز المزاج في القاعة الكبيرة، حيث احتشد أعضاء الحزب لمعرفة نتائج تلك الانتخابات الداخليّة لمنصب الرئيس التي تقدم إليها ثلاثة من عتاة جناح اليمين في مواجهة مرشح اليسار، النائب جيريمي كوربين. قرأ إيان ماكنيكول السكرتير العام الأرقام النهائية التي حصل عليها المرشحون فانقسمت القاعة بين صراخ مبتهج من بعض أجزائها، بينما خيّم صمت قبورٍ على الأجزاء الأخرى. لقد حدثت المعجزة، وفاز كوربين بأغلبية كبيرة لتبدأ يومها رحلته نحو نجوميّة قد تنتهي به قريباً رئيساً لوزراء الإمبراطوريّة العجوز.
يقدّم الكاتب الكثير من التفاصيل الفطينة عن يوميات العمل في فريق كوربين بقيادة اليساري المخضرم جون ماكدونيل، وعن نجاح ماكينة الحزب ببناء وجود شديد الفعاليّة على الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وبين قطاعات الشباب، ومقابلات مع الأشخاص الذين كان لهم دور في قصة الصّعود المذهلِ هذه، وكذلك توصيف لقدرة كوربين المثيرة للإعجاب على التكيف في تقديم صورته العامة للجمهور من نائب متمرد في أجواء السلطة البريطانيّة الحاكمة، إلى زعيم ذي شعبية تكاد أغلبيّة من البريطانيين ترى فيه أفضل رئيس وزراء ممكن للبلاد، لا سيّما بعد تلبد سماء المملكة بالأجواء السياسيّة والاقتصاديّة الصعبة.
«المرشح» يتجاوز حد السيرة السياسيّة لجيريمي كوربين زعيم اليسار البريطاني الجديد، ليشكل أبجدية لا غنى عنها لكل راغب بفهم تحولات الحياة السياسية في المملكة المتحدة بشكلها المستحدث. لقد غيّر كوربين - وفريقه - اللعبة بالكامل.



«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.