ماذا بعد؟ هذا هو السؤال الذي طرحه صناع القرار السياسي والمحللون في العواصم الكبرى خلال الأيام الثلاثة الماضية، عن النظر في قرارات قطع العلاقات الدبلوماسية بين الدول العربية وقطر، ورغم أنه لا أحد يعرف ما قد يخفيه المستقبل، فإن هناك ثلاث نقاط واضحة تماماً.
النقطة الأولى تتعلق بأن الأزمة الجديدة ليس من المرجح أن تتعثر من تلقاء نفسها. والأسباب التي ذكرتها كل من السعودية والإمارات والبحرين ومصر بشأن قرار عزل دولة قطر، هي أسباب حيوية للغاية بالنسبة لاعتبارات الأمن القومي والحرب الموسعة ضد الإرهاب، التي من المقترح أن يشنوها بالتحالف مع الديمقراطيات الغربية، والتي سوف تتخذ ما يناسبها من الغطاء الدبلوماسي المطلوب. ولكن ما يحتاجون إليه فعلا هو إعادة التفكير بالأساس في الاستراتيجية الوطنية في قطر، والتخلي عن وربما عكس السياسات الرئيسية التي أرستها الدولة وتابعت العمل وفقا لها منذ فترة التسعينات.
ويحاول بعض المحللين في الغرب مقارنة الأزمة الحالية مع تلك الأزمة التي تضمنت قطر أيضا، والتي شهدتها المنطقة قبل ثلاث سنوات. وفي ذلك الوقت، تمكنت قطر من إعادة نسج سبيلها مرة أخرى داخل المجال الإقليمي، مع تغيير كامل للشخصيات عند أعلى مستوى من القيادة السياسية في البلاد.
ولكن هذه المرة، رغم كل شيء، فإنه ليس هناك ضمان بأن مثل هذا التعديل الكاسح سوف يكون له مكان على المائدة السياسية في المنطقة، وإن كان كذلك، فمن غير المؤكد أن ينتج الغاية المطلوبة ويؤدي إلى نهاية الأزمة الراهنة. والنتيجة الأكثر واقعية تتمثل في إعادة توجيه الاستراتيجية الوطنية القطرية صوب الاتجاهات المرغوبة لدى القوى العربية التي تواجهها الدوحة.
ولإسناد طموحاتها الوطنية المتمثلة في تجاوز مستوى الثقل الإقليمي الحالي للدوحة، وضعت قطر استراتيجية ثلاثية الأبعاد، تلك التي حققت بعض النجاح في بادئ الأمر، ولكنها دفعت بها الآن نحو مياه الأزمات العميقة.
والعنصر الأول لهذه الاستراتيجية يتألف من إقامة روابط وثيقة مع القوى الإقليمية والعالمية الرئيسية من خلال الاستثمار، وتحركات القوة الناعمة، وفي بعض الحالات تصل إلى درجة دفع الأموال لبعض المؤسسات أو الأفراد. واليوم، لدى قطر استثمارات في أكثر من 50 دولة حول العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية، والمملكة المتحدة، وألمانيا، وفرنسا.
والجانب الأكثر دراماتيكية من هذه الاستراتيجية يتمثل في دعوة الولايات المتحدة الأميركية إلى نقل قيادتها العسكرية الوسطى إلى قطر، بعدما طلبت الرياض مغادرة مقر القيادة الأميركية أراضيها. وفي ذلك الوقت، تفاخر وزير خارجية قطر الشيخ حمد بن جاسم بأن قطر تمكنت أخيرا من «جلب الشرطي إلى المنزل» لضمان أقصى درجات الأمن والسلامة.
ومع ذلك، لم يؤد هذا الموقف إلى إظهار دعم حكومات البلدان المعنية للأمر. ولم تكن القوى الغربية ولا حتى تركيا، التي جذبت جانبا كبيرا من الاستثمارات القطرية، على استعداد لأن تأخذ جانب الدوحة في الوضع المعقد الحالي. وليس السبب عصيا على الفهم: لا تتمتع قطر بصداقات حقيقية ووثيقة في مجالها الجغرافي الاستراتيجي الطبيعي، والمعروف باسم «العالم العربي».
والعنصر الثاني للاستراتيجية القطرية يتمثل في تحويل قطر إلى نقطة الضياء المشعة في قلب العالم العربي، الذي كابد قرونا طويلة من الظلام التاريخي. فلقد نجحت قطر في استضافة كثير من المؤتمرات الدولية، واستحدثت عددا من الإصلاحات الداخلية «التجميلية»، وفرضت نوعا من العلاقات الفعلية مع إسرائيل. وجذبت الدوحة كذلك فروعا لعدد من الجامعات الغربية الراقية، والمتاحف العالمية الكبرى، وعملت على تمويل المشروعات المشتركة في مجالات الثقافة، والعلوم، والإنسانيات، والتي أصبحت السمة المميزة للمظهر الدولي لقطر، مما أدى إلى نجاحها في تأمين استضافة دورة كأس العالم لكرة القدم في عام 2022.
ومع ذلك، فإن هذه الاستراتيجية، مرة أخرى، لم تسفر عن النتائج المرجوة. إذ إن الجامعات الغربية التي افتتحت فروعا لها في قطر لم تصنع أي شيء يُذكر في تنمية القاعدة العملية والأكاديمية الأصيلة في البلاد. وأغلب أعضاء هيئات التدريس في هذه الجامعات، وأغلب الطلاب والدارسين كذلك، ليسوا من المواطنين القطريين. وحتى الآن، لا يوجد أي دليل على أن النخبة الأكاديمية، والفكرية، والثقافية، والرياضية العالمية على استعداد فعلي للتعبئة لصالح قطر في خضم الأزمة الحالية.
والعنصر الثالث من عناصر هذه الاستراتيجية كان التودد إلى الجماعات الإسلامية، لتصل في بعض الحالات، إلى استضافة وتوفير التمويل السخي للغاية إلى بعض الجماعات الإسلاموية من جميع المناحي والتوجهات، وذلك لغرضين: أولهما عدم استهداف قطر داخليا، وفي بعض المناسبات، استخدام النفوذ القطري لدى هذه الجماعات في ممارسة الضغوط على الخصوم الحقيقيين أو المتوهمين في المنطقة العربية. وبالتالي، وفرت قطر المجال الواسع لجماعة الإخوان المسلمين المصرية المحظورة، والذي تمكنت من خلاله من الدعاية المستمرة لرسالتها، ولا سيما ضد حكومة الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك.
وفي الأثناء ذاتها، تم تطوير قناة «الجزيرة» الفضائية لتوجيه رسائل ودعايات الجماعات الراديكالية، بما في ذلك تنظيم القاعدة الإرهابي، تحت قيادة زعيمه الأسبق أسامة بن لادن، والمؤتمر الشعبي الإسلامي الشهير بقيادة زعيمه المعروف حسن الترابي.
وكانت قطر هي الدولة الوحيدة التي استضافت السفارة غير الرسمية لحركة طالبان الأفغانية المتمردة، في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001 على الولايات المتحدة الأميركية.
كما نجحت قطر في إقناع الاتحاد الأوروبي بتوفير التمويل الجزئي إلى ما يسمى في أوروبا بمجلس الفتوى، الذي يترأسه الداعية التلفازي الشهير في جماعة الإخوان المسلمين الشيخ يوسف القرضاوي.
كما مولت قطر بصورة جزئية أيضا سلسلة من المنافذ الإعلامية، وغيرها من العمليات الأخرى التي أطلقها النشطاء المنفيون ضد كثير من البلدان العربية، بما في ذلك الجزائر ومصر.
والأهم من ذلك، ربما، عملت قطر بمنتهى الجدية للتودد إلى الجمهورية الإسلامية في إيران، والتي حافظت معها على قناة اتصال مفتوحة مع فروع «حزب الله» اللبناني، الذي يعمل تحت قيادة طهران في لبنان والعراق ودول أخرى.
واستغلت قطر نفوذها لدى بعض الجماعات السورية المسلحة، بما في ذلك «جبهة النصرة»، بغية التفاوض على إطلاق سراح أكثر من 30 جندياً إيرانياً كانوا قيد الاعتقال لدى قوات المعارضة المناوئة لنظام بشار الأسد في سوريا. كما لعبت قطر دوراً كبيراً في المساعدة على إعادة جثث 13 ضابطاً من قوات النخبة الإيرانية، الذين لقوا حتفهم في خان طومان وتركهم زملاؤهم في الشوارع وفروا.
وفي العام الماضي، ذهبت قطر إلى ما هو أبعد من ذلك، عندما وقّعت على اتفاق أمني متبادل مع طهران يتيح لقوات الجمهورية الإسلامية العمل داخل المياه الإقليمية القطرية، الأمر الذي في ظاهره يبدو ضمن مساعي مطاردة المهربين والإرهابيين!
ومع ذلك، فإن العنصر الاستراتيجي الأخير المشار إليه لم يجلب الثمار المنتظرة من ورائه. فلقد استخدمت طهران الغطاء القطري في خلق خلايا نائمة وعميقة في الداخل القطري ذاته، وهي الحقيقة التي أقرها القائد الأسبق لقوات الحرس الثوري الإيراني الجنرال محسن رضائي، الذي أعرب يوم الاثنين الماضي عن استعداده لمساعدة القطريين.
خضعت الاستراتيجية الكبرى، التي أرسى دعائمها وأدخلها حيز التنفيذ الفعلي أمير البلاد السابق الشيخ حمد بن خليفة، الحاكم السابق لدولة قطر، للاختبار على نطاق كبير منذ عقدين من الزمان تقريبا. ولقد جلبت نتائج طفيفة جداً للمشيخة القطرية في صورة اعتراف «اسمي وصوريّ» دولي. ورغم ذلك، فإن بعض المحللين يعتقد أن الحاكم السابق لقطر قد فشل في بلوغ هدفه الرئيسي، والذي كان يرتكز بالأساس على ضمان أمن قطر على المدى البعيد. بدلا من ذلك، دفع الأمر برمته قطر نحو المشاركة في مغامرات سياسية لا يمكن الاستهانة بها بكل بساطة، ناهيكم عن التحكم فيها وإحكام السيطرة عليها.
لقد حاولت قطر أن تكون شيئاً آخر غير نفسها، وربما ينتهي الأمر بها لأن تكون شيئاً أقل مما هي عليه بالفعل. وأفضل نتائج الأزمة الراهنة، من وجهة نظري، سوف يكون الدرس الذي لا بد أن تتعلمه قطر بأن تكون «قطر» مرة أخرى وليس أي شيء آخر.
قطر... والدرس الذي لم تتعلمه
قطر... والدرس الذي لم تتعلمه
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة