في تمام الساعة السابعة صباحاً، يفتح رمضان حيدري مصرعي الشباك الخشبي القديم لورشته الصغيرة، ويفتح مظلة مرقعة توجد على الرصيف، ثم يشرع في ترتيب رف يحمل مجموعة من الأحذية المصقولة، وأربطة الأحذية المرتبة جيداً، وزوجاً من حذاء رياضي نسائي أصفر، ويخرج من جعبته مجموعة من المطارق وأدوات الثقب، و«الزرديات»، ويجلس على وسادته منتظراً بداية العمل.
لا يزال الوقت مبكراً، والرصيف مبتلا بسبب رش بائع الفاكهة المتجول المجاور له الماء على المانجو، والخوخ، الذي اشتراه من سوق الجملة في الخامسة فجرا.
وفي ركن آخر من الشارع، يبدأ طائر الكناري في الزقزقة بينما يعلق رجل عجوز القفص، الذي يوجد بداخله، إلى جوار واجهة عرض بها قمصان رياضية وسراويل.
على بعد بضع بنايات، يقع حي شاري ناو البرّاق، وهو حي تجاري ينمو بخطى سريعة في العاصمة الأفغانية كابل، حيث بات يزخر بالمراكز التجارية الصغيرة، وقاعات الزفاف الأنيقة، والمتاجر التي تبيع هواتف الـ«آيفون»، وأجهزة الكومبيوتر المحمولة التي يقف على أبوابها حرّاس مسلحون، وواجهات عرض لأحذية رياضية تحمل اسم علامات تجارية شهيرة، تم استيراد أكثرها من الصين.
مع ذلك مفترق الطرق القديم، الذي به مركز للشرطة، وصيدلية مملوكة لأسرة، أقل مساحة، وإيقاعه أكثر بطئاً، ويتميز بالعلاقات الشخصية القوية التي تربط بين الناس.
مكان عمل حيدري ليس سوى مكان ضيق مغلق يقع إلى جوار شجرة، لكنه يوجَد في هذا المكان منذ 18 عاماً، ويعرفه الجميع. يضع حيدري كل يوم صناديق خشبية مغطاة بقطع من السجاد، ويجلس عليها دوماً شخص أو اثنان يتحدثان ويشاهدانه وهو يعمل.
إنه رجل أشيب الشعر، في الخامسة والستين من العمر، ذو وجه جذاب يذهب إلى عمله ويعود منه بالدراجة، ويجني نحو 7 دولارات في اليوم المشحون بالعمل. يقول مقطباً جبينه بينما يخترق بإبرته السميكة طبقات متعددة من الجلد: «إذا لم تكن لديك خبرة مثل تلك التي لدي يمكن أن تغرس مسماراً في إصبعك». الكثير من عملائه معارف قدامى متواضعون يأملون في إطالة عمر أحذيتهم بضعة أشهر أخرى. إنها أوقات عصيبة في ظل الصراع طويل الأمد الطارد للاستثمار. رغم ازدهار البناء في المناطق الحضرية، لا يزال هناك عدد كبير من العاطلين عن العمل.
يدفع حمّال أمتعة أشيب يدعى محمد غول عربة اليد الخاصة به على الرصيف، ويتبادل الرجلان التحية بود ويبدآن النقاش بشأن العمل. حذاء غول متهالك، وبحاجة إلى نعل جديد، يفحص الحيدري زوج الأحذية ويطلب 60 سنتاً، ويقول غول إن ما يستطيع دفعه 40 سنتاً فقط. يضيف غول قائلا: «لم أتمكن من الحصول على عمل الأسبوع الحالي، لكن لدي زبائن في الطريق، لذا لا بد أن أبدو في مظهر لائق». ويتفق الرجلان في النهاية على 40 سنتاً.
يبدو المجتمع من عدة أوجه متجمداً في الزمن، وغير متأثر بالحرب المندلعة في الريف. يستمتع الناس بتقاليدهم، ويقنعون بالقيام بأعمال بسيطة، ويصبّون الشاي. مع ذلك خلفت عقود من الصراع والاضطرابات آثارها وإن لم تكن الجروح والندوب ملحوظة.
أصيب غول بالشلل في ذراعه اليسرى من جرّاء شظية أصابته حين كان جندياً منذ 30 عاماً يحارب إلى جانب الحكومة المدعومة من روسيا ضد عدد من الجماعات المسلحة الأفغانية. ويقول: «أستخدم يدي اليمنى لدفع عربتي، لكني أستطيع استخدام الأخرى من أجل تحقيق التوازن فحسب».
يقول قادام شاه، الذي فتح متجر للسلع الجافة إلى جواره، إنه في عهد الملك ظاهر شاه في السبعينات توقف عن بيع السكر والأرز للزبائن الذين يدفعون بالأجل، ويشكو من الحال السيئ الذي أصبحت عليه سوق واردات الجملة. يقول شاه، البالغ من العمر 58 عاماً الذي يستورد زيت الطهي من كازاخستان، والمناشف الورقية من تركيا: «لم تعد هناك ثقة. لقد كان أهل كابل متعلمين وأمناء، وصادقين، لكن غادر الكثير منهم. كانت الحرب طويلة وعنيفة وغاب الأمن. كل شيء بات مزيفاً الآن، ويحاول الجميع خداعك ثم الاختفاء».
ربما يكون تألق وجاذبية الأشياء الجديدة مكلفاً من أوجه أخرى على حد قول شاه، فقد سمع أخيرا أنباء عن صبي في الثالثة عشرة من العمر يقطن في الحي تمنى الحصول على زوج من الأحذية الرياضية معروض في إحدى المتاجر، لكن أخبره والده أن أسرته لا تستطيع شراء هذا الحذاء له، مما دفع الصبي إلى الانتحار في تلك الليلة.
صيدلية حسيني القريبة أقدم من متجر شاه، ومرت الأسرة بمعاناة بسبب الخسارات الكثيرة والكبيرة طوال أجيال. سجن النظام الشيوعي مؤسس الصيدلية مير فاض حسيني في ثمانينات القرن الماضي، ولم يره أحد بعد ذلك. وبعد عشر سنوات، أثناء الحرب لأهلية، دمرت قذيفة الصيدلية، وأسفرت عن مقتل اثنين من أبنائه، في حين أعاد الابن الثالث ميرويز بناء الصيدلية. يقول ميرويز حسيني البالغ من العمر 34 عاماً: «لقد بقينا ولم نغادر حتى نحافظ على اسم والدي حياً». وتمتلئ الصيدلية الضيقة المكدسة بآنية النباتات وصور الأسرة. ويضيف قائلاً: «تحسنت الأمور الآن، لكن يمكن أن تنفجر قنبلة انتحارية هذه الأيام بشكل مفاجئ في أي مكان. يشعر الناس بالخوف طوال الوقت».
يحمل هذا الجزء عسير الوصف من المدينة آثار التاريخ، حيث تزين ملصقات لأحمد شاه مسعود، الزعيم الأسطوري المناهض للسوفيات، الذي اغتيل في عام 2001، نقطة الشرطة ومنصة لبيع الفاكهة. ويوجد على بعد بناية واحدة المسكن المحصن الخاص بعبد الرشيد دوستم، نائب الرئيس الأفغاني، والزعيم السابق لإحدى الجماعات المسلحة، الذي يخضع حالياً لتحقيق بشأن الاعتداء الوحشي على سياسي بارز.
لقد كانت صواريخ دوستم هي التي دمرت صيدلية حسيني عام 1993 عندما كانت قواته تحارب مسعود، وقادة جماعات مسلحة أخرى للسيطرة على العاصمة. كثيراً ما يأتي حرس دوستم هذه الأيام إلى حيدري لتلميع أحذيتهم، وحين يتوجه إلى المسجد للصلاة، عادة ما يقف أحدهم بالقرب من محله لحراسة أدواته.
لا يتحدث حيدري كثيراً حيث يركز وهو يدق، ويخيط، ويلمع، لكن يبدو مستمتعاً بالصحبة وبالمحادثة. بعد عشرين دقيقة يسلّم غول زوج الأحذية بعد إصلاحه وهو متجهم، في حين يبتسم غول ابتسامة رضا قائلا: «عمل نظيف ودقيق كما أردتَه تماماً» ويمدّ إليه يداً تعيسة تعبيراً عن الشكر.
* خدمة «واشنطن بوست»
ـ خاص بـ»الشرق الأوسط»
إسكافي يحيي «زمن كابل الجميل» في ورشته
يصلح الأحذية على طريق أجداده... ويروي للمارة قصصاً من الماضي
إسكافي يحيي «زمن كابل الجميل» في ورشته
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة