في 13 أبريل (نيسان)، لا وقت في لبنان لاستذكار الحرب الأهلية بالبكاء، فأحزان الماضي لم تردع شعبه يوما عن عشق الحياة، والأطلال وإن أبكته لكنّها لم تطفئ شعلة الأمل داخله، إنّه زمن الرقص لا الحرب. بهذه الروح دشن «مهرجان بيروت للرقص المعاصر» سنته الثالثة عشرة. هذه المرة، لم يأت منفرداً، جاء ومعه «سيترن» المركز الحلم، كما أسماه القيمان على المهرجان عمر راجح وميا حبيس. مكان جديد في بيروت للفنون المتمردة والراغبة في الانعتاق.
وصل المتفرجون إلى «سيترن» أول من أمس، بينما كانت رافعة ضخمة لا تزال تركّب ما نقص. الورشة لم تنته بعد، لكن الجمهور غفير، والحماس كبير والدهشة مرتسمة على الوجوه. ثلاثة أسابيع فقط كانت كافية لتركيب هذا المجمع الذي يضم مسرحاً يتسع لـ500 شخص، وصالة استقبال، وباقي الأجزاء الضرورية لإدارة المكان وحتى إقامة الفنانين.
«هو رؤية ومبادرة وحلم بأفكار لحياتنا المستقبلية»، قال عمر راجح، بينما صادف الافتتاح ذكرى الحرب الأهلية اللبنانية المشؤومة 13 أبريل، قبل 42 سنة. «نريدها ذكرى جديدة لمستقبل مختلف، لأيام مبنية على إصرار ومسؤولية، وبلد نستطيع أن نعيش فيه، بلقاء وتعاون ومشاركة».
عرض الافتتاح لم يكن أقل إبهارا من «سيترن» الذي أقيم على خط تماس قديم، يفصل بين المنطقتين البيروتيتين المتقاتلتين حينها. الفرقة السويسرية «ألياس» قدمت عرضها «وزن الإسفنج» المبني على استيحاء الحياة اليومية بتفاصيلها الصغيرة، برؤية مبتكرة ومذهلة.
كل ما تفعله في يومياتك، تستطيع أن تؤديه رقصاً يخلب الألباب. الكنبة الخضراء على المسرح التي بقيت الثابت الوحيد طوال العرض، بنيت حولها كل السينوغرافيا لخشبة خاوية، أو هكذا تظن؛ لأن كل العناصر هنا يمكن استغلالها والاشتغال عليها، بما في ذلك الأرض التي تكتشف أنّها مغطاة بسجادة كبيرة ستستخدم بعد ذلك جزءا من عناصر الإبهار البصري، حين تصبح عمودية ومتماوجة بألوانها المزهرة، وغطاء آخر يستغل لنفس الغرض.
الفتحات الجانبية على المسرح تجدها وكأنّها مسارب ينفذ منها وإليها الراقصون، الخلفية التي تفتح فجأة في الظلام تدخل منها سيارة بإضاءتها والموسيقى الصاخبة الصادرة عنها، لتشعرك أنك بالقرب من ملهى ليلي.
وكأنما حرص صاحب العرض غيليرم بوتيلو، على أن يؤكد لك أنّ كل مناخات عيشك الاعتيادية المكرورة، يستطيع أن يريك إياها راقصة ومشحونة بدفق من حساسية مرهفة، قاطعة كحد سكين.
فتارة أنت أمام ثرثرة تجمع راقصين أو ثلاثة، أو جو عاطفي بين عاشقين، أو مشهد مسح الأرض، وربما تنتقل إلى صالة رقص في مكان أرستقراطي عابق بالموسيقى، أو لحظة خصام ونزاع، أو مجرد هنيهة تأمل، أو جلسة منفردة لرجل يدخن سيجارته بهدوء. هذه المشاهد، تحضر منفردة أو بعضها بجانب بعض.
لكن الساعة التي يقضيها المتفرج مع هذه الفرقة البديعة تمر كالسهم، خصوصا حين تبدأ راقصة في العزف على بيانو غير موجود، حتى تخال أنّه سيحضر عنوة لشدة اندماجها، وهو ما يحدث فعلا في مشهد آخر، إلا أنّها في هذه اللحظة لن تعزف عليه إلا قليلا، لتدير ظهرها له وتبقى تعزف على آلتها الخاصة الموجودة في الهواء، أو في مخيلتها الخاصة.
أحد المؤدين يرقص تحت ضوء القمر على نغمة أزيز صرصور مدهش، الموسيقى مختارة بعناية متنوعة كما هي أجواء العرض جميلة رحبة، ومفرحة حتى لو كانت أزيزا أو صوت صفير ريح، أو زمجرة رعد. مرة أخرى إنّها الحياة على المسرح ببهجتها بفضل ملابس المؤدين التي اختيرت لتكون بألوان مفرحة متنوعة، والإضاءة المتقنة التي جعلتها مشعة. مع الكنبة الثابتة ثمة المرأة «المانيكان» بفستانها الأحمر التي ينقلها الراقصون من مكان إلى آخر. إنّها متفرجة وشاهدة في آن، واقفة أو جالسة، وربما راقصها أحدهم لتبدو حركة هذه المرأة الجفصينية متعة للفرجة.
هناك أيضاً الراقصات اللواتي يأخذن حمام شمس، أو يخرجن من الحمام، لكن كان ينقص بالفعل مشهد السباحة لتكتمل الفرجة. الراقصون الرجال بملابس البحر، المياه تنسكب من سقف الخشبة، تملأ المسرح وهم يستعدون للقفز في البركة، هكذا تتحول المساحة كلها إلى مسبح يجوبه الراقصون جيئة وذهاباً، في خاتمة بدت قمة في إتقان تركيب المشهديات، وقدرة الأجساد المدربة على جعل كل تفاصيلنا ممكنة رقصاً.
«مهرجان بيروت للرقص المعاصر»: لا وقت للحرب... إنه «الحلم»
افتتاح فضاء «سيترن» مكاناً جديداً للمتمردين
«مهرجان بيروت للرقص المعاصر»: لا وقت للحرب... إنه «الحلم»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة