لوحات تستعرض الحياة في شوارع ومساجد وقصور الشرق، من القاهرة القديمة لصحراء المغرب إلى مساجد إسطنبول، تنقلها لنا لوحات من القرن التاسع سجلها فنانو أوروبا وأميركا جذبهم سحر ذلك العالم الغامض البعيد. يظل للوحات الفن الاستشراقي جمالها وجمهورها الذي يجد فيها أكثر من انطباعات الفنان الأوروبي في ذلك الوقت، ففيها سجل لتفاصيل حياة وثقافات مضت.
كلود بينينغ رئيس قسم اللوحات الأوروبية في سوذبيز يجد في تلك اللوحات نظريات ورؤية للشرق تختلف عن فرضيات أن الفن الاستشراقي يعكس النظرة الاستعمارية للغرب. يشير خلال جولة خاصة في سراديب الدار لعرض محتويات مزاد الفن الاستشراقي الذي تقيمه الدار في 25 أبريل (نيسان) الحالي، إلى أن المزاد يحتفل بعامه السادس حيث يقام لجانب مزاد الفن الإسلامي الموسمي.
يشير بينينغ خلال الحديث إلى حرصه على أن تكون اللوحات المعروضة بعيدة عن الصور النمطية لبعض اللوحات الاستشراقية وأن تراعي أساسيات الذوق واللياقة.
يتحدث عن الثنائية ما بين مزاد الفن الإسلامي ومزاد الفن الاستشراقي قائلا: إن هناك انسجاما بينهما: «هنا أمامك لوحة استشراقية تصور رجلا مسنا يجلس خارج مسجد في القاهرة يضع بندقيته جانبا بينما يدخن الغليون وهو مستند على عصاه. كل هذه التفاصيل من غليون وبندقية وعصا، قد تتواجد في مزاد الفن الإسلامي، يمكنك رؤية تلك القطع في الحقيقة، وهو ما يكمل تأثير اللوحة. يحدث كثيرا أن يشتري شخص لوحة استشراقية ثم يلفت نظره قطع منسجمة معها عندنا. ولهذا أحرص على الاستفادة من معلومات خبراء الفن الإسلامي للتعرف على بعض القطع التي أراها في اللوحات الاستشراقية».
الحديث يأخذنا من اللوحات المعروضة بداية الخيط لتناول أهمية ذلك النوع من الفن في زمننا الحالي، ويرى أن أهمية لوحات الفن الاستشراقي في القرن التاسع عشر وقبل اختراع الكاميرا أنها كانت تنقل للجمهور الغربي الحياة في بلاد بعيدة عنهم «كانت تلك اللوحات كشفا كبيرا في ذلك الوقت، حاول الفنانون التقاط الجو العام والثقافة بقدر الإمكان مستعيضين عن التسجيل الفوري الذي توفره الكاميرا، باستخدام الفرش ورقعات الرسم لتدوين الرسومات الأولية حتى يعودوا لبلادهم حيث يقومون برسم اللوحة كاملة». ومع بداية فن التصوير استعان بعض منهم بلقطات فوتوغرافية لتسجيل الموضوع الذي يريدونه ليقوموا برسمه بالألوان فيما بعد. ويؤكد بينينغ على نقطة هامة هنا: «يجب أن نعي أن كثيرا من هؤلاء الفنانين كانوا يسجلون ما يرونه جذابا وموحيا ولكنهم لم يكونوا على معرفة بالثقافات السائدة». في هذه الحالة هل كان الفنانون الاستشراقيون يسجلون ما يرونه جميلا فقط؟ أتساءل ويجيبني الخبير: «ليس فقط المناظر والجماليات، اهتم الفنانون أيضا بمظاهر الثقافة مثل الطقوس الدينية وأنماط الحياة في الصحراء وأيضا مشاهد القتال والأسلحة المختلفة. حاولوا تصوير كل ذلك في بعض الأحيان كانوا موفقين وفي بعضها الآخر لم يحالفهم التوفيق خاصة فيما يتعلق بالطقوس الدينية، فعلى سبيل المثال يحدث أن نجد لوحة تصور صلاة الجماعة في مسجد ونجد المصلين كل منهم يقوم بحركة مختلفة عن الآخر».
أشير إلى أننا لا يمكن أن نغفل اللوحات التي تصور مشاهد غير واقعية أو حساسة، يجيب بينينغ: «هؤلاء من أطلق عليهم فنانو المقعد الوثير، الذين لم يسافروا للمشرق واكتفوا بما قرأوه عن ذلك العالم في الكتب أو ما سمعوه من روايات الرحالة، وتكون النتيجة أن يرسموا لوحات متخيلة مثل اللوحات التي تصور الحريم».
من اللوحات في المزاد عمل للفنان هيرمان كورودي «الصلاة قبل الوصول للقدس». ويبدو أن الفنان وقع أسيرا للألوان التي تركتها أشعة الشمس الغاربة على الأفق، أما الفنان رودولف إرنست فيصور رجلين يجلسان لتناول الطعام في غرفة وثيرة الأثاث، يحرص الفنان على تصوير كل التفاصيل الثرية في الملابس والسجاد والنقوش على الحائط. يشير بينينغ إلى أن الفنان كان معروفا بحبه للأقمشة والمنسوجات: «كان يشتري الأقمشة وقطع السيراميك والسجاد ويأخذها معه عند عودته لباريس، وهناك يرسمها في لوحاته».
لوحة أخرى لإرنست تصور رجلا مسنا يجلس أمام مسجد في القاهرة ويقبل على السلام عليه مجموعة من المسافرين، يبدو من الاحترام الذي يظهره المسافرون تجاه الرجل أنه شخصية هامة، ربما شخصية دينية معروفة أو ربما عراف. إرنست يلتقط التفاصيل في عمارة المسجد وفي ملابس المسافرين ونقوش السجادة تحت أقدام الرجل. غير أن المشهد لم يرسم في القاهرة بل رسمه الفنان في باريس ويبدو من التصرف في بناء المسجد أنه لم يلتزم بالتفاصيل الحقيقية للبناء. كما يظهر في خلفية اللوحة عدد من المباني البيضاء والتي قد يكون الفنان أضافها من خياله فهي لا تتماشى مع المعمار في القاهرة في تلك الفترة.
اهتمام فناني الاستشراق بالمعمار وبالمسجد على وجه خاص يظهر جليا في عدد من اللوحات هنا، مثل لوحة جان لوكومت دونوي والتي تصور رجلا يدخن الغليون خارج مسجد، هناك أيضا لوحة للفنان الشهير جان ليون جيروم والتي تصور الصلاة داخل أحد المساجد بالقاهرة.
لوحتان تصوران مشهد المحمل الذي ينقل كسوة الكعبة المشرفة لمكة، إحداهما تصور الموكب في القاهرة والأخرى تصور الموكب التركي وهو متوقف في إحدى الواحات على الطريق. المشهدان مختلفان، في القاهرة نرى المارة يتفاعلون مع المحمل، وفي الثانية يبدو النظام أساسيا حيث يظهر عدد من المسؤولين المهمين كما يبدو من ملبسهم يتقدمهم قائدهم، ربما، على صهوة حصان مزين بالقماش الأحمر المطرز بينما يسير خلفهم حملة الأعلام وفي منتصف اللوحة جمل مزين بمختلف الأقمشة والحلي يحمل صندوقا ثمينا.
ينهي بينينغ الجولة بقوله: «الأمر المثير في هذه اللوحات هو أن جمهورها ووظيفتها اختلفت عبر العصور، ففي وقت رسمها كانت موجهة لجمهور غربي يتطلع لمعرفة المزيد عن بلاد المشرق، وبالتالي كانت تمثل تسجيلا فنيا للحياة هناك كان الوحيد وقتها خاصة قبل اختراع الكاميرا. الاختلاف الآن هو أن جمهور اللوحات هم من تلك البلدان التي صورها الفنانون. فهي تخاطبهم ثقافيا وتعد سجلا لمظاهر الحياة في بلدانهم في وقت كان فيه الفنانون المحليون لا يحبذون رسم الأشخاص والحيوانات واكتفوا بالزخارف. ولهذا ما يزال سوق الفن الاستشراقي منتعشا».
لوحات الفن الاستشراقي رسمها أوروبيون وأصبح جمهورها شرقياً
تغير جمهورها وهدفها... لكنها لا تزال رائجة
لوحات الفن الاستشراقي رسمها أوروبيون وأصبح جمهورها شرقياً
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة