أغلق معلم بارز من معالم كونوت بليس في قلب دلهي، أبوابه، طاوياً حقبة حافلة في تاريخ السينما في العاصمة الهندية، بعد 85 سنة من افتتاحه. وأسدل الستار الأخير بعد عرضه في 31 مارس (آذار)، فيلمين لراج كابور، وهما «ميرا نام جوكر» و«سانغام»، اللذين كانا آخر عرضين مزدحمين يحملان الحنين إلى الماضي. لم يكن هذان الفيلمان الأحدث، بل كان الأمر مثل السفر عبر الزمن، ربما هذا ما دفع بالكثيرين لشراء البطاقات لمشاهدتهما.
زارت المراسلة دار السينما المميزة في آخر يوم لها، حيث شهدت ازدحاماً شديداً على شباك التذاكر، ولاحظت أن أكثر الحاضرين كانوا رجالاً غطى الشيب رؤوسهم أو ظهر الصلع على رؤوس آخرين. يملؤهم الحنين إلى ذلك الزمن، ويشعرون بالحزن، فقد كونت تلك الدار ذكرياتهم سواء كان ذلك أثناء سهرة عائلية، أو في علاقة عاطفية، أو استراحة في يوم عمل. لقد كانت الإثارة المحمومة واضحة.
مع ملصقات الأفلام، التقت زوجان في الخمسينات أو ربما الستينات من العمر، صوراً ذاتية ومقاطع مصورة، وكانا يصرخان حين أعلن شباك التذاكر نفاد كل التذاكر. فيما ارتسمت البسمات على وجوه طاقم العمل، من مديرين وعمال عرض وعاملين في الكافتيريا، يوزعونها على جميع من أمّ العرض الأخير في السينما، وهم يدركون أنّ هذا اليوم هو الأخير لهم في العمل.
جزء من تاريخ الهند
تمتعت دار سينما «ريغال» منذ افتتاحها، بأصالة وهوية خاصة بها، إذ إنها تمثل جزءاً من تاريخ الهند. وعندما شرّعت الدار أبوابها للمرة الأولى في ثلاثينات القرن الماضي، كانت البلاد لا تزال تحت الاحتلال البريطاني. واستضافت على مدى العقود المتعاقبة شخصيات كثيرة من لويس مونتباتن آخر حاكم بريطاني على الهند بين عامي (1947 م – 1948م)، إلى جواهر لال نهرو، أول رئيس وزراء هندي.
يتحدث عمار سينغ فيرما الذي قضى أكثر من نصف حياته محاسباً في «ريغال»، عن زوار السينما، ويسرد أسماء شخصيات سياسة مهمة مثل الرئيس الهندي راجندرا براساد، ودكتور ذاكر حسين، ويقول إن أنديرا غاندي، رئيسة وزراء الهند السابقة، كانت تأتي إلى السينما كثيراً مع زوجها فيروز غاندي، وأصبحت تأتي بعد ذلك مع أبنائها وأحفادها. وأشار إلى أن المشاهير كانوا دائماً ما يحضرون العروض الليلية المتأخرة.
إبّان فترة الاستعمار البريطاني، كانت هناك قصص تروي كيف كانت تلك الدار خاوية على عروشها خلال أشهر الصيف، في حقبة الأربعينات، عندما كان البريطانيون ينسحبون إلى مدينة شيملا. وكان عرض فيلم «ذهب مع الريح» عام 1939 ملحمياً؛ وكان الجنود يتوافدون إلى السينما أثناء الحرب العالمية الثانية لمشاهدة فيلم مثل «كبرياء وتحامل» (1940)، و«الديكتاتور الأعظم» (1940)، و«مدام كوري» (1943). وكان الجيش يستجوب عمال دار السينما في الصباح عن أي تنظيم أو إلقاء محاضرات سرية.
في قلب منطقة كونوت بليس الصاخبة، شُيّدت سينما ريغال عام 1932، وكانت المبنى الأول في المنطقة. بناها صبحا سينغ، من تصميم المعماريين البريطانيين والتر سايكس جورج وهيربرت بيكر، الذين كانا يعملان مع إدوين لوتينز على إنشاء ما آلت إليه دلهي لوتينز فيما بعد.
كان اسم السينما «نيو دلهي بريميير» قبل أن يُغيّر ليصبح «ريغال». عرضت في بداياتها، أفلاماً من «هوليوود»، وقدمت عروضاً لفرق الباليه الروسية، ولفرق مسرحية بريطانية. في الطابق العلوي من الدار، مطعم يسمى «دافيكوس» أو «ستاندرد» لاحقاً.
أول مالك لدار السينما كان راجيشوار دايال، كانت تربطه صداقات مع نجوم مثل كينيث مور ولورين باكال وكان يخرج معهم لدى زيارتهم دلهي. وفيما بعد أصبحت سينما «ريغال» مكاناً مميزاً لتنظيم واستضافة المهرجانات السينمائية الدولية. وإلى جانب الأفلام الإنجليزية، كان دايال يعرض أفلام روسية أيضاً.
كان تأثير الطراز المغولي داخل البناء المعماري واضحاً من خلال النماذج الجصية، وتقنية نصف القبة وغيرها من السمات الأخرى. ولا يزال سحر وعظمة الحقبة الماضية جلياً واضحاً في الممرات والأروقة داخل دار السينما، خصوصاً الدرج التوأم المؤدي إلى رواق طويل. وعلى طول الأروقة والممرات والدرج، تصطّف صور فوتوغرافية كبيرة بالأبيض والأسود لنجوم الزمن الماضي مثل ديف أناند ومينا كوماري ونرجس وراج كابور. يقول فيرما: «كان راج كابور ونرجس يجلسان في هذه الغرفة». ويضيف ضاحكاً بصوت خافت: «إذا تعدى أحدهم على خصوصيتهما كانا يوبخانه ويطردانه».
أصبح دار سينما «ريغال» اليوم قطعة من الماضي، وبسبب مشكلة في التكامل البنيوي، كان يجب إغلاق آخر دار عرض.
حنين إلى الماضي
«لم تكن السينما مجرد مكان لمشاهدة الأفلام، بل ثمة شيئاً ما يميزها، أذكر أنّها كانت أيضاً مركزاً للتغيرات الاجتماعية والثقافية»، حسب ما يقول فينا سهار، المؤرخ البالغ من العمر 76 سنة، ويضيف: «قليلون من يدركون أهمية هذا البناء من الجانب التاريخي. فدار (ريغال) تتمتع بتراث ثقافي ومعماري، ضاع بقدر كبير مع الزمن. قد يرى كثيرون من الشباب أنّها مجرد سينما بها مقاعد مكسورة، أو تفتقر إلى الإمكانيات الحديثة التي يجدونها في دور السينما ذات شاشات العرض المتعددة، لكن بالنسبة إلينا ممن شاهدوا (ريغال) حين كانت أفخم دور السينما، فالأمر مختلف كثيراً؛ شيء ما يميز هذه الدار، فلم يكن مجرد مكان لمشاهدة الأفلام، بل كنا نشعر بها وكأنّها جزء من وجودنا».
كانت هذه الدار مكاناً لالتقاء الشباب وأصحاب القلوب الشابة؛ وكانت تشغل مكانة رفيعة بين الطبقات الاجتماعية الراقية، أما في إعلانات الصحف فكانت سينما «ريغال» تتصدر عروض الأفلام؛ فهي صاحبة المقام الرفيع. فلم تكن تعرض فيلماً كباقي دور السينما بل كانت تقدّم لك تجربة حياة ومعايشة بكافة درجاتها.
يقول أك أهوجا (60 سنة)، الذي كان يصور مباني السينما: «كانت هذه السينما الدار المفضلة لي قبل ظهور جهاز الفيديو. بعد زواجي، عشت مع زوجتي في بهارغنج، واعتدنا أيام الآحاد المجيء من محطة قطار نيودلهي إلى هنا بعربة يجرها حصان. ويروي قائلاً: «لقد اعتدنا مشاهدة الأفلام مقابل 25 بيسة للتذكرة. كم كانت أياماً جميلة».
أمّا رجل الأعمال سامي ساتسانغي المقيم في لندن مع زوجته نيتي، فتشكّل الدار لهما مكاناً لإحياء ذكرى أيام حبهما الأولى. يقول سامي: «كنا نزور الهند، وعلمنا أن سينما (ريغال) المفضلة لدينا ستغلق أبوابها. عندما كنّا عاشقين كنا نأتي لنشاهد الكثير من الأفلام معاً، واليوم نحن جدّان وجئنا لنودع دار السينما».
يفضل كثيرون من شباب الهند اليوم، دور السينما المكيفة المريحة التي تحتوي على عدة شاشات عرض خارج المدينة، حيث تقدم خيارات أكثر من الأفلام مقارنة بدور السينما ذات شاشة العرض الواحدة. من بين هؤلاء الشباب أميتا راج، التي كانت تزور «ريغال» للمرة الأولى على الرغم من أنّها تقيم بالقرب منها. تقول أميتا وهي تقف في صف الانتظار أمام شباك التذاكر: «أردت أن أراها وأشاهد فيلماً هنا قبل أن تغلق خلال الأيام القليلة المقبلة». قد يبقى المبنى كدار سينما، حيث لا يمكن تغيير واجهته التاريخية؛ لكن أصحاب دار العرض يقولون إنّهم سيحاولون الحصول على تصريح لتحويلها إلى دار سينما ذات شاشات عرض متعددة. مع ذلك سوف يمثل إغلاق السينما نهاية الطريق بالنسبة إلى راميش كومار، الذي عمل عامل عرض لمدة 44 سنة، أمضى 23 سنة منها في «ريغال». إنه يشعر بالأسى لإغلاق السينما أبوابها، لأنّها على عكس دور العرض السينمائية الحديثة. كان سعر تذاكرها في متناول أيدي الجميع. كذلك كان الكثير من مشاهير بوليوود يأتون إلى دلهي من أجل مشاهدة الأفلام في «ريغال».
يقول المصرفي المتقاعد نارندرا غروفر، البالغ من العمر 80 سنة، وسيغادر إلى لندن بعد يوم: «لا أصدق أنّها ستقفل أبوابها؛ إنها تراث. ينبغي أن تدعمها الحكومة أو تشتريها. إنا لم يعد «تاج محل» يدرّ أرباحا غداً، فهل سيُغلق؟ إنّها مثل مأذنة قطب مينار أو الحصن الأحمر. كيف ستبدو دلهي من دون هذه السينما؟». وينهي نارندرا كلامه وهو من مرتادي السينما بانتظام أيام دراسته الجامعية بقوله: «في لندن يحتفظون بالواجهة الخارجية للمبنى. آمل أن يفعلوا ذلك هنا أيضاً».