تناقضات المثقف... جوناثان سويفت نموذجاً

موجة غريبة من الاهتمام المعاصر بسيرته وأعماله

جوناثان سويفت اشتهر أكثر ما اشتهر بـ«رحلات غليفر»
جوناثان سويفت اشتهر أكثر ما اشتهر بـ«رحلات غليفر»
TT

تناقضات المثقف... جوناثان سويفت نموذجاً

جوناثان سويفت اشتهر أكثر ما اشتهر بـ«رحلات غليفر»
جوناثان سويفت اشتهر أكثر ما اشتهر بـ«رحلات غليفر»

أفسدَ علينا أنطونيو غرامشي في دفاتر سجنه التي نُشرت بعد موته احتفاءنا الممكن بشخصية المثقف التقليدي الكلاسيكي الشديدة اللمعان. تلك النماذج من البشر الاستثنائيين، رفيعي التعليم، الذين يُحسنون كتابة نصوص طويلة مُتقنة حول أشياء مهمة أو غير مهمة، يجذبون بها القارئ إلى حقولهم المغناطيسية، مُثيري الاهتمام بسبب سعة اطلاعهم وغرابة أطوارهم في الآن ذاته. لكن حتى غرامشي في انتقاصه من قيمة هؤلاء المثقفين، لم ينكر وجودهم واعتبرهم دوماً معالم ثقافية مهمة، بغض النظر عن كونهم في أغلب الأحيان جزءاً لا يتجزأ من تركيبة الطبقة المهيمنة.
جوناثان سويفت (1667 - 1745)، الذي اشتهر في الثقافة العالمية بوصفه مؤلفاً لرواية «رحلات غليفر» التي عشقها الصغار- رغم أنها لم تكتب لهم أصلاً-، هو أحد أفضل نماذج ذلك النوع من المثقفين الشديدي الخصوصية الذين أنجبهم القرن الثامن عشر، وهو قرن انقلاب ثقافي هائل في أوروبا .
تعددت أشكال الكتابة التي أبدع فيها سويفت، ويُعده الكثيرون بمثابة سيد كتابة الهجاء والتهكم في الثقافة الأنجلوسكسونية، وأحد رواد الكتابة الشعبية في العصور الحديثة. ويبدو أنه بسبب من ذلك على سبيل التحديد؛ فإن موجة غريبة من الاهتمام المعاصر بسيرته وأعماله تسري الآن في الأوساط الأكاديمية وعالم النشر والصحافة الثقافية، كان آخر ثمارها أفضل سيرة وضعت عنه إلى الآن كتبها جون ستبس بعنوان «جوناثان سويفت: الثائر المتمنع، 2016».
المطلع على حياة سويفت المديدة وأعماله المنشورة لا يمكن إلا أن يلحظ كماً هائلاً من التناقضات بين الفكر والممارسة، وبين النص والسلوك تكاد تليق أكثر ما يكون بمثقف معاصر من الذين يتقلبون بين المواقع الفكرية، بدلاً من سيرة رجل عصر العقلانية الأثير.
وقد كانت آيرلندا مكان إبصار سويفت النور أثناء فترة الحروب الأهلية الأوروبية، لكنه قضى سنواته الأولى في إنجلترا تحت رعاية ممرضة دفعته إلى لتساؤل بسخرية موغلة إن كانت رعايتها له جاءت بتكليفٍ من عمه بعد وفاة والديه، أم أنها اختطفته وربّته بصفته طفلا لها؟... التحق في بداية حياته المهنية بالسير ويليام تيمبل، الدبلوماسي والكاتب البريطاني المعروف، سكرتيرا خاصا، ولاحقاً سيم في سلك الكهنوت الأنجليكاني، لكن كتابته الشديدة الجدل لفتت انتباه روبرت هارلي، رئيس الوزراء البريطاني عن حزب المحافظين فعيّنه بمثابة مستشارٍ خاصٍ له لشؤون الجدل والكتابة- وهو مجال كان حينها أمراً محورياً للعمل السياسي قبل ظهور تكنولوجيات الإذاعة وتغول الصورة في العصور اللاحقة- فكانت نصوصه الشديدة الوقع وراء القضاء سياسيا على اللورد النافذ مارلبورو منافس هارلي اللدود.
عاد سويفت بعد سقوط حكومة المحافظين تلك إلى آيرلندا، وقد سبقته شهرته هناك فعُيّن عميداً لكاتدرائية القديس سانت باتريك. وكانت نصوصه وبالذات كتابه «اقتراح متواضع لمنع أطفال الفقراء من أن يكونوا عبئاً على أهلهم أو بلادهم وليكونوا مفيدين للمجتمع، 1729»، الذي اقترح فيه على السلطات الإنجليزية المهيمنة تشجيع الآيرلنديين أكلَ أولادهم لمواجهة المجاعة الطاحنة التي ضربتهم حينها- وأعمال أخرى أيضاً قد قُرأت في آيرلندا وكأنها منجز وطني شجاع لآيرلندي مستغرق في مواجهة السياسات الاقتصادية الإنجليزية الظالمة ضد وطنه الأم. وهكذا تحول الرجل دون سعي منه إلى رمز قومي آيرلندي، حتى أن بعض المصادر تقول إن رئيس الوزراء البريطاني الجديد الذي خلف هارلي في السلطة صرف النظر عن فكرة اعتقاله بعد نصيحة صديق مطلع بأن الأمر يمكن أن يكلف حياة عشرة آلاف جندي إنجليزي إذا حاولت السلطات القبض عليه من دبلن.
هذه البدايات الملتبسة لم تساعد سويفت كثيراً في بناء سيرة مستقرة؛ إذ تسربت إليه التناقضات من كل حدب وصوب. فهو كتب مبكراً في إدانة السياسيين ونفاقهم ورداءتهم، لكنه ما لبث- لكسب العيش وأحلام الصعود- أن التحق بأعلى مستويات السلطة موظفاً في مكتب رئيس وزراء بريطاني من قلب التيار المحافظ. وبينما كان تكوينه وشهرته في قلب الحياة السياسية الإنجليزية، إلا أنه تحول إلى رمز وبطل قومي آيرلندي، وحين كانت نصوصه لاذعة تستميتُ دفاعاً عن الفقراء في بلاده فإنها تتضمن ما يشبه كُفراً بواحاً بالطبيعة البشرية برمتها، وهو رغم منطقه المَوزون، أظهَر على شاكلة سخرية تامة تهافتَ المنطق المحض بالتعامل مع مشكلات المجتمعات البشرية. وعلى الرغم من سيامته في سلك الكهنوت الرسمي فقد كتب منتقداً المؤسسة الدينية، ولم تردعه علاقاته الرفيعة سواء بداية من لندن ودبلن لاحقاً عن التدني إلى جدالات شديدة الابتذال أو التعاطي مع دهماء الطبقات الشعبية أو حتى التورع عن التورط بعلاقات نسائية ملتبسة لم تعرف حقيقتها حتى اليوم؛ إذ اختلَفَ كاتبو سيرته فيما إذا كانت تلك علاقات أفلاطونية أو ذات طبيعة منحرفة.
وكأن كل تلك التناقضات البنيوية في حياة سويفت لم تكن كافية، فلم ينجُ سلوكه الشخصي اليومي مع معارفه من الإصابة بانفصامٍ مماثل. فبينما كان حضوره الاجتماعي خلاباً، لكنه لم يتورع يوماً عن هجو أصدقائه وإهانتهم لأتفه الأسباب، وبينما كانت صحته معتلة معظم الأحايين فإنه لم يتوقف عن ارتياد المسارح والمقاهي، وكره الحياة اليومية في دبلن- وعشق لندن- إلا أنه قضى بقية حياته في آيرلندا بعد أن تبخرت أحلامه للصعود الاجتماعي في مجتمع العاصمة البريطانية. وينقل كاتبو سيرته عن معارفه أن تحليه باللطف الشديد لم يردعه عن شن هجوماتٍ مقذعة على الخدم المساكين عند أقل هفوة، وحتى مظهره الشخصي الغليظ البنية كان يُخفي عناية لا نهائية بنظافته وهندامه.
لا يُذكر سويفت إلا متلاصقاً معه جليفر ورحلاته المشهورة (1726)، وهي رواية فلسفية عن رحلات أربع قام بها طبيب إنجليزي بارد الأعصاب إلى أقصى أرجاء الأرض، مرتحلاً بين مجتمعاتٍ شديدة التناقض والاختلاف، موغلاُ في نقدٍ شديدٍ لبنية المجتمع البريطاني حينها. وحتى في هذه الرواية التي قُصد منها أن تكون أداة نقد فلسفي وتغييرٍ اجتماعي انتهت على غير قصده متحولة إلى قصة شديدة الشعبية للأطفال ينزلقون فيها في لعبة التعاطف وقبول الاختلاف، ووضعته في مكانة- لم يتوقعها في حياته - ككاتب الأطفال الكلاسيكي البريطاني الأول.
لا شك أن سلسلة تناقضات سويفت الغرائبية في تعدد وجوهها قد تمخضت عنها تجربة إنسانية ثرية ثراء سوريالياً، وشكلَته إحدى ألمع شخصيات المثقفين الذين يجنحون ليكونوا أكبر من الحياة العابرة للبشر الفانين في قرن من الزمان مرصعٍ بالنجوم الفكرية من الطراز الأول، لا شك شهد تحولات فكرية وسياسية حاسمة. على أنه في كم تناقضاته هذه كلها، لا يمكن حقيقة فهم قيمة الرجل التاريخية ومساهمته البناءة في الجدل الإنساني دون وضع صورة المثقف- كما كأنه سويفت- في سياق تركيبة مجتمعه الإنجليزي - الآيرلندي، وتحليل بنية الهيمنة في ذلك المجتمع- تماماً كما يقترح غرامشي ذاته الذي نسف قيمة المثقف الكلاسيكي من جذورها. قراءة سيرة سويفت بتفاصيلها (المملة أحياناً) كما كتبها جون ستيبس الآن، وقبله ليو دامروتش (جوناثان سويفت: حياته وعالمه، 2013) تقدمان مشهداً بتفاصيل كافية، ينقصها فقط إعمال أدوات التحليل لفهم سر تلك التناقضات. لعل الموجة الحالية من الاهتمام بسويفت تنكشف عن عملٍ مثل ذلك يصدر قريباً، يكون ملهماً لمثقفي اليوم الذين- كما سويفت- طحنتهم لقمة العيش، وأحلام الصعود، واستقطابات السياسة وجبروت المؤسسات، فانتهوا إلى عيشٍ أشبه بصفحة سماء مرصعة بالثقوب. كم يشبه سويفت الكثيرين منا!



الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
TT

الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)

دعا الشاعر السوري أدونيس من منفاه في فرنسا الأربعاء إلى "تغيير المجتمع" في بلده وعدم الاكتفاء بتغيير النظام السياسي فيه بعد سقوط الرئيس بشار الأسد.

وقال أدونيس (94 عاما) خلال مؤتمر صحافي في باريس قبيل تسلّمه جائزة أدبية "أودّ أولا أن أبدي تحفّظات: لقد غادرتُ سوريا منذ العام 1956. لذلك أنا لا أعرف سوريا إذا ما تحدّثنا بعمق". وأضاف "لقد كنت ضدّ، كنت دوما ضدّ هذا النظام" الذي سقط فجر الأحد عندما دخلت الفصائل المسلّحة المعارضة إلى دمشق بعد فرار الأسد إلى موسكو وانتهاء سنوات حكمه التي استمرت 24 عاما تخلّلتها منذ 2011 حرب أهلية طاحنة.

لكنّ أدونيس الذي يقيم قرب باريس تساءل خلال المؤتمر الصحافي عن حقيقة التغيير الذي سيحدث في سوريا الآن. وقال "أولئك الذين حلّوا محلّه (الأسد)، ماذا سيفعلون؟ المسألة ليست تغيير النظام، بل تغيير المجتمع". وأوضح أنّ التغيير المطلوب هو "تحرير المرأة. تأسيس المجتمع على الحقوق والحريات، وعلى الانفتاح، وعلى الاستقلال الداخلي".

واعتبر أدونيس أنّ "العرب - ليس العرب فحسب، لكنّني هنا أتحدّث عن العرب - لا يغيّرون المجتمع. إنّهم يغيّرون النظام والسلطة. إذا لم نغيّر المجتمع، فلن نحقّق شيئا. استبدال نظام بآخر هو مجرد أمر سطحي". وأدلى الشاعر السوري بتصريحه هذا على هامش تسلّمه جائزة عن مجمل أعماله المكتوبة باللغتين العربية والفرنسية.

ونال أدونيس جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس وتحمل اسم شاعر كتب باللغتين الكتالونية والإسبانية.