في فيلمها الجديد «شبح في الصدفة»، (Ghost in the Shell)، الذي سيطرح للعروض العالمية مع نهاية هذا الشهر، تعود سكارليت جوهانسون إلى أدوار «السوبر وومان» التي مثلتها خلال السنوات القريبة في «المنتقمون» و«كابتن أميركان» و«لوسي». المرأة التي لا تهاب وتتمتع بقدرات خارقة تمكنها من البقاء حية إثر كل مجابهة عنيفة تتعرض لها.
لكن هناك ميزة إضافية في «شبح في الصدفة» وهي أنها في الأساس كيان لا يمكن قتله. هي ليست بشراً وليست مخلوقاً، بل حالة صناعية تلتقي وحالة الوحش الذي ابتدعه الطبيب فرنكنستين في رواية ماري شيلي الشهيرة. فلقد تم صنع «ذا مايجور»، كما سمّوها، من أجزاء بشرية مختلفة تم شحنها بخبرة أعوام من التقنيات الحديثة التي تتحكم في «ذا ماجور» بقدر ما تتحكم «ذا مايجور» فيها أو زيادة.
بذلك سنرى هذا المخلوق الأنثى يغير من جلده ويطير ويسبح في الفضاء ويواجه جموع الأشرار ويقاتل ويربح المعارك. نستطيع أن نعرف أن هذا الكائن الذي يحمل وجه وجسد سكارليت جوهانسون دخل مرحلة القتال عندما تُخلع عنه - تلقائياً - الملابس والأمارات البشرية باستثناء لباس بلون البشرة يغطي الشخصية كما لو كانت عارية. ونعرف أن دورها في المجابهة انتهى إما بمراقبة سقوط آخر الضحايا الذين جابهوها أو بقفزها في ظلمة الليل ثم اختفائها مثل فقاعات الصابون. كانت هنا وأصبحت فجأة هناك.
* تأكيد الخرافة
الشخصية، كما الفيلم، مأخوذة من سلسلة أفلام أنيميشن طويلة قام الياباني مامورو أوشاي بإخراجها منذ عام 1995. والنجاح الجيد لذلك الفيلم أدّى، كما العادة، إلى إطلاق سلسلة من تلك الأفلام اليابانية المرسومة، إلى أن تم الاتفاق على استنساخ الفكرة وأحداثها الواردة في الفيلم الأول إلى فيلم أميركي حي. هذا الاتفاق يعود إلى عام 2008، لكن السيناريو الذي تمّ اعتماده لتحقيق هذا الفيلم كتب في مطلع 2014، والتصوير بوشر به في 10 فبراير (شباط) 2016.
أقرب ما مثلته سكارليت جوهانسون لملامح وعناصر هذه الشخصية هو ما ورد في فيلم «لوسي» حيث لعبت دور امرأة عادية تم تجهيزها لتتحول إلى مقاتلة تبدو من نوع البشر لكنها تتجاوزهم. الحكاية هنا تتشابه في هذه المدلولات وإن كانت تقع في عام 2051، وسيترك لنا الفيلم إمكانية معرفة كيف ستتم حياكة عالم مستقبلي سبقته عوالم كثيرة في كثير من الأفلام المستقبلية. مثلاً؛ وضع الفيلم الياباني الأول الأحداث في زمن مستقبلي، لكنه لم يستهلكه في تصوير ما هو مختلف. حتى المصعد الكهربائي في أحد المشاهد يطلع براكبيه أبطأ من مصاعد اليوم. الفكرة وفلسفتها وما تعنيه وجدانياً سادت العمل الأصلي، في حين تشي المقدّمات المشاهدة في النسخة الأميركية بأن الغاية هي إطلاق فيلم «أكشن» لا يكف عن الحركة (المصحوبة بالموسيقى المناسبة) كما هو شأن أفلام «السوبر هيرو» الشبيهة.
لكن هناك ما يكشفه هذا المنوال من الأفلام... ذلك الوارد في معظم ما يصل إلينا هذه الأيام من إنتاجات «بطولية» مماثلة، وما يكشفه قد يعود إلى ما تحدّث عنه الكاتب الروائي إدغار ألان بو في روايته «سقوط منزل آل آشر» سنة 1839.
المعلّق في تلك الرواية (التي تم نقلها عدة مرّات إلى الشاشة الكبيرة) غير معروف، وهو يقول في معرض حديثه عن ملاحظاته حول نفسه: «قلت إن التأثير الوحيد لتجربتي الطفولية بعض الشيء كان لأجل تعميق الانطباع الذاتي. ليس هناك من شك في أن وعيي بالارتفاع السريع لخرافتي خدم تلك الزيادة بعينها».
ما نتج في تلك الرواية، حسب ألان بو، هو تأكيد الخرافة بمجرد التفكير بها بدل تبديدها، ما يوضح أن الناتج عن اعتماد المعلق في تلك الرواية على خرافة تجلّت له تبعاً للأحداث، هو تثبيت حالة الفزع التي كثيراً ما كانت محور معظم أفلام هذا الروائي المبدع. وهذه الحالة تلتقي وما يرد في سياق أفلام الشخصيات الخارقة التي تطالعنا هذه الأيام. شخصية «ذا ماجور» وشخصيات «لوغان» و«آيرون مان» و«ذا هالك» و«هوك آي» كما شخصية «بلاك ويدو» التي تؤديها جوهانسون في سلسلة «المنتقمون»، هي أشبه بما ورد في نص ألان بو: «الاعتقاد بخرافة الديمومة والقوّة الفردية المطلقة ناتج عن، ومؤدٍ إلى، الخوف من الخرافة ومن الحياة ذاتها».
* الخوف من الحياة والموت
ليس غريباً، والحال هذه، أن الشخصيات البطولية الممطرة علينا كل سنة تتشابه في دوافعها وكثير من نتائجها. «سوبرمان» و«باتمان» و«سبايدر مان» و«آيرون مان» حُرموا جميعاً من التمتع بحياة أسرية كاملة. والد كل منهم مات في حادثة. نشأوا يتامى؛ عليهم تعلم مهنة الدفاع عن النفس في جو اجتماعي معاد وسط عالم من الدكانة والعنف. إذن المحرك الأساسي للقرار المتخذ في تطويع الذات لممارسة قدرات خارقة ليس الدفاع عن العدالة والقانون (هذا يأتي في السياق)؛ بل الخوف الكامن في الجذور... الشعور بعدم الطمأنينة الذي يولد الحاجة إلى البطولة.
الخوف والتخويف كانا عاملين دائمين متلازمين في الحياة وفي الأفلام والمنتجات البصرية بأسرها. يرقص تشارلي تشابلن في «أزمنة معاصرة»، (1936)، ممتطياً زلاجات رياضية، وكلما اقترب من حافة الطابق العلوي المفتوح، هددنا الوضع بأن يسقط تشابلن أرضاً، خصوصا أنه يؤدي حركاته من دون النظر إلى الوراء.
المشاهد الأولى للقطارات المتسارعة صوب الكاميرا، في حقبة العقد الأول من القرن الماضي، تلك التي جعلت بعض المشاهدين يرمون بأنفسهم وراء المقاعد اتقاء للخطر، كانت استخداماً ماهراً لذلك الخوف. حتى اليوم، إذا ما نجح الفيلم في إثارة الخوف، فإن الناتج هو زعزعة ثقة المشاهد في العالم الخارجي، ولو إلى حين.
حدث ذلك، على سبيل المثال، عندما عرض جورج أ. روميرو فيلمه المثير للتوتر «ليلة الموتى - الأحياء»، (1968)، وعندما أخرج داني بويل «بعد 28 يوماً أخرى»، (2002)، ويحدث دوماً كلما تعامل الفيلم مع عنصر الخوف مباشرة أو على نحو غير مباشر. لكن أفلام الزومبيز وكلاسيكيات الرعب الشهيرة، مثل «دراكولا» و«فرنكنستين» و«الرجل الذئب»، أشركت شخصياتها كما المشاهدين في تعميم احتمالات مستقبلية مطروحة. بَنت حكاياتها على البحث في المحتمل. أما تلك التي تقوم على البطولات الخارقة فهي غيّبت أي احتمالات وقفزت إلى تجسيد حال واقع يقبل عليه العاقل ليقبل حالة غير عقلانية وبذلك يشاركها كما هي.
الاستنتاجات القائمة على الربط بين أدب إدغار ألان بو وحالات البطولة الخارقة الحالية لا تتوقف فقط عند حقيقة أن التعامل قائم بين فرد يرى نفسه أضعف من الخيال فيحاول تصنيعه وتحقيق حلمه بالتحوّل إلى خرافة مستنداً إلى ذلك العامل النفسي بالخوف من الحياة والموت معاً، بل تمتد تلك الاستنتاجات صوب وضع أكثر إثارة وتعقيداً ويصب تماماً في الفيلم الجديد «شبح في الصدفة».
لقد لاحظ المعلق الخفي في «سقوط منزل آشر» أن لدى الشقيقين رودريك ومادلين آشر (كتب بو في تلك الرواية)، «تشابها حادا بين الأخ وأخته قبض على اهتمامي. كانا توأمين بينهما أواصر طبيعية واضحة». في إضافته اللاحقة يعيد كنه الملاحظة ويوحي بأنهما كانا أقرب لوجهي شخصية واحدة.
* المرأة المناوئة
حين يأتي الأمر إلى شخصية بطلة «شبح في الصدفة» فإن المسألة أكثر عمقاً. ما سبق من شخصيات رجالية هو التفسير الهيّن وغير المعمّق لحالة شيزوفرينية. أما بالنسبة لشخصية سكارليت جوهانسون، فإن الوجهان المتناقضان لا يعرفان حدوداً فاصلة. هما صلب شخصية واحدة تجمع في جذورها بقايا حياتها الأولى وكثيرا مما هي عليه الآن.
والاختلاف يمتد ليشمل جوانب أخرى.
حتى سنوات قريبة لم يقبل مشاهدو الأفلام على البطولات النسائية التي من هذا النوع. الفشل أصاب كثيرا من المحاولات السابقة. فيلم «ووندروومان» الذي سنشاهده بعد أسابيع قليلة، استغرق التحضير له سنوات كثيرة، كذلك «الشبح في الصدفة»، لكن الوضع الآن تغير، ما يتجاوب مع توجه شعبي عام بعدم الاعتراف بفوارق جنسية بين الذكر والأنثى. بذلك يمكن للمرأة أن تكون مناوئة للرجل في كامل صفاته وبكل استعدادها.
المرأة التي كانت دائماً ما تقف إما وراء الرجل لكي تساعده وإما ضده لكي تقضي عليه... الآن هذا لا يحدث. لا المرأة تحتاج لسلاح الأنوثة ولا الرجل صار يطلبه أساساً. مساواة من حيث لا تخدم المطلوب، وليس على النحو الذي لطالما طالبت به المرأة من حقوق متكافئة، بل هي الآن تنتزع ما تريده بالقوّة. في هذا الوضع، فإن الآية أصبحت معكوسة: الرجل الطيب هو الذي يقف في الخلفية. السيئ هو العدو. هي البطلة.
بما أن كل هذه الشخصيات البطولية نتاج حافز خوف نفسي يتصنّع البطولة وينشدها درءاً للخطر، فإن كلمات إدغار ألان بو تعود إلى الصدارة عندما نلحظ أن ثيماته المبنية على هذا المنحى، هي في واقعها دفاع عن بقاء الشخصيات التي تقود رواياته عقلانية في وسط ما هو غير عقلاني على الإطلاق. أبطاله هم المضاد لشخصيات البطولة الخارقة، لأن تلك هي نتاج الجنون وليس الانعكاس الحقيقي للبطولة.
نظرة واحدة على الطريقة التي تؤدي بها سكارليت جوهانسون دوريهما في «لوسي» و«شبح في الصدفة» تحيلنا إلى هذا المفهوم مجسداً... سكارليت تبدو واجمة، داخلية المشاعر، فاترة حيال الآخر بصرف النظر عن هويته، تستخدم أسلحتها من دون تردد خوفاً من ضعف الفاعلية إذا ما ترددت، والتردد هو التفكير، والتفكير سيحيل الشخصية إلى الواقع؛ وهذا ما لا ترغب فيه.
المهم أن المشاهد بات يشترك في الإيمان بفاعلية هذه البطولات وحدها. بذلك تحوّل من متابع لها يتسلّى بها ويحلم عبرها، إلى مؤمن بأنها شخصيات تمثّل الواقع الذي يجب أن يكون. بذلك، وكما أفصح ألان بو، فإن وعي المشاهد بالخرافة خدم زيادة إيمانه بها بدلاً من أن يضع حداً لها.
أفلام القوة الضاربة تكشف عن مخاوف نفسية عميقة
ملامحها الأولى من أدب إدغار آلان بو... والمرأة هي البطل
أفلام القوة الضاربة تكشف عن مخاوف نفسية عميقة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة