في واحد من أول قراراته فور توليه مهامه الرئاسية، وقع الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب على مذكرة رئاسية تؤكد انسحاب حكومة الولايات المتحدة الأميركية من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي، والتي كانت قد وقعت من قبل مع الكثير من الدول من بينها كندا وتشيلي وأستراليا واليابان، في شبكة من القواعد التجارية الدولية المعقدة، ومن المثير للاهتمام أنها لا تتضمن الصين.
وكانت اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي هي واحدة من الجهود السابقة لدى الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وكانت جزءا من استراتيجية أوسع تتعلق بتوسيع نطاق النفوذ الأميركي في آسيا، وإتاحة مركز لمراقبة الطموحات الاقتصادية والعسكرية الصينية بعد سبع سنوات من المفاوضات المكثفة.
ولم يكن قرار الرئيس ترمب من قبيل المفاجأة بحال. حيث وجه ترمب أثناء حملته الانتخابية الرئاسية انتقادات لاذعة ضد ما وصفه بـ«الاتفاقيات التجارية السيئة» أو «غير المنصفة» التي وقعت الولايات المتحدة عليها، زاعما أنها تسببت في فقدان المواطنين الأميركيين للكثير من الوظائف.
وبجرة قلم واحدة، أشار السيد ترمب إلى أنه يخطط لاتخاذ المزيد من المواقف الصارمة إزاء المنافسين الأجانب في جزء من استراتيجية «أميركا أولا» التي يتبناها. ومن واقع ذلك، أكد السيد ترمب على أنه لن يواصل العمل بالقواعد القديمة، وسوف ينأى - وبشكل فعال - عن العقيدة الجمهورية طويلة الأجل والراسخة التي تفيد بأن توسيع التجارة العالمية من المبادئ الجيدة للولايات المتحدة وللعالم أجمع؛ وأنه ينبغي على الولايات المتحدة المساعدة في كتابة قواعد التجارة الدولية من جديد.
* فقدان السمعة الجيدة
وبهذه الخطوة، فإن الولايات المتحدة تبعث بإشارات خاطئة إلى الدول الأعضاء في اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي عبر التخلي عن المعاهدة. وبعيدا عن التجارة، أصيب الزعماء في آسيا بالمفاجأة والذهول بعد استثمار الكثير من رأس المال السياسي في هذه الاتفاقية.
يقول ايسوار براساد، أستاذ السياسة التجارية في جامعة كورنيل، من خلال مقال في تقرير إخباري نشرته مجلة «نيوزويك» الأميركية مؤخرا: «هذه الخطوة المفاجئة والمبكرة للغاية من جانب إدارة الرئيس ترمب تضع العالم على أهبة الاستعداد بأن كافة التحالفات التقليدية، الاقتصادية منها والسياسية، للولايات المتحدة الأميركية باتت عرضة لإعادة التقدير وإعادة التفاوض من قبل الإدارة الجديدة. ومن شأن شعور كهذا أن يعود بتأثير سلبي وطويل الأمد على مقدرة الولايات المتحدة على الاحتفاظ بنفوذها وريادتها في الشؤون الاقتصادية والسياسية العالمية حيث ينظر إليها الآخرون باعتبارها شريكا غير جدير بالثقة ولا يمكن الاعتماد عليه».
وفي عهد الرئيس السابق أوباما، استخدمت الولايات المتحدة «المحور» الآسيوي في الدفع ضد المد الصيني، والذي كان يهدد - بمرور الوقت - بأن يحل محل عقود من الهيمنة والنفوذ الأميركي في القارة الكبيرة. ومع الصعود الصيني من حيث النفوذ، تسببت أيضا في توترات كبيرة مع جيرانها عبر التوسعات العسكرية التي اتخذتها، وسلوكها الملاحظ عبر المناطق المتنازع عليها في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي. وكان العالم ينظر إلى اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي كوسيلة من وسائل تعزيز الترابط ما بين البلدان، بما في ذلك الدول الآسيوية الصغرى في جنوب شرقي آسيا، مع الولايات المتحدة، والتي كانت تقوم مقام المناطق العازلة الافتراضية في مواجهة الصين.
يقول المحلل السياسي راجا موهان المتخصص في السياسات الآسيوية: «أسفر التخلي عن اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي من جانب الولايات المتحدة إلى حالة عارمة من عدم اليقين في المنطقة الأكثر حيوية في العالم من حيث النمو الاقتصادي، حيث دخل الحلفاء الإقليميون للولايات المتحدة – ومن أبرزهم اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية – في حالة من عدم اليقين إزاء تغير موازين القوى والنفوذ؛ وما يعنيه ذلك لمستقبل بلدانهم وشعوبهم».
وحتى الآن، وإلى جانب تايوان وفيتنام، كانت اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية – الحلفاء الثلاثة الرئيسيين للولايات المتحدة في المنطقة – قد تمتعوا بالضمانات الأمنية من جانب التواجد العسكري الأميركي، والاطمئنان السياسي من واقع القرار المبكر الذي اتخذته إدارة الرئيس السابق باراك أوباما بتركيز جهود السياسة الخارجية للولايات المتحدة على تلك المنطقة.
* الحلفاء يبحثون البديل
ومع ذلك، تعهدت بعض البلدان مثل أستراليا ونيوزيلندا بإنقاذ اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي بعد انسحاب الولايات المتحدة منها. وتأمل أستراليا، على وجه التحديد، في إنقاذ الاتفاقية من خلال تشجيع الصين وغيرها من البلدان الآسيوية على الانضمام إلى الاتفاقية.
وصرح ستيفن شيوبو وزير التجارة الأسترالي لشبكة «إيه بي سي» الإخبارية الأميركية يقول إنه يمكن للصين وإندونيسيا الانضمام إلى اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي لملء الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة بانسحابها منها. وقال السيد شيوبو للشبكة: «لم تدخل اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي حيز التنفيذ الفعلي حتى الآن، حيث لم تصادق عليها الكثير من الدول المشاركة فيها. ومن شأن الهيكل الأصلي للاتفاقية أن يمكن البلدان الأخرى من الانضمام إليها. وإنني أعلم على وجه التأكيد أن إندونيسيا قد أعربت عن رغبتها في الانضمام، وسوف يكون المجال مفتوحا أيضا أمام الصين إن استطعنا إعادة صياغة النظام الأساسي للاتفاقية».
وقال وزير التجارة النيوزيلندي إن وزراء التجارة في الدول الأعضاء في اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي سوف يجتمعون خلال الشهور القليلة المقبلة لبحث السبل المعنية بإنقاذ الاتفاقية التجارية. ووصف رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي الاتفاقية بأنها محرك الإصلاح الاقتصادي، إلى جانب أنها بمثابة الثقل الموازن للصعود الصيني في المنطقة، وهي ليست من الدول الأعضاء في الاتفاقية.
وأعرب رئيس الوزراء النيوزيلندي بيل إنغليش، في أعقاب المحادثة الهاتفية مع الرئيس ترمب، عن مخاوفه من انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي.
وصرح السيد إنغليش لإذاعة راديو نيوزيلندا يقول إن «هناك مخاوف حقيقية من أن الانسحاب من تلك الاتفاقية قد يشير إلى حالة من الانسحابات التالية لبعض من المصالح الأميركية في المنطقة. ونحن لا نريد لذلك أن يحدث».
ويخشى المحللون أنه على الرغم من أن الدول الأعضاء في الاتفاقية قد أعربوا عن التزامهم المتواصل حيال الاتفاقية، ولكن من دون وجود الولايات المتحدة، والتي كانت أكبر اقتصاد بين الدول الأعضاء في الاتفاقية، يخشى البعض من بقاء الاتفاقية على قيد الحياة لفترة طويلة.
* فرصة الصين السانحة
ولكن تأثير قرار الرئيس الأميركي من المرجح أن يمتد لما هو أبعد من التجارة، حيث يفسح المزيد من المجال أمام الصين لفرض نفوذها. ومع الانسحاب الأميركي من الاتفاقية التي تضم 12 من الدول الأعضاء، يقول المحللون إنها ميزة تصب مباشرة في الصالح الصيني.
ووفقا للخبير الاقتصادي دروفا جايشانكار: «يمهد خروج الولايات المتحدة من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي الطريق أمام الصين لفرض الهيمنة والنفوذ الكبيرين على اقتصادات جنوب شرقي آسيا، وحتى خط التماس مع شرقي أفريقيا وربما إلى أجزاء من أوروبا كذلك».
وتسعى الصين في الوقت الراهن وراء تنفيذ مشروع «حزام واحد وطريق واحد» الهادف إلى إعادة بناء طرق التجارة البرية والبحرية القديمة، والتي تربط أكثر من 60 دولة حول العالم بمنطقة الشرق الأوسط في المقام الأول ثم بقارة أوروبا. ومنذ اعتلائه سدة الحكم في بكين، سعى الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى توسيع الروابط التجارية الصينية مع جيرانها، وشرع في تنفيذ مشروعات البنية التحتية الطموحة المصممة والموجهة لإعادة تنشيط طرق التجارة القديمة.
يقول ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، في تغريدة له على موقع «تويتر»: «بصراحة شديدة، إن الصينيين يحتفلون بقرار الانسحاب كثيرا»، مضيفا أن الصين قد تكون من أكبر المستفيدين من خطوة الرئيس ترمب. ومن شأن الانسحاب الأميركي من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي أن يسبب بطئا ملحوظا في النمو الاقتصادي الأميركي، ويكلفه المزيد من فقدان فرص العمل الداخلية، ويضعف من موقف الولايات المتحدة على المسرح العالمي، ولا سيما في آسيا.
ومن المثير للاهتمام، أنه في نفس اليوم الذي وقع فيه الرئيس ترمب على قرار انسحاب حكومته من الاتفاقية، كانت هناك بعض الأخبار السارة الخاصة بالمبادرة الصينية المشار إليها. وهي أخبار تتعلق بمصرف تنمية مشروعات البنية التحتية الآسيوي متعدد الجنسيات، ذلك الذي أسسته بكين في عام 2015 بهدف تمويل مشروعات البنية التحتية في جميع أنحاء آسيا، حيث تلقى البنك الجديد طلبات انضمام من 25 من الأعضاء الجدد المحتملين من أفريقيا، وأوروبا، وجنوب أميركا، إضافة إلى المساهمين في المصرف والبالغ عددهم 57 مساهما حاليا. واتخذت الولايات المتحدة موقفا معاديا ضد تأسيس البنك، حيث اعتبرته تحديا قائما في وجه المؤسسات المالية والمصرفية الحالية، مثل البنك الدولي، ورفضت الانضمام إليه، كما وجهت الحكومة الأميركية الانتقادات إلى الدول الأخرى التي انضمت إلى البنك، بما في ذلك المملكة المتحدة.
ومن المثير للانتباه، تحذير الرئيس السابق أوباما مرارا وتكرارا من أن الفشل في تمرير اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي سوف يجعل بكين تحل محل واشنطن في تحريك قواعد اللعبة في التجارة العالمية.
* الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة
مع سقوط اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي، سعت الصين بالفعل إلى الاستفادة من ذلك عبر الدفع في اتجاه استكمال اتفاقية تجارية بديلة، عرفت باسم اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة. وهذه الاتفاقية هي عبارة عن مفاوضات تسعى إلى إنشاء اتفاقية واحدة للتجارة الحرة بين عشر من الدول الآسيوية الأعضاء في رابطة الآسيان، وهي بروناي، وكمبوديا، وإندونيسيا، ولاوس، وماليزيا، وميانمار، والفلبين، وسنغافورة، وتايلاند، وفيتنام... إلى جانب ست دول أخرى تربطها مع دول رابطة الآسيان اتفاقية للتجارة الحرة، وهي أستراليا، والصين، والهند، واليابان، وكوريا الجنوبية، ونيوزيلندا.
ويسعى هذا التكتل الاقتصادي الكبير إلى خلق التكامل الاقتصادي الإقليمي، مما يؤدي إلى إيجاد أكبر كتلة تجارية إقليمية في العالم، تلك التي تشكل 45 في المائة من تعداد سكان العالم، ومع الناتج المحلي الإجمالي الشامل بمقدار 21.3 تريليون دولار. ويهدف هذا التكامل الاقتصادي الإقليمي إلى تغطية التجارة في السلع والخدمات، والاستثمار، والتعاون الاقتصادي والتقني، والمنافسة، والملكية الفكرية.
غير أن اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، ذات الرعاية الصينية، هي أضيق طموحا من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي، حيث تسعى فقط إلى مجرد تخفيض أو إلغاء التعريفة الجمركية على التجارة مع الصين ودول أخرى غيرها في جنوب شرقي آسيا، مثل أستراليا، والهند، واليابان، وكوريا الجنوبية، ونيوزيلندا. وهي لا تهدف إلى ذلك النوع من التكامل العميق الذي تعد به اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي، ولكن الصين تفضلها على هذا النحو: إذ أن اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة لا تشتمل على أي قدر من الحماية البيئية أو العمالية الذي تعتبره بكين تقييدا في المقام الأول.
كذلك، ووفقا لتقديرات مجلس خبراء الاقتصاد التابع للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، فإن المصادقة على وتمرير اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة من شأنهما أن يؤدي إلى فقدان حصة السوق بين مختلف الصناعات الأميركية والتي تعمل في الوقت الراهن على تصدير أكثر من 5 مليارات دولار من السلع إلى اليابان وحدها.
* موقف الهند
عندما انسحب الرئيس دونالد ترمب من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي، كان هناك شعور من الارتياح في الهند، حيث كانت هناك قطاعات كبيرة في البلاد، مثل الملابس والأدوية، تستعد لتلقي ضربة جدا موجعة.
وكان سودهير دهينغرا، العضو المنتدب في شركة أورينت كرافت، ومقرها في نيودلهي، وهي من أكبر شركات تصدير الملابس في الهند، يساوره الكثير من القلق بعد الإعلان عن اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي.
وكان السبب وراء ذلك أن الاتفاقية كانت سوف تجعل من الصادرات الهندية أقل قدرة على المنافسة مع تخفيض الرسوم الجمركية، وتمنح دولا مثل فيتنام وماليزيا أفضلية الوصول بمنتجاتها إلى الأسواق في الولايات المتحدة واليابان.
ويصف دهينغرا قرار الولايات المتحدة بالانسحاب من الاتفاقية من الأخبار السارة للغاية.
وقال مسؤول بارز في وزارة التجارة الهندية، وكان يتحدث بشرط عدم الكشف عن هويته لوسائل الإعلام، إنه ربما تكون الهند هي المستفيد غير المقصود من قرار السيد ترمب، وأضاف المسؤول الهندي يقول: «كانت هناك ضغوط من اليابان وغيرها من الدول الأعضاء المشتركة في اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي واتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة لكي تجعل الاتفاقية الأخيرة أكثر طموحا من جانب حقوق الملكية الفكرية والاستثمار، وهو الأمر الذي تعارضه الهند كثيرا. وإننا نأمل لمثل هذه الضغوط أن تهدا الآن»، محذرا من أن الهند تراقب الوضع المتطور عن كثب.
ويقول كافالجيت سينغ، مدير معهد ماديام لأبحاث السياسات ومقره في دلهي: «حتى الآن، ظلت الهند هي الطرف المتلقي لاتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة. ونحن نأمل الآن، أن تكون الدول الأعضاء الأخرى في اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة أكثر قدرة على التكيف إزاء المطالب الهندية بوصول أكبر لأسواق الخدمات للعثور على فرص العمل للعمال المهرة من مواطنيها. وجهود نقل الأحكام الرئيسية من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي إلى اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة قد لا تكلل بالنجاح الآن».
وقال بيسواجيت دهار، أستاذ الاقتصاد في جامعة جواهر لال نهرو، إنه إذا وافقت الصين على قيادة اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي، فسوف يكون الموقف أكثر تعقيدا بالنسبة للهند. وأضاف يقول محذرا: «ينبغي علينا الانتظار ومراقبة الأوضاع المتطورة. ولا ينبغي أن نصرف أعيننا عن الأمر تماما».
الانسحاب الأميركي من الشراكة عبر الهادي... الصين غانمة والهند في راحة
أطلق طموح بكين للسيطرة على اقتصاد شرق آسيا باتفاقية بديلة
الانسحاب الأميركي من الشراكة عبر الهادي... الصين غانمة والهند في راحة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة