كان الرئيس فرنسوا هولاند يستعد لمشاهدة مسرحية «المحكومون»، الصيف الماضي، عندما وصلته مكالمة تخبره بوقوع حادث إرهابي في مدينة نيس، جنوب البلاد. وكان طبيعيًا أن يلغي موعده ويتفرغ لمعالجة واحد من أكثر الأحداث خطورة في ولايته الرئاسية التي تقارب على الانتهاء. لكن بطلة المسرحية، الممثلة الشابة لآدلين ديرمي (27 عامًا)، حفظت ذلك التاريخ لأنه أفشل حفلة إطلاق المسرحية وحرمها من استعراض موهبتها أمام رئيس البلاد وحشد من النقاد.
تتميز ديرمي بقدرة فريدة على تقمص شخصيات في غاية التنوع، وربما التناقض. إن وجهها الذي يرى النقاد أنه يحاكي الجمال الكلاسيكي لوجوه النساء المرسومات في لوحات عصر النهضة، يتيح لها أن تكون مقنِعة في دور «خاتون» أو خادمة، أميرة أو متسولة، امرأة من القرون الغابرة أو في غاية المعاصرة. هكذا، تتنقل ديرمي منذ سنوات بخفة ورشاقة بين أكثر الأدوار الدرامية حزنًا ومأسوية من جهة، ومن جهة أخرى أكثر الشخصيات الكوميدية فكاهة ومرحًا. وهي ما زالت تنهل بشغف من روائع المسرح الفرنسي والعالمي، بقديمه وحديثه ومعاصره.
والآن بدأت السينما «تغمز» لهذه الجنية الموهوبة الواعدة، ما يدعو إلى التكهن بأنها في طريقها لأن تحتل موقعًا بين نجمات الفن السابع الساطعات على الساحة الفرنسية، وقد تتجاوزها إلى العالمية. وما أكثر النجوم الذين بدأوا سيرتهم الفنية فوق الخشبات قبل الانتقال إلى أمام الكاميرات. ويرى النقاد أن آدلين، ذات الوجه الذي يوحي بالبراءة، تتحلى بمقومات تصلح للشاشة الكبيرة، ليس أقلها مشيتها المتبخترة الأثيرة وقوامها الرشيق. وهناك بسمتها الطبيعية وعفويتها في الأداء وثقتها في حضرة ممثلين وممثلات أكثر منها خبرة وشهرة.
ومن المحطات المهمة التي مرّت بها، يتوقف النقاد عند أدائها في مسرحية «المحكومون» التي استلهمها المخرج المسرحي البلجيكي إيفو فان هوف من فيلم شهير يحمل العنوان نفسه. وهو الفيلم الذي أخرجه الإيطالي لوكينو فيسكونتي، عام 1969. وقُدمت المسرحية للمرة الأولى الصيف الماضي ضمن مهرجان مدينة آفينيون المسرحي الدولي (جنوب فرنسا). وأين؟ على مسرح قاعة الشرف في «قصر البابوات». إن هذا المكان هو معبد عشاق المسرح الأوروبيين، يثير رهبة الممثلين والمخرجين لأن بلوغه يترك علامة بارزة في سيرهم الذاتية الفنية. لكن حادثة أكثر مأساوية من جو المسرحية الدرامي حصلت في أمسية إطلاق المسرحية. ففي ذلك اليوم، 14 يوليو (تموز) 2016، يوم العيد الوطني الفرنسي، كان هولاند، حاضرًا في آفينيون لمشاهدة المسرحية والتمتع بأداء الممثلة الموهوبة التي سمع عنها. سوى أنه، وهو يهمّ بدخول القصر، أتاه خبر العملية الإرهابية في مدينة نيس التي أودت بحياة 86 شخصًا وإصابة مئات آخرين. ولا نعرف إن كان الرئيس قد عاد لمشاهدة «المحكومون» مع بدء عرضها في باريس، حاليًا.
تستعد آدلين ديرمي، في إطار الموسم الجديد لفرقة «الكوميدي فرانسيز»، لتأدية دور خادمة محتالة تسعى إلى إغراء مخدومها. وهو نص قديم بعنوان «الأستاذ الصغير معاقبًا» ألفه الكاتب الفرنسي ماريفو عام 1734. وعندما عرضت المسرحية في تلك الفترة، قوبلت باستهجان النقاد وصفير الجمهور ونفوره. لقد كان موضوعها سابقًا لأوانه ولأخلاقيات ذلك العصر. كما تتهيأ الممثلة الشابة للمشاركة في مسرحيات كلاسيكية أخرى، منها «كاره البشرية» للكاتب الشهير موليير، حيث تؤدي دور الفتاة «سَليمن».
ومن يطلع على مسيرة ديرمي المسرحية الحافلة على الرغم من قصر عمرها، يظن أنها ولدت وهي تمثل. لكن من المفارقات أن وقوفها على الخشبة جاء متأخرًا نسبيًا. فهي كانت في طفولتها ومراهقتها تحلم بالرقص وتتوق إلى التألق كراقصة. ولم يدُر في خلدها بتاتًا أنها «ستنحرف» نحو المسرح. وفي سن الخامسة التحقت بفرقة رقص متواضعة في بلدتها «نياتل غودو». وشجعتها أسرتها البسيطة المؤلفة من والديها وأخت وأخ أكبر منها، على المضي في درب الرقص. وهي ما زالت تزور تلك البلدة الصغيرة المغمورة، شمال فرنسا، حالما تسنح لها أي فرصة، «ولو ليوم أو يومين» حسب قولها، مؤكدة تعلقها بالأواصر الأسرية على الرغم من انهماكها بالبروفات والعروض المتعاقبة.
بعد تلك التجربة المدرسية المبكرة البريئة في الرقص، تابعت آدلين ديرمي دروسًا لثلاث سنوات في هذا الفن في مدينة ليل، كبرى مدن شمال البلاد. وهناك، أفهمها الأساتذة أنها متفوقة تعبيريًا لكنها ليست على ما يرام تقنيًا، وبالتالي فإنها أصلح للمسرح. وسواء أقنعتها النصيحة أم لا، فإنها هبطت إلى العاصمة باريس وتسجلت في معهد «فلوران»، أشهر المدارس الخاصة لفنون الأداء. وعملت نادلة في مطعم لتأمين مصاريفها ودفع إيجار شقة بسيطة تقاسمتها مع إحدى صديقاتها. كل ذلك، وهي لم تكن قد حضرت بعد أي مسرحية في حياتها. لاحقًا، نجحت في مسابقة القبول في «كونسرفتوار» باريس، الأمر الذي شكل انعطافًا حاسمًا في مسيرتها.
ثم جاءت الصدفة لكي تلعب دورها وتختزل الزمن. ففي الكونسرفتوار، اكتشفتها مورييل ماييت هولتز، المديرة العامة لفرقة «الكوميدي فرانسيز» العريقة، آنذاك. ومنذ البداية عرفت أنها أمام موهبة خطيرة وقامت بإسناد أدوار خارجية لها، أي كفنانة ضيفة من دون أن تكون عضوًا دائمًا. ومنذ البداية، فرضت آدلين نفسها بقوة أدائها وتفانيها في العمل، إلى أن أقر مجلس إدارة الفرقة توظيفها كعضو شريك، أوائل العام الماضي. والبقية تعرفونها... أو أقله قسمًا وافيًا منها.
آدلين ديرمي نجمة جديدة على مسرح «الكوميدي فرانسيز»
عملية إرهابية حرمت الممثلة الصاعدة من موعد مع الرئيس الفرنسي
آدلين ديرمي نجمة جديدة على مسرح «الكوميدي فرانسيز»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة