في لحظات خاطفة كلمح البصر، شاهدت أم محمد الصالحي، ابنها الوحيد وهو يسقط أمام عينيها مضرجا بدمه... أنينه ضاع وسط صوت الرصاصات الست التي أطلقها ضابط إسرائيلي من «مسافة صفر» أمام عينيها، لكنها سمعت حشرجة أنفاس ابنها الأخيرة، بينما كان ينزف عمره كله، وينزف معه أحلامها به عريسًا تزفُّه إلى عروسه بعد وقت، وسارع الاحتلال الإسرائيلي إلى وضع حد له، في عملية إعدام ميدانية وحشية مباشرة، جرت في مخيم الفارعة أمس، جنوب بلدة طوباس، في شمال الضفة الغربية.
كل ما تذكره الوالدة المكلومة، هو أن جلبة كبيرة انطلقت في ساعات الفجر الأولى، في فناء منزلها الخارجي. استيقظت من نومها فزعة، تصرخ بصوت أيقظ ابنها محمد (32 عاما) الذي هرع نحو الفناء الخارجي فزعا مثلها. اندفع الشاب ظانًا أن لصوصا داهموا البيت، قبل أن يتطور الموقف، في ثوان، إلى مشهد تراجيدي، وتقف الأم على حقيقة المأساة التي اقتحمت حياتها: جندي إسرائيلي يصوب سلاحه نحو ابنها... يطلق 6 رصاصات متتالية عليه... يسقط الشاب أمام عيني والدته.
تقول أم محمد، التي ناهزت الستين من عمرها، ولم تفق من صدمتها بعد ساعات من فقدانها ولدها: «خرج ليرى من هناك... فقتلوه وتركوه على الأرض وحبسوني في غرفة».
لكن ما لم تقله الوالدة، ونقلته نساء أخريات، عن لسانها المرتبك، هو أن محمد استل سكينا لتقطيع الفواكه، لمواجهة من اعتقد أنهم لصوص. وعندما وقع نظره على الجنود، صاح فيهم متسائلا عن سبب اقتحامهم المنزل بتلك الطريقة، فرد أحدهم بإعدامه فورا.
مصادر جيش الاحتلال الإسرائيلي، سارعت إلى اتهام الصالحي بمحاولة طعن الجنود «الذين كانوا ينفذون حملة اعتقالات في الضفة الغربية». وكان جنود من وحدة النخبة «دوفدفان»، يقومون بتنفيذ عملية في الفارعة لاعتقال مطلوبين، وفقا لما قالته المصادر. وبحسب ناطق باسم الجيش الإسرائيلي، توجه الفلسطيني مسرعا باتجاه الجنود، وكان يحمل سكينا في يده، ولم يمتثل لأوامرهم بالتوقف.
وقال الجيش في بيان أيضا إن الجنود بدأوا في عملية اعتقال، وعندما استمر المشتبه به في التقدم نحوهم، جرى إطلاق النار عليه، والإعلان عن وفاته في وقت لاحق. واعتقل الإسرائيليون 4 فلسطينيين من مخيم الفارعة، و5 آخرين من مناطق أخرى في الضفة الغربية.
وأثار الاتهام الإسرائيلي للصالحي بمحاولة طعن جنود، الجدل مجددا حول «نية الطعن بسكين»، وهي التهمة الجاهزة التي تتذرع بها القوات الإسرائيلية بعد كل عملية قتل، قبل أن تظهر لقطات فيديو مسجلة على حواجز أو في ساحات أخرى، كيف أعدم الجنود شبابا بدم بارد، ولم يكونوا يشكلون خطرا على الإطلاق، مما عزز الشكوك الفلسطينية حول بطلان الرواية الإسرائيلية، خصوصا أنه كان على الجنود أن يلتزموا، في مثل هذه الحالة، بتعليمات مسبقة حول «تحييد» أي «مهاجم»، وليس قتله. وهذا يعد مثار جدل آخر داخل إسرائيل نفسها.
من جهتها، اتهمت وزارة الخارجية الفلسطينية، قوة من جيش الاحتلال، بإعدام الصالحي «بدم بارد أمام والدته، وتركه ينزف على الأرض حتى (استشهاده) وعدم السماح بإسعافه».
وقالت الخارجية في بيان لها، إن «هذه الجريمة تأتي تنفيذًا لقرارات المستوى السياسي في إسرائيل، والأوامر العسكرية الإسرائيلية التي تبيح استهداف المواطنين الفلسطينيين العزل وإعدامهم ميدانيا. وهي امتداد لمسلسل الإعدامات الميدانية المتواصلة ضد أبناء شعبنا، وبعد ساعات قليلة من التهديد والوعيد الذي أطلقه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ضد الفلسطينيين».
وأدانت الخارجية بأشد العبارات، الجريمة البشعة والوحشية، وحذرت من التعامل مع الإعدامات الميدانية على أنها أمر مألوف ومعتاد. واستهجنت صمت المجتمع الدولي والمؤسسات الأممية المختصة أمام تكرار هذه الجرائم.
وطالبت الخارجية المنظمات الحقوقية والإنسانية المختصة، المحلية والإقليمية والدولية، بسرعة توثيق هذه الجريمة وغيرها، توطئة لرفعها إلى المحكمة الجنائية الدولية. وقالت، «إنها إذ تتابع باهتمام بالغ، ملف الإعدامات الميدانية مع الدول كافة والمحاكم الوطنية والدولية، وإذ تحمل حكومة نتنياهو المسؤولية الكاملة والمباشرة عن التصعيد الحاصل في الأوضاع وتداعياته، فإنها تطالب المجتمع الدولي، وفي مقدمته مجلس الأمن، بتحمل مسؤولياته القانونية والأخلاقية في توفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني، وتدعوه إلى مساءلة ومحاسبة قادة الاحتلال على جرائمهم».
ويعتقد كثير من الفلسطينيين أن قتل الصالحي بهذه الطريقة جزء من الانتقام الذي تحاول إسرائيل تنفيذه ردا على قتل 4 من جنودها في عملية دهس قبل أيام.
وقال الناطق باسم حركة فتح، منير الجاغوب، في بيان إن «جنود الاحتلال الإسرائيلي، وبتحريض من نتنياهو ووزرائه وقادة أركان جيشه، يقومون بالإعدامات الميدانية للفلسطينيين العزل بطريقة منظمة وممنهجة، وليست عفوية، أو بقرارات ميدانية تحت دواع أمنية، في محاولة منهم لإعادة هيبة جيش الاحتلال التي اهتزت أمام الجماهير الإسرائيلية، وذلك للتغطية على هروب جنودهم في القدس».
واتهم الجاغوب جيش الاحتلال بأنه «وصل إلى مستوى من الفاشية والإرهاب لا يضاهيه إرهاب في العالم، وهذا الجيش لا يجيد سوى إعدام الفلسطينيين؛ صغارا وكبارا، ذكورا وإناثا، وبدم بارد، على الحواجز والطرقات وفي منازلهم وهم آمنون».
وحذرت حركة فتح حكومة الاحتلال من استمرار حالات الإعدام والاعتقالات، قائلة، إن إسرائيل ستتحمل تبعات كل ما تقوم به من أعمال إجرامية، وردود الفعل الفلسطينية.
لم ينتظر جثمان الصالحي كثيرا في المستشفى التركي بمدينة طوباس، ونقلته السلطة الفلسطينية إلى مشرحة جامعة النجاح، لتوثيق جريمة قتل أخرى، تضاف إلى ملفات مكدسة، يفترض أنها رفعت، أو سترفع، في يوم ما، إلى محكمة الجنايات الدولية.
وحدها أم محمد، ستنام وتصحو وتحاول أن تفهم كيف تحول الحلم إلى كابوس دامٍ، وسيفتقده أطفال المدارس في المخيم، حيث اعتادوا شراء أكواز الذرة المشوية منه... سيفتقدون محمد الذي صار «بياع الذرة»، بعد خروجه من المعتقل الإسرائيلي، حيث أمضى 3 سنوات.
في ركن جانبي... عربة فارغة لبيع الذرة.
جنود الاحتلال يطلقون النار من «مسافة صفر» على فلسطيني في مخيم الفارعة
شاهدته والدته يسقط برصاصات دفنت حلمها بزفافه وجعلت حياتها كابوسًا
جنود الاحتلال يطلقون النار من «مسافة صفر» على فلسطيني في مخيم الفارعة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة