«إرهاب رأس السنة» رسالة قاسية إلى تركيا

وسط همومها السياسية محليًا وإقليميًا

«إرهاب رأس السنة» رسالة قاسية إلى تركيا
TT

«إرهاب رأس السنة» رسالة قاسية إلى تركيا

«إرهاب رأس السنة» رسالة قاسية إلى تركيا

جاءت بداية عام 2017 في تركيا ساخنة وثقيلة، وهي تنبئ بأنه لن يكون أقل من سابقه، من حيث وطأة الإرهاب الذي حوّل عام 2016 إلى واحد من أسوأ الأعوام في تركيا وغيرها، من حيث العمليات الإرهابية وتعددها وتنوع أساليبها وتأثيرها الموجع على مختلف مناحي الحياة، وفي مقدمتها السياحة والاستثمار.
5 أيام فقط من العام شهدت هجومين إرهابيين يؤكدان أن تركيا دخلت دوامة الإرهاب، وأنها تخوض حربًا حقيقية على الجبهة الداخلية، فضلاً عن حربها على الجبهة الخارجية منذ دخولها سوريا في 24 أغسطس (آب) 2016، عبر عملية «درع الفرات» التي تستهدف «داعش» والميليشيات الكردية الانفصالية في سوريا معًا، لمنعهم من الاقتراب من حدودها الجنوبية.
كان المئات يحتفلون في أجواء من المرح والسعادة باستقبال العام الجديد في مطعم ونادي «رينا» الليلي الفخم، في منطقة أورتاكوي بمدينة إسطنبول، كبرى مدن تركيا وعاصمتها الاقتصادية، الذي يعد ملتقى الصفوة في تركيا. وبعد منتصف الليل بـ75 دقيقة فقط، كان الموت يدق الأبواب.
فجأة انشقت الأرض عن قاتل محترف داعشي عالي التدريب - بحسب ما وصفته سلطات التحقيق التركية - يفتح نيرانه على الساهرين لاستقبال العام الجديد، فيوقع 39 قتيلاً و65 مصابًا، غالبيتهم من العرب والأجانب. وقد أعلن تنظيم داعش الإرهابي المسؤولية عن هذا الحادث.
وبعد 4 أيام فقط، ووسط استمرار التحقيقات المعقّدة في الهجوم الإرهابي المسلح على نادي «رينا»، استقبلت تركيا ضربة إرهابية جديدة في مدينة إزمير. وحددت سلطات التحقيق في هجوم «رينا» هوية المنفذ بعد طول ارتباك، وتقديم أكثر من صورة لمنفذين محتملين، إذ قال نائب رئيس الوزراء ويسي كايناك، الخميس، إنه من الأويغور، وهي أقلية من أصول تركية تشكل نسبة عالية من سكان إقليم سنكيانغ - أو تركستان الشرقية - في الصين، وأنه «على الأرجح» أيضًا لا يزال في إسطنبول، وهناك من ساعده داخل تركيا.

عملية إزمير
أما في مدينة إزمير (غرب تركيا)، فوقع هجوم بأسلوب مختلف، من خلال استخدام السيارات المفخخة والقنابل وبنادق الكلاشينكوف الرشاشة، إلا أن تدخل قوات الأمن في الوقت المناسب حال دون وقوع مجزرة ثانية، ليسقط قتيلان، أحدهما شرطي، وآخران من الإرهابيين، ويهرب ثالث، وتكون الحصيلة 7 مصابين.
وهنا أعلن كايناك أن هجومًا أكبر كان يجري التخطيط له فيما يبدو، استنادًا إلى كمية الأسلحة التي عثر عليها في موقع تفجير السيارة المفخخة في إزمير، التي لم تكن الوحيدة إذ فجّر الخبراء سيارة أخرى كانت معدة للتفجير. وقال مسؤولون إن من يشتبه بأنهم مسلحون أكراد انفصاليون اشتبكوا مع الشرطة التركية، الخميس، وفجّروا سيارة مفخخة بعد توقيف مركبتهم في نقطة للتفتيش، مما أدى إلى مقتل شرطي وموظف في محكمة.
ولقد سلّط الانفجار وتبادل إطلاق النار خارج المحكمة الرئيسية في إزمير - ثالث أكبر مدينة تركية - الضوء على الأوضاع الأمنية المتدهورة في البلاد بعد 5 أيام من هجوم إسطنبول، بينما أوضح إيرول آي يلديز، والي المدينة، أن الأسلحة التي ضبطها شملت بنادق كلاشينكوف وقنابل يدوية وقذائف صاروخية، لافتًا إلى أن النتائج الأولية تشير إلى تورط حزب العمال الكردستاني.
هذا وذكر مصدر بالشرطة أنه تجري ملاحقة إرهابي ثالث بعد مقتل اثنين في الاشتباكات، كما اعتقل لاحقًا شخصان يعتقد أنهما باعا السيارة التي استخدمت في الهجوم للمهاجمين، وأضاف أن قوات الأمن فجّرت سيارة مفخخة ثانية اشتبهت الشرطة في أن المهاجمين خططوا للهروب فيها.

تحقيقات معقّدة
من خلال تحقيقات شديدة التعقيد والسرّية أيضًا، يظهر أن السلطات التركية حددت بدرجة كبيرة هوية منفذ هجوم رأس السنة على مطعم ونادي «رينا» في إسطنبول. وكما سبقت الإشارة، قال نائب رئيس الوزراء كايناك إن المسلح «الهارب حتى الآن» من أقلية الأويغور المسلمة في تركستان الشرقية (سنكيانغ بغرب الصين) «على الأرجح»، وأن أجهزة الأمن التركية حددت «مكان اختبائه المحتمل في إسطنبول»، في حين تتابع ظهور مقاطع فيديو رصدت تحرّكاته من كونيًا إلى إسطنبول، وأماكن وجوده قبل وبعد تنفيذ هجومه المسلح. وذهب نائب رئيس الوزراء المتحدث باسم الحكومة التركية نعمان كورتولموش إلى أنه تلقى مساعدة من داخل المطعم، في الوقت الذي عبر فيه كثير من المواطنين الأتراك عن اعتقادهم في ضلوع أميركي في الهجوم.
وقال كايناك إن منفذ الهجوم تلقى تدريبًا خاصًا، وأنه عضو في خلية.
وحسب المعلومات المتوافرة، «نفذ الهجوم منفردًا»، خلافًا لما ذكره بعض الناجين من أن هناك أكثر من شخص شاركوا في الهجوم. وأضاف أنه رغم عدم استبعاد احتمال هروبه خارج البلاد، فإن الأرجح أن تؤدي العمليات الأمنية داخل تركيا إلى الوصول إليه.
وبالفعل، تم تشديد الإجراءات الأمنية على الحدود التركية مع اليونان وبلغاريا، وعلى حدود تركيا المختلفة، وفي الموانئ والمطارات، ويجري تفتيش السيارات والأشخاص الذين يغادرون الأراضي التركية.
كذلك عُلّقت صور للمهاجم على المركز الحدودي في كابي كولي، في إدرنة القريبة من إسطنبول، على الحدود البلغارية، حيث يقوم عناصر أمن بالتدقيق في جوازات السفر.
وينفي هذا ما تردّد من أنباء عن هروب الإرهابي منفّذ الهجوم إلى مدينة الرقّة، معقل «داعش» في شمال سوريا. وكان أحد مسؤولي صفحة «الرقّة تذبح بصمت» المعنية بأخبار المدينة السورية التي جعلها التنظيم الإرهابي عاصمة له، ورصد الانتهاكات من قبل عناصر «داعش» في المدينة، قد أكد أن هناك أنباء عن احتفال عناصر من «داعش» بإطلاق الرصاص ابتهاجًا بوصول منفذ الهجوم إلى الرقّة.
وحسب كايناك، «هوية الإرهابي حددتها قوات الأمن، كما تم تحديد أماكن وجوده المحتملة، وكشفت صلاته أيضًا خلال التحقيقات».

«الإرهابي الشبح»
على صعيد آخر، نفذت الشرطة التركية عملية مداهمة في حي سليم باشا، على أطراف إسطنبول، فجّر الخميس، اعتقلت خلالها عددًا من المشتبه بأنهم على صلة بالهجوم. وداهمت شرطة مكافحة الإرهاب مصحوبة بقوات من الدرك وقوات خاصة مجمعًا سكنيًا في بلدة سليم باشا الساحلية، الواقعة غرب المدينة، بعد تلقي معلومة عن وجود أفراد بداخله ربما ساعدوا منفذ هجوم «رينا».
هذا وذكرت وسائل الإعلام أن أويغوريين من بين المعتقلين، لكن لم يتضح عدد الأشخاص الذين أمكن اعتقالهم منذ وقوع الهجوم، لكن العدد يرجح أن يكون 36 شخصًا على الأقل يعتقد أنهم - أو بعضهم - على صلة مع منفذه. ولقد نفذت قوات الأمن التركية على مدى 4 أيام حملات في مدن قونية وإزمير وإسطنبول لضبط من يشك بأن لهم صلة بالمنفذ الذي لا يزال هاربًا وكأنه شبح. وتعتقد السلطات التركية أن هذا الإرهابي «الشبح» الذي نشرت له فيديوهات وصور كثيرة ترصد تحركاته، قبل الهجوم وبعده، قد تلقى مساعدة من آخرين، مع أنه نفذ جريمته منفردًا. وهو ما أكده أيضًا كورتولموش، قائلاً إن منفذ الهجوم ربما كان له شركاء آخرين داخل الملهى.
وأردف كورتولموش إن «هذا الاستنتاج نابع من عدم إقدام الإرهابي الذي نفذ الهجوم بحرفية عالية، على الانتحار في مكان الجريمة».
في المقابل، لا يستبعد المحققون تورّط شخص آخر في الهجوم، بعد تحليل الفيديوهات التي سجلتها كاميرات النادي والكاميرات المجاورة له. وفي حين ذكر نائب رئيس الوزراء أن مرتكب مذبحة إسطنبول يعتقد أنه جاء إلى تركيا من جمهورية قيرغيزستان، فإن التحقيقات لا تزال تدرس خيارات أخرى، من بينها أنه ربما جاء من سوريا.
إذ كشفت التحقيقات أن المنفذ جاء إلى تركيا برفقة زوجته وطفليه في 20 من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ثم ذهب إلى مدينة قونية (في هضبة الأناضول) لمقابلة أحد عناصر «داعش»، ويدعى «الشيخ يوسف» (يوسف هوجا). واستندت السلطات إلى فيديو تم التقاطه لمنفذ العملية ومعه الشيخ الداعشي في أثناء استقلالهما الحافلة المتجهة من قونية إلى إسطنبول، لكنهما كانا يسيران بشكل منفصل وكأنها لا يعرف أحدهما الآخر. ثم بعد ذلك استقل تاكسي، واستخدم هاتف صاحبه في الاتصال، وأخبر سائق التاكسي بأنه سيدفع له بمجرد وصوله إلى المكان، لكنه نزل واستقل سيارة أخرى للوصول إلى منطقة زيتين بورنو، ثم اختفى عن الأنظار. وترجح السلطات أن يكون الرجل الذي رافق منفذ العملية قد ساعده في تنفيذ الهجوم الإرهابي، وتأمين عملية هروبه من المكان، وهو ما قد يفسّر حرص منفذ الهجوم على إخفاء ملامح وجهه بطريقة جيدة، وعدم وجود صور واضحة له على أجهزة كاميرات المراقبة.

ألاعيب «داعش»
على صعيد آخر، مارس تنظيم «داعش» كثيرًا من الألاعيب لتضليل سلطات التحقيق منذ اللحظات الأولى لهجوم إسطنبول، إذ كذّبت السلطات التركية الشائعات التي تحدثت عن وصول منفذ الهجوم إلى مدينة الرقّة السورية، أو إمكانية هروبه خارج الحدود التركية، مؤكدة أن تنظيم داعش يحاول الترويج لهذه الشائعات حول مكان اختباء منفذي العملية «لتضليل الجهات الأمنية، وصرف الأنظار عن المنفذين الحقيقيين، وأماكن وجودهم». وكشفت التحقيقات عن كثير من محاولات التضليل التي قام بها التنظيم الإرهابي لإرباك جهات التحقيق، مثل الزعم بأن العملية استغرق تنفيذها 7 دقائق، وهي المدة التي دخل وخرج فيها المواطن الكازاخستاني الذي نشرت صورته من قبل على أنه منفذ الهجوم، ثم نشر جواز سفر مواطن من قيرغيزستان تم التحقيق معه في إسطنبول قبل سفره إلى بلاده على أنه المنفذ أيضًا.

اتهامات لأميركا
على صعيد آخر، كشفت سلطات التحقيق عن أن منفذ الهجوم استعمل قنبلة صوتية أميركية الصنع لإصابة رواد المطعم بحالة من عدم التركيز، بسبب صوتها واحتوائها في الوقت نفسه على غاز يصيب بالدوار وعدم التركيز، وعرضت لقطات للقنبلة، وتبين أنه تم طمس الرقم المسلسل لها.
وأثار الكشف عن هذه القنبلة ضجة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي في تركيا، حيث اعتبر كثيرون أن أميركا «ضالعة في الهجوم» بسبب وجود هذه القنبلة التي يندر استخدامها خارج الجيش الأميركي. ونشرت صحيفة «يني عقد» القريبة من الحكومة التركية، الأربعاء، على موقعها الإلكتروني، وكذلك على «تويتر» صورتين مركّبتين تتعلقان بالرئيس الأميركي باراك أوباما. الصورة اليمنى للإرهابي الذي هاجم مطعم «رينا» بعد استبدال وجهه بوجه الرئيس أوباما، واليسرى عبارة عن صورة عادية لأوباما. وعلى الفور انتشرت الصورة المركّبة في الإنترنت كالنيران في الهشيم. وللعلم، يوجد أكثر من مائة ألف مشترك في حساب الصحيفة على موقع «تويتر»، ويعتبر موقعها في الإنترنت من أكثر المواقع التركية زيارة في الشبكة العالمية. وقد ترافقت التغريدات مع تعليقات ساخرة ولاذعة، مثل: «هذه أوضح صورة للقاتل».
والعبارة نفسها وردت في العنوان الرئيسي للمادة التي نشرتها الصحيفة. وتتكون هذه المادة من فقرة واحدة: «في الشبكات الاجتماعية تنتشر آراء تؤكد أن الولايات المتحدة تقف وراء الهجوم الإرهابي في نادي رينا».

مسلسل الإرهاب
* مرّت تركيا في عام 2016 بواحد من أكثر أعوامها دموية، حيث تصاعدت الهجمات الإرهابية وضربت قلب المدن الكبرى ومواقع استراتيجية وسياحية في قلب العاصمة أنقرة ومدينة إسطنبول.
وكانت في مجملها هجمات انتحارية، وباستخدام سيارات مفخخة، وغالبيتها استهدف الشرطة إلى جانب المدنيين، وتوزّعت المسؤولية عنها ما بين تنظيم داعش الإرهابي وحزب العمال الكردستاني ومنظمة صقور حرية كردستان، القريبة منه.
كثير من الهجمات الإرهابية ضربت أنحاء مختلفة في تركيا، أبرزها هجوم السلطان أحمد في الثاني عشر من يناير (كانون الثاني) الذي افتتح به سجل العمليات الإرهابية في 2016، حين استهدف هجوم انتحاري في منطقة ديكيلتاش في ميدان السلطان أحمد بإسطنبول مجموعة من السياح، مخلفًا 10 قتلى و15 مصابًا، غالبيتهم من الألمان. وأعلن تنظيم داعش الإرهابي مسؤوليته عن هذا الهجوم.
وفي السابع عشر من فبراير (شباط)، وقع هجوم بسيارة مفخخة في أثناء مرور سيارة عسكرية بالقرب من مقر قيادة القوات الجوية في منطقة كيزلاي، بوسط العاصمة أنقرة، مما أسفر عن مقتل 29 شخصًا وإصابة 61 آخرين، غالبيتهم من العسكريين، وتبنّت جماعة صقور حرية كردستان الهجوم.
ووقع هجوم ثان في أنقرة، في الثالث عشر من مارس (آذار)، في استهداف آخر للعاصمة السياسية للبلاد، حيث وقع هجوم انتحاري بالقرب من ميدان كيزيلاي، مما أدى إلى مقتل 37 شخصًا وإصابة 125 آخرين، وتبنته أيضًا حركة صقور حرية كردستان التي أعلنت مسؤوليتها عن هذا الهجوم أيضًا.
وسبق هذا الهجوم الإرهابي هجوم وقع في التاسع عشر من مارس استهدف السياح مرة أخرى بهجوم انتحاري وقع في شارع الاستقلال بميدان تقسيم، قلب إسطنبول السياحي، وتبنى «داعش» الهجوم الانتحاري الذي أسفر عن مقتل 4 أشخاص، منهم إيرانيان وإسرائيلي وإصابة 36 آخرين.
وفي 27 أبريل (نيسان)، أقدم انتحاري على تفجير نفسه بالقرب من جامع أولو الشهير بمدينة بورصة، ليُسقط 13 مصابًا دون تسجيل قتلى، وتبناه تنظيم صقور حرية كردستان.
وفي الأول من مايو (أيار)، قتل 3 من عناصر الشرطة وأصيب 22 آخرون، في هجوم انتحاري شنّه تنظيم داعش الإرهابي بالقرب من مديرية أمن غازي عنتاب (جنوب تركيا، قرب الحدود السورية).
وفي 7 يونيو (حزيران)، استهدف هجوم إرهابي سيارة تابعة للشرطة في منطقة فزناجيلار في إسطنبول بالقرب من محطة للحافلات العامة، خلف 11 قتيلاً، من بينهم 7 من عناصر الشرطة و36 مصابًا.
وفي 8 يونيو، استهدفت سيارة مفخخة مديرية الأمن في بلدة مديات، التابعة لمحافظة ماردين (جنوب تركيا)، قتل فيه شرطي ومدنيان وأصيب 30 آخرون على الأقل، ونسبته السلطات إلى العمال الكردستاني.
وفي مساء 28 يونيو، وقع هجوم انتحاري ثلاثي في صالة الخطوط الدولية بمطار أتاتورك الدولي في إسطنبول، أعقبه إطلاق نار على المسافرين المنتظرين، مما تسبب في مقتل 47 شخصًا وإصابة 237 آخرين، ونسب إلى تنظيم داعش الإرهابي.
وفي 21 أغسطس، شهدت مدينة غازي عنتاب هجومًا انتحاريًا استهدف حفل زفاف في أحد الشوارع بالمدينة الجنوبية شبه الحدودية، مما أسفر عن مقتل 56 شخصًا وإصابة 91 آخرين، ونفذه تنظيم داعش.
وقبل أن يلملم العام أوراقه الأخيرة وقع في 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي هجومان، أحدهما بسيارة مفخخة والآخر نفذه انتحاري بالقرب من استاد «فودافون أرينا» لكرة القدم، بمنطقة بشيكتاش في مدينة إسطنبول، استهدفا قوات مكافحة الشغب، وأسفرا عن مقتل 44 شخصًا، 37 من قوات شرطة مكافحة الشغب و7 مدنيين، وإصابة 149 آخرين.
ثم كان هجوم مطعم «رينا» في إسطنبول الذي شكل حلقة الوصل بين عام منتهٍ بأحداثه الإرهابية المتتابعة وبداية عام جديد أكثر سخونة على ما يبدو.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.