الأخبار التي جرى تناقلها بأن «فيسبوك» اشترت الشركة الناشئة «أوكيلوس في آر» Oculus VR للواقع الافتراضي بمبلغ ملياري دولار قد تتركك مذهولا، فتماما مثلها مثل السيارات الطائرة والروبوتات التي تعمل كخدم، فإن فكرة وضع زوج من النظارات الكومبيوترية والدخول في العالم الرقمي بدت في الماضي كما لو أنها من عالم المستقبل. هل مثل هذا الأمر يستحق فعلا مليارات الدولارات؟ وماذا يفعل الشخص العادي غير التقني، بنظم الواقع الافتراضي هذه؟ الجواب: ينفذ كل الأشياء والأمور!
يقول الدكتور جيرمي بايلينسون الباحث في شؤون الواقع الافتراضي، الذي يدير مختبرات «فيرتجوال هيومان إنترأكشن» التابع لجامعة ستانفورد في أميركا، «أنا لا أقلق بعد الآن ما إذا كان هذا الأمر بات مقبولا من قبل أغلبية الناس أم لا، لأن ذلك سيحصل آجلا أم عاجلا»، وهو كبقية الباحثين الآخرين في هذا الحقل، يعتقد أن تقنية الواقع الافتراضي أضحت تتقدم وتتطور بسرعة، مما يؤكد أنها ستغزو كل مناحي حياتنا. وبعد أن اختبرت هذه التقنية في مختبره هذا، أعتقد أنه على حق، فالواقع الافتراضي مقبل، وعلى الجميع القفز في زورقه. والسبب هو أن هذا الواقع هو الامتداد الطبيعي لجميع التقنيات الرئيسة التي نستخدمها اليوم، كالسينما، والتلفزيون، ومؤتمرات الفيديو، والهاتف الذكي، والإنترنت. إنها النسخة الغامرة جدا لكل هذه الأمور، وسنستخدمها تماما بالأسلوب ذاته لأغراض الاتصالات، والتعليم، وتسلية أنفسنا، والهرب أحيانا من الواقع الحالي. ويضيف الدكتور بايلينسون أنها حتى ستغير في كيفية قيام المجتمع بالتعامل مع المسائل الكبيرة، مثل المساواة بين الجنسين، والتدهور البيئي. لكن السؤال هو متى؟
يصف الدكتور بايلينسون ما يصنعه مختبره من أمور متطورة في الواقع الافتراضي بأنها «أكثر التجارب الغامرة التي يشهدها كوكبنا». فهو يقوم بالإضافة إلى إجراء تجارب تقنية لمعرفة كيفية تجاوب الأفراد مع البيئات الافتراضية، وبانتظام باستقبال رجال أعمال يرغبون في اختبار مستقبل الواقع الافتراضي. فقبل أسابيع من إعلان «فيسبوك» عن شرائها شركة «أوكيلوس»، قام مارك زكربيرغ أحد مؤسسي «فيسبوك» وكبير رؤسائها بزيارة للمختبر. كما قام بايلينسون أخيرا بعقد جلسة مدتها ساعة ونصف قدم خلالها سلسلة من عمليات المحاكاة مشابهة بتلك التي شاهدها واختبرها زكربيرغ.
* نظم محاكاة
وكانت توجيهات بايلينسون في بعض الأحيان طبيعية، لكنني عندما خضعت إلى التجارب الافتراضية، اهتزت أوصالي وارتعدت، وكان على بايلينسون أن يهدئ من روعي. وفي نهاية تجربة المحاكاة هذه كان الذهول مسيطرا علي، ورقبتي تؤلمني من ثقل النظارات التي بلغ وزنها خمسة أرطال، والتي يبلغ سعرها 30 ألف دولار. والتي تقدم محاكاة أكثر واقعية من تلك الصغيرة الرخيصة التي تركب على الرأس، والتي تشبه نظارات «ريفت» من «أوكيلوس».
لقد سحرني الأمر، فقد رأيت كيف أن أداة المحاكاة التي غمرتني بالواقع الافتراضي يمكنها أن تلعب ألاعيب غريبة تؤثر على جسم الإنسان وعقله ومزاجه. وقد تمكنت أن أرى كيف خرج زكربيرغ من المختبر متفائلا بمستقبل هذه التقنية. وقد أشار بايلينسون في كتابه «الواقع لا متناه» الذي يدور حول مستقبل الواقع الافتراضي، إلى أن البشر يتهربون بطبيعتهم من الواقع الذي يعيشون فيه إلى الكتب، والأفلام السينمائية، وألعاب الفيديو، وأجهزة «آيباد»، أي إنه كلما وفرت لنا التقنيات أساليب للهرب من القلق الذي يعتمر في أنفسنا، والدخول في عوالم من صنعنا، نقوم نحن باستغلال الفرصة، فإذا كانت التقنية جيدة، فإن الواقع الافتراضي لن يكون مختلفا.
وكانت نظم الواقع الافتراضي لسنوات، محط انتقادات مقنعة، وبأنها ليست جيدة بما فيه الكفاية. وهذا الأمر ما يزال سائدا الآن ويشكل الانتقاد الرئيس. فأجهزة الواقع الافتراضي تعمل عن طريق إرسال صور من صنع الكومبيوتر لكل عين من الاثنتين، استجابة لحركاتنا. وتعتمد دقة أداة المحاكاة على دقة تتبع وملاحقة حركاتنا، والسرعة التي تعدل بموجبها الصورة لكي تتماشى مع هذه الحركة، فإذا حادت التقنية قليلا عن الطريق الصحيح، أخفقت عملية المحاكاة وفشلت.
«فإذا ما أدرت رأسك إلى هناك ستلاحظ قليلا من التناقض وعدم الانتظام، وعقلك قد يشعرك بذلك»، كما يقول تادهك كيلي مصمم الألعاب الذي يحرر مدونة بعنوان «وات غايمس آر»، الذي يشك في إمكانية الواقع الافتراضي أن يصبح من التيارات أو الاتجاهات الأساسية في حياتنا اليومية، «فأنا أتساءل ما إذا كان هذا الاضطراب سيزول، وما إذا كان بالمقدور يوما الحصول على انغمار كلي مع المشاهد التي نراها». وتاريخ الوسائط المتعددة مليء بمحاولات التلاعب الفاشلة لإنتاج عمليات محاكاة جيدة للعالم الحقيقي.
ويقول كريس ديكسون المستثمر في شركة «اندسون هوروتز» لرساميل المشاريع التي استثمرت بمبلغ 75 مليون دولار في شركة «أوكيلوس في آر» في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، «لقد كان الوقت المناسب لجعل الأمور كلها تعمل جيدا».
وأشار ديكسون إلى أن الانتعاش الذي شهدته صناعة الهواتف الذكية، ساعد في تدني تكلفة الشاشات القوية والمكونات المطلوبة لأجهزة الرأس الخاصة بالواقع الافتراضي، مما وضع الأخير في المسار الصحيح للإلكترونيات الجوالة، وأجهزة الكومبيوتر التي أصبحت رخيصة السعر، ومن المناحي الأساسية، مع تحسن هذه التقنية. وهو يتوقع أن تصبح مفيدة جدا حتى قبل أن تصبح كاملة متكاملة، ومن أن الألعاب لن تكون بالضرورة الهدف الأول لها.
* تواصل إنساني
ولقد أدركت ما يقصده، فأثرها الوشيك كان حقيقيا جدا، بحيث كنت أستدير غالبا بجسدي لتفادي أثرها، ولم يكن هذا الإحساس مريحا بالضبط.
وبدلا من القيام بأعمال جسدية فذة عن طريق هذه التقنية، إلا أنها سحرتني بدقتها للقيام باتصالات عاطفية، مع شخصيات افتراضية أخرى. ففي إحدى عمليات المحاكاة دخلت إلى غرفة كان فيها عشرة أو أكثر من الأشخاص جالسين أمامي ويحدقون في عيني. ولم يكونوا يبدون حقيقيين، بل أشبه بشخصيات في ألعاب الفيديو، أو بقع مضلعة الشكل.
ومع ذلك عندما سألني الباحثون أن أقترب منهم، أحنيت رأسي ولمست أنف أحدهم بأنفي، ووجدت ذلك أمرا صعبا جدا. وهذا أمر لم أختبره، أو أجربه في العاب الفيديو. فقد شعرت بأنني أتعامل مع أشخاص حقيقيين، وبالتالي أنتهك حيزهم الخاص.
ومثل هذه الإمكانية للتواصل الإنساني تجعل منها وسيلة جيدة لأغراض كهذه، فحاليا تنفق الشركات أموالا طائلة على السفر ومؤتمرات الفيديو، فمع إمكانية القيام بأعمالنا من بعيد، إلا أن المقابلات وجها إلى وجه هي أداة متينة.
وأظهر الباحثون أن المقابلات الافتراضية قد تكون وسيلة أفضل من المقابلات الحقيقية، نظرا لأن الرموز هذه التي تمثلنا يمكن برمجتها لكي تتصرف بأساليب لا نستطيع القيام بها. ومثال على ذلك، فإنه في المقابلات في العالم الافتراضي، يمكن للجميع النظر عينا إلى عين مع الآخرين الحاضرين، مما يشير إلى مستوى من الحضور والانتباه الذي هو غير موجود في العالم الحقيقي.
ومن الاستخدامات الأخرى الممكنة الهروب الدائم من الواقع. فقد أظهر التاريخ أننا لم نتلكأ يوما عن مثل هذه التجارب الغامرة لمشاعرنا، عندما تكون تعمل بشكل صحيح. فمنذ اختراعها قدمت الأفلام السينمائية لنا عالما من هذا النوع. ففي يومنا هذا شرعنا نتوجه خارجا واضعين على رؤوسنا الأجهزة والسماعات لكي تنقلنا إلى عالم الموسيقى، كما أننا لا نكف عن النظر إلى هواتفنا.
* خدمة «نيويورك تايمز»