جنوب سوريا.. هدوء على وقع التوازنات الدولية

روسيا تضمن «الوضع الراهن» وإيران لتوسيع نفوذها.. وإسرائيل ضد استخدامه ورقة لمفاوضتها

جنوب سوريا.. هدوء على وقع التوازنات الدولية
TT

جنوب سوريا.. هدوء على وقع التوازنات الدولية

جنوب سوريا.. هدوء على وقع التوازنات الدولية

لم يبدّل القصف المتقطع لقوات النظام السوري على مناطق جنوب سوريا، في مشهد «الهدوء المؤقت» الذي تشهده الجبهة الجنوبية منذ أكثر من سنة، ذلك أن «توازن القوى» بين الطرفين، يكاد يكون معدومًا في ظل «جهود غربية مكبّلة» بفعل الانتظار لما ستؤول إليه التغييرات في السياسة الخارجية الأميركية إثر فوز الرئيس دونالد ترامب. بيد أن الرهان على تغييرات في المواقف الغربية، لا يكبّل وحده غرفة «الموك» التي عُرفت في وقت سابق بكونها أبرز الداعمين للفصائل العسكرية السورية المعارضة في الجنوب. فالتفاهم الذي جمع روسيا مع الأردن من جهة، وروسيا وإسرائيل من جهة أخرى، للإبقاء على الجبهة «باردة» يُسهِم في ضبط النظام السوري، عبر روسيا، عن إطلاق عمليات عسكرية واسعة في المنطقة الجنوبية، في حين يسهم في ضبط قوات المعارضة عن تنفيذ عمليات واسعة أيضًا ضد قوات النظام، بحكم عدم تلقيها الدعم العسكري من غرفة «الموك» (مركز العمليات العسكرية)، وتتولى روسيا في الحالتين ضبط الجبهة.
لم تشهد خريطة النفوذ في الجبهة الجنوبية لسوريا، تبدلاً استراتيجيًا منذ نحو عشرة أشهر، حيث ما زال نظام بشار الأسد يحافظ على مواقع سيطرته في مدينة درعا، عاصمة محافظة درعا وكبرى مدن الجنوب السوري بعد العاصمة دمشق، وعلى خط إمدادها الرئيسي من دمشق، وذلك بعدما فقد السيطرة على أكثر من 70 في المائة من أريافها خلال معارك واسعة شهدتها المنطقة على دفعات بدءًا من 2011.
ومنذ اليوم الأول لإطلاق المعارضة عملياتها في درعا، وسّع النظام آلة القصف، بالنظر إلى أن درعا، التي تبعد نحو 100 كيلومتر عن دمشق، تمثل أبلغ تهديد لنفوذ النظام في العاصمة، في وقت مثلت فيه أكبر تهديد شعبي له، بالنظر إلى أن المدينة تعتبر أول من انتفض ضد النظام في منتصف مارس (آذار) 2011. ولقد شكلت درعا وريف محافظتها، التي تمتد لتغطي معظم سهل حوران، مهد الانتفاضة الشعبية المطالبة بإصلاحات، خصوصا بعدما أقدمت السلطات على اعتقال وتعذيب فتيان إثر اشتباهها بكتابتهم شعارات مناهضة للنظام على الجدران.
وشيئًا فشيئًا، استطاعت المعارضة السيطرة على أكثر من 75 في المائة من مساحة المحافظة، ووصلت معاقلها بمناطق سيطرة المعارضة في القنيطرة، وبالغوطة الغربية لدمشق، بدعم من غرفة «الموك» (مركز العمليات العسكرية) Military Operations Center في الأردن، كما يقول معارضون سوريون، مما شكل تهديدًا كبيرًا للنظام الذي شن معركة في أوائل عام 2015 على ما عُرف باسم «مثلث الموت» الواقع بين مناطق غرب محافظة ريف دمشق الغربي وشمال درعا وشرق محافظة القنيطرة، لمنع اتصال قوات المعارضة في تلك المناطق ببعضها.
وفي ربيع 2015، تواصلت محاولات توسع المعارضة في الريف الغربي لمحافظة القنيطرة الممتد على المنحدرات الشرقية لجبل الشيخ والمتاخم للجولان السوري المحتل. وفي الوقت نفسه، نفّذت قوات المعارضة عمليات عسكرية سيطرت فيها على المناطق الحدودية مع الأردن قرب معبر الرمثا، والريف الشرقي لمحافظة درعا وصولاً إلى الحدود الإدارية مع محافظة السويداء. ومن ثم، اتجهت جنوبًا إلى مدينة درعا حيث تمكنت قوات النظام يومذاك من صدّ هجمات عسكرية واسعة حاولت فيها قوات المعارضة السيطرة على المدينة.
والواقع أن الهدوء بدأ يسود الجبهة الجنوبية في محافظتي درعا والقنيطرة، بعد أقل من شهر على تدخل روسيا العسكري في سوريا في 30 سبتمبر (أيلول) 2015، حيث تراجعت حدة العمليات العسكرية للمعارضة إلى حد كبير، بعد أربعة أشهر على توسع كبير حققته في المنطقة الحدودية مع الأردن، قبل أن يدخل العامل الروسي الذي أتاح لقوات النظام «فرصة لالتقاط الأنفاس» في المنطقة، كما يقول مصدر سوري معارض في الجنوب لـ«الشرق الأوسط». يشير المصدر إلى أن الهدوء الذي ساد الجبهات، دفع قوات النظام إلى «القفز فوق الاعتبارات الروسية» بعد ثلاثة أشهر من الهدوء، ثم الانطلاق في أوائل العام الحالي في عملية عسكرية خاطفة سمحت للنظام استعادة السيطرة على مدينة الشيخ مسكين وميطها، وبالتالي «توسيع رقعة الحماية لخط إمداد النظام من العاصمة إلى مدينة درعا».
وتجدر الإشارة هنا إلى أن أي تغيير في خريطة النفوذ في الجنوب، يعني طرد النظام من مناطق قليلة يسيطر عليها، إذ وصلت خريطة النفوذ إلى الذروة حيث لا يمتلك النظام، استراتيجيًا، إلا خطوط إمداده إلى مدينة درعا.
ولا ينفي قياديون معارضون أن معارك الجبهة الجنوبية الآن «لا تحظى بتوافق دولي»، وأن قوات المعارضة «لا تمتلك إمكانات عسكرية بغياب الدعم الدولي». وهم يؤكدون أنه «في حال تم تقديم الدعم، فإن ذلك سيرجِّح كفة المعارضة في المعركة». ووفق تعبير المصدر المعارض فإن التوازنات الدولية «تحول دون إطلاق معركة في الوقت الحاضر».

الأردن وفصائل الجبهة
على مدى خمس سنوات، بنى الأردن علاقات جيدة مع فصائل الجبهة الجنوبية. وتعد هذه الفصائل المعتدلة التي تنتمي إلى «الجيش السوري الحر» مقرّبة من عمّان، وكانت قد تلقت دعمًا من الأردن عبر غرفة «الموك» لمواجهة تنظيم «شهداء اليرموك» الموالي لتنظيم داعش المتطرف في ريف درعا الغربي وريف القنيطرة.
غير أن التفاهمات الروسية - الأردنية، كما تقول مصادر متابعة، قضت في وقت سابق بتحييد الجبهة الجنوبية عن القصف الجوي الروسي مقابل التزام فصائل المعارضة في جنوب سوريا بوقف إطلاق النار ووقف العمليات العسكرية ضد النظام، بضمانة غرفة «الموك». وهذا، حسب المصادر، ما أهّل درعا لتكون أكثر المحافظات التزاما بالهدنة الروسية إذ حافظت على تماسكها رغم الخروق التي تعرضت لها.

ثبات «الموك» MOC
وعطفًا على ما سبق، رغم خروق النظام، بما في ذلك القصف الجوي والمدفعي والصاروخي الذي يستهدف مدينة درعا وريفها، لم يطرأ أي تغيير على خطط غرفة «الموك»، منذ التدخل الروسي في سوريا، والتفاهم مع الأردن على تبريد الجبهة الجنوبية. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، يقول الباحث السياسي الأردني والخبير الاستراتيجي محمد أبو رمان: «أعتقد أن العمل العسكري في الجبهة الجنوبية، هو الآن قيد الانتظار، فالنظام والروس يستغلون فترة عدم وضوح الموقف الأميركي لتحقيق انتصارات على الأرض»، رغم أن المعركة «شبه معطلة».
ويضيف أبو رمان أن «برنامج التدريب مرتبط حصريًا بقتال داعش، وليس بقتال الروس». ويرى أن هناك «تحولات كبيرة، وثمة ترقب فرنسي وبريطاني لمعرفة ما سيحدث بعد انتخاب دونالد ترامب للرئاسة الأميركية»، لافتًا إلى أن تصريحاتهم «لا توحي بخطة لإبعاد الأسد بقدر ما تؤكد أن الجهود تصب لمحاربة (داعش)».
من ناحية أخرى، رغم الهدوء على جبهة الجنوب من قبل المعارضة، ما زالت قوات النظام وحلفائها تخترق المشهد بشكل متكرر بعمليات «انتقائية» و«موضعية»، تحاول فيها قضم مساحات جغرافية لتوسيع «رقعة الأمان» حول الطريق الدولي الذي يربط مدينة درعا بالعاصمة السورية، ويعدّ خط الإمداد الوحيد لقوات النظام المدينة. ولكن، مع ذلك «يستبعد الأردنيون أن يكون الجنوب هو الهدف الثاني للروس بعد حلب»، بحسب ما يقول أبو رمان، الذي يؤكد أن القيادة في العاصمة الأردنية «تعتقد أن موسكو سوف تتجه إلى التهدئة السلمية»، وعليه «لا يبدو في عمّان قلق شديد حول ملف درعا».
في المقابل، بعكس الموقف الأردني، يخالف أبو رمان بتقديره هذه التوقعات، إذ يقول: «أختلف مع الحسابات في هذا التقدير. برأيي، الروس أعلنوا أن الموضوع السلمي صعب تحقيقه، وإذا كان هذا الأمر صحيحًا، فإنه لا يقابله لدى الغرب خطة (ب)، وهو ما يعني أنه في حال شن النظام هجومًا على الجنوب، ما البدائل والخيارات؟». وهنا يضيف: «بالتأكيد هناك اختلال في موازين القوى، إذ إن الروس يحققون تقدمًا، بينما الأميركيون في حالة من التراجع وعدم الوضوح إزاء الأجندة السورية»، لافتًا إلى أن هذا الموقف «يربك الأردن، الذي لا يستطيع التحرك بمعزل عن القرارات الغربية».
رغم ما تقدّم، فإن حسابات الأردن مرتبطة بشكل كامل بالتفاهم مع روسيا حول التهدئة، بينما يدخل عامل آخر حائلاً دون تسخين الجبهة الجنوبية، وهو مرتبط بالاتفاق بين موسكو وتل أبيب، بالنظر إلى أن المنطقة متاخمة لهضبة الجولان السورية المحتلة، حيث تنشط الآلة العسكرية الإسرائيلية بالرد على أي استهداف يطال منطقة الجولان.
ووفق أبو رمان فإن القيادة الأردنية التي لا تتوقع تفجيرًا للجبهة الجنوبية من قبل النظام وروسيا، «تراهن على التفاهمات مع روسيا، وعلى العامل الإسرائيلي، بالنظر إلى أن تل أبيب لا تسمح بوجود الحرس الثوري الإيراني وحزب الله في المناطق المتاخمة للجولان». ويزيد موضحًا أن الأردن «كان جزءًا من عملية التنسيق الثلاثي في جنوب سوريا، وكان له دور في هندسة تفاهم وقف إطلاق النار في الجنوب». غير الباحث والخبير الأردني، يخالف في الوقت نفسه، هذه التقديرات التي تتحدث عن أن روسيا تضمن عدم تفجير الجبهة، بحكم التفاهم مع إسرائيل أيضًا، ويشرح: «أنا أفرّق بين الأجندة الروسية من جهة، وأجندة إيران و(حزب الله) من جهة ثانية. صحيح أن روسيا غير مهتمة بالجنوب لتحقيق إنجازات عسكرية، لكن إيران والحزب مهتمان بمنطقة مثلث القنيطرة - ريف دمشق الغربي - ريف درعا الشمالي»، منبّهًا إلى أن وجود الإيرانيين والحزب «بازدياد في هذه المنطقة، بحسب ما يلاحظ الجيش السوري الحر، وهو ازدياد هادئ، وقائم وموجود رغم عدم وجود نشاط عسكري بارز لهؤلاء في المنطقة حاليًا».

الاعتبارات الإسرائيلية
العامل الإسرائيلي، يفرض أيضًا «وضعًا راهنًا» (ستاتوس كو) Status Quo في المنطقة الجنوبية لاعتبارين، يشرحهما ماريو أبو زيد، الباحث السياسي اللبناني والخبير في الأزمات الدولية، بالقول: «في الوقت الراهن، تحاول جميع الأطراف إلى حد ما الحفاظ على (الستاتوس كو) القائم في جنوب سوريا، باستثناء النظام الذي يحاول أن يثبت حضوره في المنطقة الجنوبية، خصوصًا على الجبهة المحاذية للجولان، وذلك لاستخدامه في مرحلة لاحقة بموضوع المفاوضات» السورية مع المجتمع الدولي. ويوضح أبو زيد في حديث مع «الشرق الأوسط» أنه «إذا ما تمكن النظام من انتزاع الجولان، أو على الأقل توسيع رقعة نفوذه حوله، فإنه سيفاوض إسرائيل على بقائه أو على إعادة الجولان إلى السيادة السورية».
ويشير أبو زيد إلى أن الاعتبار الثاني، يرجع إلى «الأمن القومي الإسرائيلي»، موضحًا أن «بعض المجموعات المدعومة إسرائيليًا تشكل حاجزًا أمام أي تقدم للنظام، أو أي أعمال عسكرية ما خلا بعض الخروق»، ويلفت إلى أن «الطيران الإسرائيلي يرد على أي تدخل أو تغيير في قواعد التوازن، أو إخلال به، حتى أنه كان يضرب منشقين عن المجموعات المدعومة من إسرائيل». ثم يضيف: «الهدف الأساسي لإسرائيل هو الحفاظ على الهدوء في الجبهة الحدودية مع الجولان، كون المنطقة تشكل خطرًا جديًا على الأمن الإسرائيلي»، مشددًا على أنه «حين تشتعل معارك بين النظام والفصائل المدعومة من تل أبيب، فإن التركيز يكون على قصف قوات النظام، وذلك لإسكات أي محاولات لتغيير قواعد التوازن في المنطقة».

معركة موضعية
من هذا المنطلق، لا يعدو الهجوم الذي شنته فصائل المعارضة السورية في جنوب سوريا على مواقع قوات النظام في المنطقة السهلية المحيطة بمدينة إبطع (إلى الشمال من مدينة درعا بريف درعا الأوسط)، أخيرًا، كونه «معركة موضعية» لا ترقى إلى مستوى «تفجير الجبهة الجنوبية» الهادئة نسبيًا منذ نحو تسعة أشهر، ويعزز فيها النظام متاريسه وقواعده العسكرية، ويستكمل «نشاطًا عسكريًا تكتيكيًا» لقضم مناطق صغيرة، واستهداف قادة المعارضة.
وكانت قوات المعارضة قد تعرّضت لانتكاسة عسكرية في الجنوب حين شنت هجومًا على مواقع النظام فيما يسمى محور «الكتيبة المهجورة»، شرقي إبطع، التي كان النظام قد تقدم إليها قبل نحو شهر. لكن النظام استطاع تطويق الهجوم بعد ساعتين على انطلاقته. ولم تكن تلك المعركة جزءًا من مخطط للسيطرة على مناطق أخرى في الجبهة الجنوبية، وتوسيع رقعة نفوذ المعارضة. ولقد وصف رامي عبد الرحمن، مدير «المرصد السوري لحقوق الإنسان»، الهجوم بأنه «موضعي وتكتيكي»، يهدف إلى «استعادة السيطرة على مناطق تقدم إليها النظام». وذكر أن الجبهة الهادئة منذ أشهر «يخرقها النظام يوميًا بقصف محدد، واغتيالات وخروق في محاولة لقضم مناطق المعارضة في المنطقة».
وللعلم، تعتبر «كتيبة الدفاع الجوي» المعروفة باسم «الكتيبة المهجورة»، خط الدفاع الأول عن مواقع قوات النظام في مدينة الشيخ مسكين (العاصمة العشائرية القديمة لسهل حوران)، وتقع الكتيبة على طريق درعا - دمشق القديم، وتتمتع بموقع استراتيجي مهم، وهي تمثل الآن نقطة انطلاق وتجمع النظام للهجوم على مدينتي داعل وإبطع الواقعتين جنوب الشيخ مسكين وشمال درعا. وفي حال سيطرت المعارضة على هذه الكتيبة، فإنها ستتمكن من دخول مدينة الشيخ مسكين الاستراتيجية وتصبح مواقع النظام في الشيخ مسكين و«اللواء 82» ومدينة إزرع تحت نيرانهم.
وفي مقابل محاولة المعارضة خرق الجبهة لتجنب «كسر في التوازن القائم» في الجنوب، لم تقدم قوات النظام على كسر حالة الهدوء، معتمدة بدلاً من ذلك على استراتيجية القضم البطيء، وذلك لتحاشي استفزاز الأردن. فالأردن، بحسب جهات مطلعة، لن يكون موقفه كما السابق، بل سيتحرك على خط دعم الفصائل السورية المعتدلة، على ضوء أن هناك 3 أخطار تترتب على انهيار الهدوء في جنوب سوريا، وتدفع الأردن إلى التصرف، هي: أولاً، وجود عشرات آلاف اللاجئين الذين سيتدفقون إلى الأردن. وثانيًا، نمو تنظيم داعش في صفوف الثوار نتيجة الإحباط إذا ما النظام حقق تقدمًا عليهم. وثالثًا، أن المواجهات ستنتقل من ريف درعا إلى المناطق الحدودية مع الأردن، وهو ما سيدفعه دفعًا لدعم الفصائل المعتدلة، بهدف حماية نفسه من هذه التهديدات الثلاثة.



حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.