تمارس مدينة مراكش المغربية سحرًا خاصًا على زوارها، خصوصًا الأجانب منهم. وفي الوقت الذي يضيع فيه كثير من سياح مراكش وقتهم وجهدهم في اتقاء جشع البعض، بمناقشة ثمن الأكل والشرب ومختلف المشتريات، ومطالبة سائقي سيارات الأجرة باستخدام العداد، يفضل آخرون الاستقرار بها، نهائيًا، بل ودخول تاريخها، عبر الانخراط في عدد من المبادرات التي تدافع عن التراث المادي واللامادي للمدينة، واقتراح مشاريع ثقافية واجتماعية لصالح المكان وأهله. وفي الوقت الذي صار فيه كثير من المراكشيين يُفرطون في ثقافة المدينة وجوهر حضارتها، بعد أن أعماهم بريق السياحة وجرفهم غبار العقار، يحمل بعض المقيمين الأجانب، ممن لبستهم المدينة بألوانها وسحرها وشمسها، همّ الدفاع عن تاريخها ومقوماتها الحضارية، حتى صاروا حراس مكان وثقافة. مفارقة، فعلاً. مقيمون، تجد بينهم القادم (أو القادمة) من هولندا وسويسرا، وصولاً إلى الولايات المتحدة، مرورًا بإسبانيا وفرنسا. هم أجانب بقلب مراكشي، لعل آخرهم الإيطالي لاورو ميلان، الذي اختار أن يدير مشروعًا، بعمق ثقافي، يبرز قيمة الهندسة المعمارية وأهمية الماء وجمالية فن الحدائق في تاريخ مدينة، لطالما تسمى المغرب باسمها.
سر أخضر خلف أسوار المدينة القديمة
لعل أجمل ما يمكن أن يثير إعجاب زوار مراكش، إلى الحد الذي يجعل بعضهم يقرر الاستقرار بها نهائيًا، هو حين يتم الانتقال، من دفء نهار المدينة وسحر ليلها إلى ما تخفيه دور وقصور المدينة القديمة من معمار وحدائق تنقل لتاريخ بهي. ويمكن القول إن صمت المفاجأة هو أول ما يمكن أن يملأ على الزائر لحظة التعرف الأولى على ما تخفيه أسوار المدينة القديمة من كنوز. كذلك يكون حال زائر «الحديقة السرية»، التي «تتفتح كما السر في قلب مراكش»، على رأي الكاتب والباحث عبد الصمد الكباص، الذي يعتبرها «متحفًا لأسرار مدينة الحياة السعيدة، بأسوار عالية تخفي بهاءها، في غفلة من عيون المارة الذين يعبرون «حي المواسين»، قبل أن يزيد، قائلاً: «في حديقة مراكش السرية، يكفي أن تكون كما أنت بأذنين وعينين مهيأتين لاستقبال إشارة الحياة، لتنسى الشارع الذي تجلده الشمس وتجلس على كتفيه، وتتذكر أن في المكان غيمة ستمطر حلمًا. دع الشجر والنسيم الرقيق والماء الودود يهمس بوتر الحكمة «اركب سفينة ذاتك، لا ترفع شراعًا، فأنت الموج والريح أنفاسك». وحدها إشارة فخمة في هذا الطريق المزدحم بأصوات الحكمة المتراكمة في سحر الروائح وبهجة الألوان وجدران البيوت، والتواءات الدروب التي تفيض بالحياة والحكايات، تغريك بالانخراط في سفر يحملك إلى ماض يمتد في حاضر مرتبك. يصعب أن تتكهن أن خلف هذه الأسوار، التي تجاور درب عبيد الله بحي المواسين، تمتد مساحة بحجم أربعة آلاف متر مربع من الخضرة وجداول المياه والهواء الخفيف والسماء الشاسعة، حيث لا يمكن للزائر أن يعير سمعه إلا إلى تلك المسرة التي تتسرب بين أغصان الشجر، وتلك السكينة التي تحول الروح إلى بستان».
من ماجوريل إلى لاورو
قبل 18 سنة، حل لاورو ميلان بمراكش، قادمًا من أدوينيزي الإيطالية. سيقضي لاورو سنواته الأولى في العمل في مجال العمران والعقار، قبل أن يقترح عليه أحد الوسطاء، في 2003، اقتناء الفضاء الذي سيتحول، اليوم، إلى «متحف / حديقة» يغني المدينة الحمراء. يتذكر لاورو هذا التاريخ كما لو أنه يتعلق بحدث وقع يوم أمس، قبل أن يواصل: «ستبدأ الحكاية سنة 2006، بشكل فعلي، لتطول عملية اقتناء العقار إلى 2013، بعد أن واجهنا صعوبات وتعقيدات كثيرة، نظرًا لعدد الورثة، الذي تعدى 130. من حسن الحظ أن الجميع كان يرغب في البيع، خاصة وأن دورهم كانت متهالكة. في 2016 سيكون الافتتاح الأولي للمشروع، الذي تطلب منا، ما بين اقتناء الفضاء وتهيئته، نحو 50 مليون درهم (نحو 4.5 مليون يورو). عند الانطلاق، اقترحت على جيوفاني، شريكي، أن يكون للمشروع توجها ثقافيا. لم أشأ أن نمسح هذا الفضاء التاريخي لنضع مكانه فندقًا، مثلاً. وأخذًا بعين الاعتبار خلفيتي وتجربتي في مجال العقار والعمران فقد تكلفت بجانب الترميم والهندسة المعمارية، فيما تكلف منسق ومصمم الحدائق، توم ستيوارت سميث، بمهمة إعداد وتهيئة الحديقة».
وبخصوص تسمية «الحديقة السرية»، قال لاورو: «لا أحد، تقريبًا، كان يعرف بوجود هذه الحديقة، لذلك سميناها (الحديقة السرية). هذا مكان، كان ولا يزال، سريًا. في اللغة الفرنسية، تجد أن كل ما هو سري يحيل على الروح والتخفف من الضجيج الخارجي. هي حديقة مفاجئة، يكاد يتجمع فيها سر مدينة بكاملها. إنها حديقة مراكش السرية، التي تعبر عن علاقة المراكشيين بالخضرة وتعلقهم بكل ما هو جميل».
كما تحدث لاورو عن «البرج»، الذي يعلو جانبًا من الحديقة، بقبة متوجة بقرميد أخضر، وارتفاع يناهز 17 مترًا. فقال: «إننا لا نعرف، تحديدًا، وظيفة هذا البرج، في الماضي: هل كان رمزًا للنفوذ؟ أم عينًا للمراقبة؟ أم فضاء للاسترخاء؟ لكنه، على الأقل، كان يعبر عن مكانة أصحابه، بين سكان المدينة، وقتها».
لا يرتاح لاورو لسؤال مقارنته بجاك ماجوريل، الرسام الفرنسي الذي اقتنى عام 1924 قطعة أرض بمراكش، ليجعل منها حديقة ستشتهر، لاحقًا، باسم «حديقة ماجوريل»، بعد أن تم افتتاحها عام 1947؛ أو مقارنة «الحديقة السرية» بـ«حديقة ماجوريل». لذلك، تجده يقول «حديقة ماجوريل جميلة، مشهورة ومهمة لمراكش، غير أن هناك اختلافًا كبيرًا بين الحديقتين. نحن، هنا، في عمق المدينة القديمة، حيث «الحديقة السرية» تقوم وتحيل على تاريخ مراكش، وذلك على خلاف «حديقة ماجوريل»، التي تم إعدادها وفق تقاليد غربية، بنباتات مستوردة من الخارج. بالنسبة لمن يريد معرفة تاريخ وحضارة مراكش، بشكل خاص، والمغرب، بشكل عام، وفق مواصفات إسلامية، يمكنه أن يجد في (الحديقة السرية) مبتغاه».
يتحدث لاورو، الذي قرأ كثيرًا عن تاريخ مراكش، عن التيمات التي تقوم عليها الحديقة السرية، وشعور الفرح، بتحقق مشروعه، لا يكاد يفارقه. يرى لاورو أن المشروع «متحف أكثر منه حديقة»، قبل أن يتوسع في بسط مرتكزات التيمات الأربع: الهندسة المعمارية، التاريخ، فن الحدائق والماء، باعتبارها مداخل أساسية للحديث عن تاريخ المدينة، بشكل خاص، والمغرب، بشكل عام؛ مشيرًا إلى أن مراكش، بحدائقها التاريخية وطريقة تدبيرها للماء، ظلت تختصر في عبارة «المدينة الحديقة».
قصة «الحديقة السرية»
يعود تشييد أول بناية، على أرض «الحديقة السرية»، حسب وثائق بالموقع الإلكتروني للحديقة، إلى النصف الثاني من القرن السادس عشر، حين قرر السلطان السعدي مولاي عبد الله، الذي حكم بين 1557 و1574، بناء القصر في هذه المنطقة من المدينة، التي سيتم بها تشييد مجموعة من الآثار، شملت مسجد ونافورة المواسين ومكتبة وحمامًا، وبنايات أخرى. ومع انهيار حكم السعديين (1554 - 1659)، ستدخل مراكش في مرحلة أزمة، حيث عانت، في نهاية القرن السابع عشر، من تدمير عدد كبير من بناياتها، كان من بينها الرياض الذي شيد على القطعة الأرضية الحالية لـ«الحديقة السرية». لكن، خلال القرن 19، ستدفع فترة حكم السلطان العلوي المولى عبد الرحمن، الذي حكم ما بين 1822 و1859، إلى إعادة إحياء المعمار وفن الحدائق في مراكش، وهي النهضة التي واكبها وصول قادة وباشاوات كبار وموظفين سامين إلى السلطة، مما أعطى دفعة جديدة للهندسة المعمارية للمدينة والعناية ببناياتها. بعد ذلك، ستؤول ملكية البناية إلى القاضي مولاي مصطفى، الذي سيستبدلها في 1912 بمنزل بفاس، في ملكية الحاج محمد لكريسي، الذي يحكى عنه أنه ربط علاقات مهمة، استطاع بفضلها أن يصير، سنة 1908، حاجبًا للسلطان العلوي مولاي عبد الحفيظ، الذي حكم بين 1908 و1912، قبل أن ينتقل إلى هذا المكان، حيث عاش مع عائلته، إلى حين وفاته سنة 1934. وبعد أن تم تقاسم ملكية المكان بين ورثة لكريسي، سيكون الإهمال نصيبه. وفي 2013، وبفضل الفكرة التي تم التعبير عنها، قبل 5 سنوات من ذلك، من طرف لاورو ميلان وشريكه جيوفاني، سيولد مشروع إعادة تهيئة هذا الفضاء التاريخي، ليرى النور سنة 2016، تحت مسمى «الحديقة السرية».
فنون العمارة والحدائق.. وتدبير الماء في «الحديقة السرية»
تتكون «الحديقة السرية» من مركبين مختلفين عن بعضهما البعض، كل واحد منهما يعتبر رياضًا قائمًا بذاته. وتبقى الأبعاد الاستثنائية لـ«الحديقة السرية» شاهدًا على أهمية هذا المسكن وساكنيه. وستزداد هذه الأهمية بروزًا بفضل القبة التي تعلو البرج، والمتوجة بالقرميد الأخضر التقليدي المرصع وبالقلعة المرتفعة التي يغطيها القرميد. وعلى غرار القبة، فإن هذه القلعة، المسماة بـ«البرج» أو «المنزه»، كانت تحظى بمهمة رمزية، حيث إنها تقف شامخة في سماء المدينة، عاكسة ثروة وسلطة مالكيها.
وتبرز جمالية «الحديقة السرية» في فضاءاتها الخضراء، التي تتوزع، اليوم، بين حديقة عجائبية وأخرى إسلامية. فالحديقة العجائبية، تضم نباتات نادرة استقدمت من أنحاء مختلفة من العالم، الأمر الذي يذكرنا، من دون شك، بالبعد الكوني والتجريبي الخاص بالحدائق الكبرى لمراكش؛ حيث لا يجب أن ننسى أنه، انطلاقًا من العصر الوسيط إلى بداية القرن العشرين، كانت الأراضي المبنية بالمدينة محدودة مقارنة بالفضاءات الخضراء، ولذلك مثلت مراكش نموذجًا لـ«المدينة الحديقة»، بفضل حدائقها وحقولها الشاسعة؛ الشيء الذي تختصره التسميات التاريخية لمراكش، من قبيل أنها «وردة بين النخيل» و«واحة في الصحراء» و«مدينة الحياة السعيدة». وبحديقتها الإسلامية، تقترح «الحديقة السرية» إعادة بناء تلك النوعية من الحدائق، التي كانت مرتبطة، بشكل حميمي، مع «الرياضات»، بشكل جعل منها واحة سلام، يمكن للمرء أن يجد فيها ملاذًا، بعيدًا عن الحرارة المفرطة والفوضى الحضرية؛ حيث يعزز ظل الأشجار وخرير المياه وعطر النباتات وحميمية الفضاء الاسترخاء موفرًا جوًا من الاستمتاع والتأمل.
وتنتظم «الحديقة السرية» في أربعة أجزاء، يمكن ملاحظتها عبر تقاطع الممرين. وتعكس هذه الهندسة، التي تم تصميمها لكي يسهل سقي الأرض، ضرورة تنظيم الأرض حسب شبكة محددة، بشكل يجعلنا نفهم الأهمية الكبرى التي أعطيت للحديقة في العالم الإسلامي، كما لو أنها صورة مجازية للجنة، من جهة أنها مكان محكوم بقواعد هندسية صارمة، يفرض فيها الترتيب الإسلامي نفسه على فوضى الطبيعة البرية.
والجميل أنه توجد في قلب «الحديقة السرية»، كما يكاد يكون الأمر، دائمًا، في الحدائق الإسلامية، عين ماء ونافورات وأحواض رخام، تنعكس عليها أشعة الشمس لتنتج أضواء مختلفة، في الوقت الذي يخلق فيه خرير المياه حالة الخلوة مع الذات وصفاء المكان. ومن المعروف أنه منذ حكم المرابطين (1056م - 1147م)، مؤسسي مراكش (1069م)، أعطت المعرفة بهندسة المياه، فضلاً عن عامل القرب من جبال الأطلس التي تعتبر خزانًا حقيقيًا للمياه، إمكانية تحويل هذه المنطقة القاحلة إلى منطقة خضراء. وأثناء حفر أول «خطارة» بمراكش، اكتشفت المدينة التقنية التي ستسمح لها بأن تستجيب لاحتياجاتها من الماء. ومع وصول الموحدين، عرفت شبكة «الخطارات»، بمراكش، تطورًا كبيرًا، ومن ثم استحقت المدينة تسمية «عاصمة المياه الخفية». إذ، انطلاقًا من أحواض تجميع المياه، كان يصل الماء حسب مبدأ الجاذبية والأحواض المتواصلة فيما بينها إلى غاية مساجد وحمامات ونافورات المدينة، عبر أنابيب جوفية أو مهيأة على مستوى سطح الأرض مانعة للتسرب، في وقت كانت فيه مياه المنازل امتيازا مخصصًا للأقلية المتميزة.
نصيحة لاورو.. للمراكشيين
يختم لاورو لقاءك به بأمنية، تؤكد أن هاجسه الأول خدمة المدينة لا المتاجرة في مقوماتها. يقول: أمنيتي أن يقوم مستثمر آخر بنسخ تجربتي، ليعطينا، في مراكش، حديقة شبيهة بـ«الحديقة السرية». أتمنى صادقًا أن تكون هناك مشاريع أخرى مشابهة لـ«الحديقة السرية»، وذلك حتى لا نفقد الجمال الذي تختزنه هذه المدينة الغارقة في بهاء تاريخها. كما أتطلع إلى أن يهتم المراكشيون بمدينتهم القديمة، وأن يكون لهم وعي بقيمتها الحضارية وأهميتها، بالنسبة لحاضر ومستقبل المدينة، ككل. أرى أن المدينة القديمة هي المركز التاريخي لمراكش، لذلك لا يمكن تصور هذه المدينة من دون مدينتها القديمة. ستكون مدينة بلا معنى، لا روح لها. أرى أن على سكان المدينة القديمة أن يدفعوا في اتجاه المحافظة على مقوماتها، رابطين المعرفة بقيمة تاريخهم بالفعل والعمل، دفاعًا عن مقوماتها الحضارية والثقافية؛ لأن الثقافة والجمال والحب، هي التي يمكن أن تنقذنا في نهاية المطاف.
«الحديقة السرية».. تحفة خضراء في قلب مراكش
تسترجع تاريخ المدينة الحمراء في علاقتها بالماء وفنون البستنة والعمارة الإسلامية
«الحديقة السرية».. تحفة خضراء في قلب مراكش
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة