أطول يوم في تاريخ اليابان

سجل تفصيلي للأحداث السياسية والعسكرية والنفسية في الـ24 ساعة التي سبقت إعلان طوكيو استسلامها في الحرب العالمية الثانية (1 من 3)

لقطة للاجتماع الذي عقده الامبراطور الياباني هيروهيتو مع حكومته وجنرالاته عام 1949 لتحديد الموقف من الحرب
لقطة للاجتماع الذي عقده الامبراطور الياباني هيروهيتو مع حكومته وجنرالاته عام 1949 لتحديد الموقف من الحرب
TT

أطول يوم في تاريخ اليابان

لقطة للاجتماع الذي عقده الامبراطور الياباني هيروهيتو مع حكومته وجنرالاته عام 1949 لتحديد الموقف من الحرب
لقطة للاجتماع الذي عقده الامبراطور الياباني هيروهيتو مع حكومته وجنرالاته عام 1949 لتحديد الموقف من الحرب

تكمن أهمية كتاب «أطول يوم في تاريخ اليابان.. التعصب الذي قاد اليابان إلى حافة القيامة» الذي ننشر منه ثلاث حلقات متسلسلة، أساسًا في كشفه جانبًا من الحالات النفسية التي كانت تتحكم، سرًا، في مواقف وسلوك شخصيات سياسية وعسكرية كبيرة، تتحدث بلياقة وهدوء، لكن دواخلها تعتمل بالغضب والفزع والضياع، فقد كان مطلوبًا منها اتخاذ قرارات سريعة لمصارعة الزمن الذي كان يهدد، في لحظاته الأخيرة، أكبر إمبراطورية استعمارية في الشرق بالانهيار، وقادتها بالهوان، بعد أن أصبحوا يعيشون في ملاجئ تحت الأرض، محاصرين بين نزعة ضباطهم المتعصبة للاستمرار في الحرب، وهزائم جيوشهم المتوالية أمام زحف قوات الحلفاء، تعززها غارات كثيفة فوق مدن اليابان وعاصمتها طوكيو، ثم مسح هيروشيما وناغازاكي من الوجود بأول سلاح نووي يُستَعمل في التاريخ.
ولا بد أن نلاحظ في السرديات والوقائع التي يرويها الكتاب، بشكل شبه روائي، الشبه الكبير بين عنجهية العقلية الشوفينية وسيطرتها (متمثلة بالمؤسسة العسكرية) على كل أوجه الحياة في اليابان ذلك الوقت، بما يحدث حاليا في سوريا ومن قبلها العراق، حيث تطغى شوفينية الحاكم على أصوات السلام، حتى لو قضى الشعب كله، طالما الحاكم وعساكره يستمتعون بحياة «كريمة». وسوف نرى تفاصيل مشابهة إلى حد كبير لما يجري اليوم، وكأن التاريخ فعلاً يظل يُعيد نفسه بلا رحمة، وتنشر صحيفة «الشرق الأوسط» الحلقة الأولى من كتاب «أطول يوم في تاريخ اليابان.. التعصب الذي قاد اليابان إلى حافة القيامة»، التي تتبعها حلقتان في اليومين المقبلين.
في الساعة الثانية عشرة ظهرًا، الخامس من أغسطس (آب) 1945، حدث أمران تاريخيان في الوقت نفسه باليابان: الشعب الياباني سمع صوت إمبراطوره لأول مرة، ليخبرهم في الراديو أن بلدهم خسر حربه الأولى. هذا الكتاب هو سجل تفصيلي للأربع والعشرين ساعة التي سبقت ذلك البث، منذ الاجتماع الإمبراطوري حيث اتخذ قرار الاستسلام إلى إذاعة خطاب الإمبراطور نفسه.
كان ذلك أطول يوم يعيشه شعب اليابان في تاريخه.
بالنسبة لنا، نحن أعضاء معهد دراسات حرب الباسيفيك، كانت فكرة تجميع وكتابة هذا السجل مهمة للغاية، إذ بدا كما لو أننا نعيش من جديد قسوة تلك الأحداث التي عاناها بلدنا. الخامس عشر من أغسطس سنة 1945، كان ذروة السنوات المائة الأخيرة في تاريخ اليابان، منذ عهد ميجي. كل مستقبل الشعب الياباني، واليابان نفسها، يتوقفان على ذلك اليوم.
إنني الأكبر سنًا بين أعضاء معهد دراسات حرب الباسيفيك، فقد كنت في الصف الثالث الإعدادي يوم تحدث الإمبراطور من الراديو. حينها كنت أعمل في مصنع للعتاد الحربي ينتج خرطوشة للرشاش 20 ملم، وتلك كانت مساهمتي في الحرب. وفي أحد الأيام قصفت طائرات بي 29 المصنع وقتل كثير من زملائي في العمل. يومها كانت جبهة القتال قد انتقلت إلى الداخل، مع ذلك كنت لا أزال آمل بانتصار اليابان، لذلك كان شعوري في منتصف ذلك اليوم خليطًا من المرارة والغضب، مع إحساس بعبثية الأمل، إذ أُخبرنا أننا مع احتلال اليابان سوف نُجبر على عيش حياة العبيد.
في ذلك اليوم دخنتُ أول سيجارة، الأمر الذي كان ممنوعًا في المدارس، مع الإصرار على القيام بأي شيء آخر، فقد كنت لا أزال شابًا، وبدا أن القليل من الوقت قد تُرك لي لأعيشه، ولم تكن هناك متعة في أي شيء أفعله. بالنسبة لنا، نحن الذين عانينا الحرب، سواء على الجبهة أو في الداخل، كنا بشكل أو بآخر عرضة لرعب الحرب. كانت الحرب مثل قدر لا يمكن تجنبه. كان علينا تحمّل قسوة المشاهد اليومية لوحشية الإنسان ضد الإنسان.
على الرغم من أن الخامس عشر من أغسطس وضع نهاية لبعض تلك الوحشية، فالحقيقة أن الهزيمة، بالنسبة للشعب الياباني، كانت تجربة كارثية من الصعب جدًا قياس آثارها. وحتى اليوم لا تزال اليابان ضالّة طريقها لتهدئة أرواح قتلى الحرب، وإلى أن تفعل، لا تستطيع القول إن كانت قد نسيتْ الماضي، أم أنها تعيش برمتها في الحاضر.
ما الذي قاد مئات الآلاف إلى الموت؟ بعض الإجابات قد توجد في أفكار وذكريات اللاعبين الرئيسيين في دراما الأربع وعشرين ساعة تلك! وكان ذلك أحد أسباب وضع هذا الكتاب.
أن تموت من أجل وطنك، كان يعتبر على الدوام واجبًا دينيًا في اليابان. قد تكون عشرون عامًا ليست طويلة بما يكفي على أمّة، لتطرح عنها ذلك الاعتقاد القديم، لكن يجب عليها أن تفعل هذا، إذا أراد الشعب الياباني أن يعيش في عالم اليوم وليس الأمس. وربما هذا سببٌ آخر لوضع هذا الكتاب.
إن مصاعب تسجيل أحداث تاريخ معاصر، بينما ممثلوه لا يزالون أحياء، واضحة. لقد قابلنا كل الأحياء من المشاركين في الدراما النهائية لهزيمة اليابان - مع استثناء واحد، هو بطل تلك الدراما، الإمبراطور نفسه وبينما نقرأ بشكل طبيعي كل ما نُشر في تلك الفترة، فإن القاعدة الأساسية لتقريرنا تعتمد المقابلات الشخصية، صياغتنا للأحداث، المشاعر والحالات الذهنية، كلها دُعمت من قبل الرجال الذين قابلناهم.
مع ذلك، علينا أن نتذكر أن أكثر من عشرين سنة انقضت منذ ذلك اليوم. الأحداث تصاعدت بسرعة، لوّنتْ الذاكرة بطريقة قدرية لا يمكن تجنبها. ذاكرات شاحبة، رجال لهم أسبابهم لاسترجاع ما يريدون تذكره فقط، أو تكرار ما يرغبون بتكراره فقط. ثم على المؤرخ أن يستخلص الحقيقة من الزيف - وأحيانا لا يمكن تلافي الفشل.
كثير من اللاعبين الرئيسيين ماتوا، إذ كانوا رجالاً مسنين وقت حصول الدراما، والبعض مات قبل وقت قريب. أحدهم فضّل عدم الكلام: عندما قابلنا الماركيز كويتشي كيدو، ظلّ كاتم السر الإمبراطوري رافضًا كسر صمته.
محنة استسلام اليابان كانت أشبه بزلزال ما فتئت آثاره بادية حتى اليوم. ولإعادة حساب التفاصيل المأساوية للهزيمة، ينبغي، بل ومن الضروري، استحضار وحث الذاكرة الحزينة، فربما ساعدتْ أيضًا على تعبيد الطريق لبداية جديدة أفضل. وقد يكون هذا أهم الأسباب لوضع هذا الكتاب وهو:
حروب واتفاقيات اليابان منذ عهد الإمبراطور ميجي (1868)
حتى الاستسلام في عهد الإمبراطور هيرو هيتو (1945)

أحداث بارزة
عام 1868، وهو العام الذي توّج فيه الإمبراطور ميجي، حُكمت اليابان من قبل لوردات الحرب الذين أطلق عليهم اسم شوكانز. وبتسلم ميجي الحكم، بدأت اليابان نقلة راديكالية حوّلتها من مجتمع إقطاعي إلى أقوى أمّة في العالم المعاصر، فقد اهتم ميجي بعصرنة اليابان بعد عزلة عن الغرب استمرت 250 سنة، واهتم، شخصيًا، بدعم مؤسستي الجيش والبحرية، مما أنعش لدى اليابانيين الروح الشوفينية والرغبة في التوسع.
* في أكتوبر (تشرين الأول) 1874، غزت اليابان جزيرة فرموزا لتصبح قواتها على مشارف الصين. وفي فبراير (شباط) قامت قوات يابانية مموهة بالهجوم على كوريا. وفي فبراير من نفس العام رتبت اليابان الخطوات لاستقلال كوريا.
* 22 مايو (أيار) 1882، وقعت الولايات المتحدة معاهدة مع كوريا، رتبت بموجبها استقلال كوريا عن الصين وروسيا واليابان، وكانت الدول الثلاث تتنازع للسيطرة عليها.
* 1 أغسطس (آب) 1894، أعلنت الحرب بين اليابان والصين.
* 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1894، وقعت الولايات المتحدة واليابان اتفاقية تجارية.
* 23 أبريل (نيسان) 1895، تدخلت روسيا وألمانيا وفرنسا لإيقاف الحرب بين اليابان والصين، وأجبرت اليابان على إعادة بعض المناطق التي احتلها إلى الصين.
* 30 يناير (كانون الثاني) 1902، وقعت بريطانيا واليابان اتفاقية يحترم بموجبها الطرفان مصالح كل منهما في الصين.
* 5 سبتمبر (أيلول) 1905، نشبت الحرب بين روسيا واليابان في منشوريا وكوريا.
* 15 أبريل 1907، سلمت اليابان منشوريا للصين ضمن شروط معاهدة بورتسموث، التي وضعت نهاية للحرب بين اليابان وروسيا.
* 4 يوليو (تموز) 1910، اعترفت روسيا لليابان بحقها في السيطرة على كوريا، مقابل إطلاق يد روسيا في منشوريا.
* في يونيو (حزيران) 1915، وسعيًا وراء التدخل في شؤون الصين، وضعت اليابان 21 مطلبًا، تجعل الصين دولة خاضعة للنفوذ الياباني.
* في 30 يوليو 1921، مات ميجي، وتولى السلطة ابنه يوشيتو في نوفمبر 1921، فأطلق على نفسه لقب الإمبراطور يايشو. إلا أن يايشو ظهرت عليه بسرعة علامات الاختلال العقلي، ثم توفى عام 1924.

عهد الإمبراطور هيرو هيتو:
* 25 في ديسمبر (كانون الأول) 1926، خلف هيرو هيتو والده يوشي هيتو في تولي السلطة، وفي 10 نوفمبر 1928 توّج إمبراطورا لليابان، إذ إن التقاليد اليابانية تفرض مرور سنتين على وفاة الإمبراطور ليصبح ولي العهد إمبراطورا جديدًا للبلد. حكم هيرو هيتو لأطول فترة في تاريخ اليابان. تميّز عهده بالسلام المشرق، على الرغم من حرب اليابان ضد الولايات المتحدة من 1941 إلى 1945. وكما يصف المؤلف هيرو هيتو في مكان آخر، فهو شخص وديع، مسالم، يكره العنف والحروب، إلا أن العسكريين الذين يقدسون الإمبراطور حسب التقليد الديني للبلد، أرادوا خلق سلطة موازية لسلطته من خلال الحروب التوسعية وتغذية الروح الشوفينية بين اليابانيين، وقد نجحوا في ذلك، إلا أنهم دمروا اليابان في النهاية. وقد سار هيتو على نهج جده الإمبراطور ميجي بالنسبة للدستور فقد ظلّ الإمبراطور بعيدًا عن أي تدخل شخصي في قرارات الحكومة، فاستغل الجيش هذه النقطة لاحتلال منشوريا ضد رغبة الإمبراطور، وحسب بعض المؤرخين فإن احتلال اليابان للصين هو الذي مهّد للحرب العالمية الثانية.
* أثناء فترة الحروب السابقة، تحوّل الجيش إلى قوة مؤثرة في الحياة السياسية، وخلق لنفسه سلطة موازية لسلطة الإمبراطور. ورغم طبيعة هيرو هيتو الميالة إلى السلام، وتطوير المظاهر الديمقراطية التي بدأها جده ميجي، واصل الجيش حروبه التوسعية في المنطقة، تشجعه حكومات ضعيفة، وأخرى تطمح إلى إخضاع البلدان المجاورة لسلطة اليابان.
*18 سبتمبر 1931، عادت اليابان واحتلت منشوريا.
* 25 نوفمبر 1936، وقعت اليابان وألمانيا اتفاقية لحماية العالم المتحضر من تهديد البولشفيك. وفي 6 نوفمبر 1937 انضمت اليابان إلى المحور النازي الفاشي.
* 13 أبريل 1941، وقع ستالين اتفاقية سلام مع اليابان.
* عندما احتلت ألمانيا هولندا ثم فرنسا، أصبحت الهند الصينية التي كانت تحت الهيمنة الاستعمارية الهولندية والفرنسية غير محميّة، فهددت اليابان بالاستيلاء عليها، وفي سبتمبر عام 1937 دفعت اليابان بقواتها إلى الهند الصينية لتحتلها بهدف الحصول على قواعد عسكرية لقواتها في حربها ضد الصين.
*27 سبتمبر 1940، وقعت اليابان معاهدة مع ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، تنصّ على التحالف بين الدول الثلاث لخلق وضع عالمي جديد، تسيطر فيه ألمانيا وإيطاليا على أوروبا، بينما تسيطر اليابان على شرق آسيا.
*7 ديسمبر 1941، هاجمت الطائرات اليابانية القاعدة الجوية الأميركية في بيرل هاربر في هاواي.
* في منتصف 1942، احتلت القوات اليابانية الفلبين، ومستعمرات هولندا، ومالاوي، وبورما، وبذلك سيطرت على المنطقة الآسيوية الوسطى من الباسيفيك، وكانت قواتها وصلت إلى جزيرة اليوتيان في آلاسكا. كانت اليابان تطمح، بانتصاراتها السريعة، إلى عقد معاهدة سلام مع الولايات المتحدة أثناء انشغال الأخيرة في الحرب إلى جانب حلفائها في أوروبا ضد هتلر.
* حتى منتصف 1942، كان حظ اليابان في ذروته، والحلم بالهيمنة على شرق آسيا يوشك أن يتحقق، إلا أن الولايات المتحدة قد وصلت إلى قمة تطورها الصناعي، وكان ذلك فقط بعد أشهر من حادث بيرل هاربر، حين بدأ الحظ ينقلب إلى جانب خصمها.
* 25 ديسمبر 1941، استسلمت هونغ كونغ لليابان.
* في 17 أبريل 1942، أنذر الجنرال الأميركي جيمي دووليتل بقصف طوكيو بطائرات «B25» مما فاجأ سكان اليابان وصدمهم، وفي يونيو من السنة ذاتها بدأت المعارك البحرية في بحر كورال، إذ انطفأ حظ اليابان تماما في الدفاع عن نفسها.
* 15 يونيو 1944، بدأت الولايات المتحدة قصف المدن اليابانية.
* في بداية 1945، أنزل الجنرال ماك آرثر قوات أميركية في خليج Lingayen بلوزون لإعادة الاستيلاء على الجزيرة التي احتلتها اليابان قبل أربعة أعوام، مما ساعد على إنهاء المقاومة العنيفة التي أبداها الجيش الياباني قبل الانسحاب من الفلبين وفي مانيلا التي استمرت لعدة أشهر، وبذلك نظف الأميركيون آخر جيب للمقاومة اليابانية في الفلبين.
* 26 يوليو 1945، اجتمع قادة الدول الحليفة في ضاحية بوتسدام بمدينة برلين بعد احتلالها، وأنذروا اليابان بالاستسلام أو مواجهة الدمار. لكن اليابان واصلت القتال.

اليوم السابق
في عام 1931، دخل الجيش الإمبراطوري الياباني منشوريا ليصبح، نتيجة لذلك، القوة المسيطرة في حياة الشعب. وبعد 14 سنة من ذلك التاريخ، أي في عام 1945 أدرك الإمبراطور ومعظم رجال حكومته أن اليابان قد خسرت الحرب، إلا أن مشكلتهم العسيرة كانت كيف يوصلون هذه الحرب إلى نهايتها.
كان الجيش الياباني في تلك المرحلة لا يزال قويًا، ولن يقبل الهزيمة ولا الاستسلام، فأصرّ أنه وحده الذي يعرف مصلحة البلد. لهذا فإن صراع اليابان الأخير لم يكن مع العدو، بل مع نفسها. وللحظة أو اثنتين من ذلك اليوم الطويل من أغسطس، بدا أن الصراع لا مفرّ منه، ولو كان الإمبراطور نفسه في قلب الصراع لكان في النهاية من يقوده إلى الحلّ.
بعيدًا إلى الوراء، في فبراير (شباط) من عام 1942، كان اللورد ماركيز كويشي كيدو، كاتم أسرار الإمبراطور، قد أدرك أن التفوق الأميركي على اليابان سيكون حتمًا العامل الحاسم في الحرب، فنصح الإمبراطور سرّا بأن «يقتنص أي فرصة ممكنة للتعجيل بوضع نهاية للحرب». وقد توصل الآخرون إلى الاستنتاج الخطير ذاته، لكن بعد أن انتهت الحرب. كان الوضع خطيرًا لأن الجيش لم يتفهم الموقف.
كانت المحاولات السرية لإنهاء الحرب من خلال منظمة الـ«OSS» الأميركية السويسرية قد باءت بالفشل، وكثير من الرجال، بمن فيهم الإمبراطور نفسه، فضّلوا تعليق الآمال على المساعي الحميدة التي يقوم بها الاتحاد السوفياتي، وظلوا معلقين بهذه الآمال إلى اليوم الذي أعلن فيه ستالين الحرب على اليابان.
الوزارة الحالية للبارون سوزوكي كانت تصرخ أبعد من صراخ الجنرال توجو، أحد أكبر مهندسي خطة الجيش لتقسيم العالم بين اليابان وألمانيا. وزير الخارجية شيجينوري توكو ترأس المجموعة المؤيدة لإعلان بوتسدام، وإن بوقت متأخر جدًا، ليوفروا على الشعب الكثير من العناء، ويجنبوا اليابان الدمار الشامل. وكلتا المجموعتين (المؤيدة للسلام والمحبّذة للحرب) متشابهتان بإصرارهما على صون الكيان الأساسي للأمّة باستعدادهما لوهب أرواحهم من أجل معتقداتهم ومن أجل الإمبراطور، لأن اليابان دون سيادة مسألة لا يمكن التفكير بها من قبل الجانبين.
عشرون يومًا قبل اليوم الأخير، استيقظ الشعب الياباني على ما بدا لهم يوم حرب عاديًا من أيام الصيف الحارة الرطبة. المعدة خالية ويبدو أنها ستبقى كذلك، وثمة عمل يجب إنجازه، هو مواصلة الحرب حتى النهاية، بينما كانت الحرب تكبر وتصعب مع مرور الأيام. مع زيادة سوء التغذية، تصاعد التلوث الإشعاعي الذي يعني الموت للبعض والتشرد لكثيرين، ونقص المواد الخام الذي يعيق الإنتاج. كل هذا في حرارة ورطوبة صيف اليابان. يوم آخر رغم الجوع والإرهاق، لكن ما زالت بسالة اليوم مثل بسالة الأمس.
إلاّ أنهم كانوا مخطئين، والحكومة علمت بهذا. في السادسة من صباح نفس اليوم التقطت دائرة الإذاعات الخارجية في طوكيو بثًّا من سان فرانسيسكو، يعلن عن بيان وقعه في اليوم السابق كل من الرئيس الأميركي ورئيس جمهورية الصين ورئيس وزراء بريطانيا الذي كان طرفًا في محادثات بوتسدام، يوصي بإعطاء اليابان فرصة لإنهاء الحرب. على الفور بدأ مكتب وزير الخارجية دراسة عبارات البيان بينما الترجمة أصبحت جاهزة.
لقد حان الوقت لتقرر اليابان فيما إذا كانت ستظل محكومة بنصائح العسكريين المتشبثين برأيهم، الذين أوصلت استنتاجاتهم غير الذكية إمبراطورية اليابان إلى حافة الهلاك، أم أنها ستتبع طريق المنطق؟
بعد ذلك جاء دورنا. لن ننحرف عنهم، لا يوجد بديل، لم نعد نحتمل أي تأخير. علينا إنهاء تلك الفترة، حيث كانت الصلاحيات والنفوذ بيد أولئك الذين خدعوا الشعب الياباني وأدخلوه في مشروع لاكتساح العالم، بإصرارنا على أن نظامًا جديدًا من السلام والأمن والعدالة سيكون مستحيلاً ما لم يختفِ العسكر من العالم!
«نحن لا نقصد استعباد اليابان كعرق، أو تدميرها كأمّة، لكن العدالة الصارمة تقتضي إقصاء مجرمي الحرب، بمن فيهم أولئك الذين أوقعوا وحشيتهم على أسرانا. على الحكومة اليابانية أن تزيل كل العقبات من أجل إحياء وتعزيز الاتجاهات الديمقراطية لدى الشعب الياباني. حرية الكلمة، العقيدة، الفكر، ومبادئ حقوق الإنسان لا بُدّ أن ترسى.
نحن ندعو الحكومة أن تعلن الآن التنازل غير المشروط عن كل ما احتلته بالقوة، وأن تقدم التعهدات الصحيحة والملائمة لإثبات حسن النيات. أما البديل عن كل هذا فسيكون الدمار السريع والشامل لليابان».
أول شخص استجاب لبيان بوتسدام الذي بثّ من سان فرانسيسكو كان نائب وزير الخارجية شونيكي ماتسومو، فقد نصح وزير الخارجية توكو بأن على اليابان أن تقبل ما جاء في ذلك الإعلان، حيث سيكون الرفض أكبر حماقة ترتكب، وكان قد بدأ بتحرير مسودة الموافقة اليابانية فعلاً، ليتم إرسالها إلى سفارات اليابان في سويسرا أو السويد، ومن هناك تمرّر إلى العدو. عندها دخل توكو الغرفة.
«انتظر..» قال وزير الخارجية: «لن يكون الأمر بهذه السهولة». كان صوته في غاية الحزن، «فالجيش لن يقبل الإعلان كما جاء».
لكن توكو شعر أن حقيقة تخفيف الحلفاء حدة مطلبهم الأول في إعلان القاهرة من «استسلام اليابان غير المشروط» إلى «استسلام كل قوى الجيش الياباني غير المشروط» مفاده أن ثمة تخفيفًا وتوددًا أكثر في اللهجة سيأتي قريبًا، بحيث يقبل به الجيش ويحفظ له ماء وجهه. لذا فقد استنتج أنه قبل الردّ، على اليابان أن تبذل محاولة أخيرة للاستعانة بالمساعي الحميدة للسوفيات. لقد توصل توكو إلى هذا الاستنتاج على الرغم من حقيقة أن كل محادثات طوكيو مع موسكو، ولحد الآن، لم تكن حاسمة على الإطلاق. فمحاولات توظيف مساعدة السفير السوفياتي في طوكيو باءت بالفشل، وناوتاكي ساتو، السفير الياباني لدى الاتحاد السوفياتي أكد لتوكو أنه «لا مجال مهمًا لكسب الاتحاد السوفياتي لجانبنا...»، ما لم يكن يعرفه توكو بالطبع، إن روزفلت وتشرشل اتفقا على امتيازات كبرى في الشرق الأوسط، إذا دخل ستالين الحرب ضد اليابان خلال شهر أو ثلاثة أشهر بعد انتهاء الحرب في أوروبا.
على الرغم مما كُشف وما لم يكشف، كان توكو قادرًا ليس على إقناع نفسه فقط، إنما رئيس الوزراء أيضًا بأن الاتحاد السوفياتي لم يكن عاجزًا تجاه اليابان، والمساعي الحميدة للكرملين ربما لا تزال ممكنة.
في الساعة العاشرة والنصف صباح 27 يوليو (تموز)، اجتمع المجلس الأعلى لإدارة الحرب لمناقشة إعلان بوتسدام واحتمالات الوساطة السوفياتية. مجلس الحرب الأعلى هذا يتألف من اليابانيين الست الكبار، رئيس الوزراء، وزير الشؤون الخارجية، وزير الحرب، وزير البحرية، ورئيس عام قوات الجيش ورئيس عام البحرية. في الاجتماع أكد توكو على أهمية الانتقال من استسلام اليابان غير المشروط إلى استسلام القوات المسلحة اليابانية غير المشروط، وأعلن عن اعتقاده أن رفض ما جاء في الإعلان سيكون تصرفًا غير سياسي إلى حدٍ كبير. كان توكو قادرًا رغم المعارضة الكبيرة على إقناع المجلس الأعلى بتأجيل ردّ اليابان إلى أن يسمع مرة أخرى من موسكو. هذا يعني، رغم الكلمات المنذرة: «أننا لم نعد نتحمل أي تأجيل». كانت فترة من الترقب الحذر.
ما أفضل طريقة لإخبار الشعب الياباني بالإعلان؟ كانت تلك مشكلة كبيرة أخرى. مجلس الوزراء عقد اجتماعًا كاملاً بعد الظهر في محاولة لحلّها.

* وضع الكتاب وترجمه إلى الإنجليزية مجموعة من باحثي معهد دراسات حرب الباسيفيك



أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
TT

أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)

بين مجاعة وشيكة، وفقر مدقع، وأمراض لا تذر كبيراً ولا صغيراً، يقع سكان قطاع غزة محاصرين بين ثالوث شر لا يرحم، وقوات عسكرية لا تملك أي إنسانية.

وبعد نحو 14 شهراً من المأساة، يرى شهود عيان أن مَن مات في القطاع استراح، أما من عاش، فهو يحيا تجربة الاقتراب من الموت كل لحظة؛ سواء من القصف، أو من الجوع والمرض والفقر. تحدثت «الشرق الأوسط» إلى كثير من أهالي القطاع المحاصر والنازحين والمسؤولين الأمميين للوقوف على واقعهم اليوم.

يتذكر محمد، وهو اسم مستعار طلب محدِّثنا استخدامه، كأغلب النازحين الذين فضلوا عدم تعريفهم خشية تعرضهم لمشكلات، أيامه قبل الخروج هرباً من القطاع في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، فيقول: «كنا نسمع في أجواء الحي القصف ليلاً، وصفير القذائف المتوالية بينما تسقط قبل انفجارها، لنجلس طوال الليل نحاول أن نعرف أين سقطت ومن مات... ثم نصحو لنخرج جميعاً إلى الشوارع من أجل معرفة الحقيقة، وعزاء أسر الضحايا، وتهنئة من لا يزال حياً».

وبدوره يروي إياد، لـ«الشرق الأوسط»، معاناة عائلته في غزة بعدما اضطر لتركهم خلفه، فيقول باكياً: «تحدث معي إخوتي وقالوا لي، لديك فرصة للخروج من غزة إلى مصر، اذهب ولا تقلق علينا ولا على أمك وأخواتك البنات، فالبقاء هنا لن يعني إلا أن نموت جميعاً. على الأقل يمكنك من هناك إرسال بعض المال لإعانتنا، أو حتى تقدر أن تسحبنا خلفك إلى مصر... وعلى الأسوأ، إذا متنا نجد أحداً يدفننا».

الهروب إلى الأمام

الدكتور محمد أبو دوابة، محاضر أكاديمي في الجامعات الفلسطينية وباحث في المجال النفسي والاجتماعي، تحدث إلى «الشرق الأوسط» عن وجهة نظره في ما يعانيه سكان غزة كأكاديمي عاصر جزءاً كبيراً من الأحداث على الأرض، وقال: «العوامل في قطاع غزة متداخلة، ولا يمكن الفصل بين الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والحلول المتاحة أصبحت لا تكفي لمشكلات الناس. وفي علم الاجتماع، عندما تكون هناك مشكلة وأنت في وسطها وتتحرك معها، فتراها من منظور... لكن إذا خرجت خارج الصندوق، تجد حالك تراها وأنت ثابت بشكل مختلف تماماً، وتشعر بالمعاناة التي يعانيها أهل غزة».

ظاهرة أخرى غريبة رصدها أبو دوابة وقال إنه يحاول دراستها، فقد لاحظ أن أهالي غزة ممن لديهم أولاد أو بنات صاروا يُقبلون على تزويج أبنائهم بكثافة، لا من أجل الفرح –«وهو إحساس قُتل عند الجميع»- حسب تعبيره؛ بل كنوع من أنواع تخفيف المسؤولية. فأهل البنت يريدون أن تدخل تحت غطاء الحماية الاجتماعية لزوجها، وأهل الولد يريدون أن يستقل عنهم.

ويتابع أبو دوابة: «لم يعد الزواج يمارَس بوصفه امتداداً ونواة للمجتمع لبناء الأسر، لكن هنا صار الوضع كله هروباً من الظروف الاقتصادية وتخفيف الأعباء على الأسر، فالوضع الاقتصادي ضرب نسيج المجتمع في مقتل. وفي العالم كله كلمة زواج تعني الفرح والسعادة والمستقبل والخلفة، فيما أهل غزة لا تمكنهم إقامة أفراح، ففي كل عائلة أكثر من شهيد وحالات ممتدة من الحداد، والفقر يحاصرهم من كل جانب».

أبرز القطاعات المتضررة في غزة (الشرق الأوسط)

ولادة تحت القصف

تجربة أخرى مريرة ترويها عزة، التي تقول إنها كانت في شهور الحمل الأخيرة وكان من المقرر أن تسافر مع زوجها قبل اشتعال الأزمة، لكن كل شيء تغير بعد بدئها.

تروي عزة: «تجربة آخر شهرين في الحمل كانت صعبة جداً في الحرب بسبب عدم توفر الغذاء الصحي للحامل وعدم وجود غاز الطهي، وأغلب الوقت شغالين على نار الحطب، وطبعا دخان كثير وكنت خايفة جداً على الجنين من دخان النار... والأكل اللي كان متوفر إما مكرونة أو عدس، ولو عاوزين حاجه دافية في البرد نشرب شاي من دون سكر».

وتواصل عزة شهادتها لـ«الشرق الأوسط»، فتقول: «وقت الولادة كان الاتصال مقطوعاً عن غزه كلها، ما فينا نكلّم الإسعاف لو صار وجع ولادة، وحتى سيارات الإسعاف كانت تُستهدف كثيراً... ولا فينا نطلع بالسيارة لأنه لا يوجد بنزين. وأي شخص عنده سيارة ومتوفر فيها بنزين كان يخاف يطلع ويخاطر بحياته لأنه بيتم قصف السيارات المدنية. وقتها بيتي كان بعيداً عن المستشفى وكان أفضل حل أروح بيت أهلي القريب نوعاً ما للمستشفى».

لكن لسوء الحظ تم إبلاغ المربع الذي يسكن فيه أهل عزة بالإخلاء، لأن الجيش الإسرائيلي سيتدخل برياً، فنزحت هي وأهلها مجدداً إلى بيتها. ومن شدة الرعب، لم تداهمها آلام الولادة، فذهبت إلى المستشفى للكشف، ليكتشفوا أن حالة الجنين ليست مطمئنة، فحجزوها 3 أيام لحين الولادة.

تقول عزة: «خلال هذه الأيام الثلاثة لم يكن هناك من غذاء سوى الحلاوة التي تدخل من خلال المساعدات. وضُرب المستشفى بقذيفة دبابة، لكنّ الله سلَّم. وعُدتُ إلى البيت لأجد أمراً آخر بالإخلاء، لم يكن أمامنا من خيار سوى الذهاب إلى المخيمات بابنتي حديثة الولادة... حيث البرد القارس، والأمطار تبلل كل شيء داخل الخيمة. ولا طعام إلا وجبة واحدة مكونة من نصف رغيف خبز، ومياه الشرب قليلة ولا يحبذ الشرب بعد الساعة السادسة مساءً لأنه غير مسموح بمغادرة الخيمة للحمامات مساءً... كل هذا أدى في النهاية لعدم تمكني من إرضاع طفلتي بشكل طبيعي، واضطررت لاستخدام الحليب الصناعي، الذي كنت أشك في صلاحيته بالأساس لكونه يباع في الشارع؛ لكن لم يكن أمامي أي خيارات».

أما بالنسبة للملابس، فتقول عزة إن سكان القطاع يتعاونون في توفير ملابس الأطفال المستعملة بعضهم لبعض، فيما كانت تضطر لإبقاء على حفاظة ابنتها لأكثر من 10 ساعات كونها غير متوافرة. وتضيف: «أساساً موضوع الصحة آخر ما يمكن أن تفكر فيه في المخيمات... الاستحمام متاح مرة كل أسبوعين، وغسيل الملابس باليد على شاطئ البحر، وطبعاً شيء مثل الفوط الصحية النسائية تَرَفٌ غير موجود من الأساس».

نساء بطلات و«قلة حيلة»

وضع النساء -بصورة خاصة- المأساوي، دفع «الشرق الأوسط» إلى التوجه إلى الدكتور معز دريد، المدير الإقليمي لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، الذي أوضح وجود أكثر من 155 ألف امرأة حامل أو مرضع داخل قطاع غزة حالياً، أغلبهن لا يجدن رعاية كافية بما يؤدي إلى تفاقم خطورة الأوضاع الصحية، وبينما تحاول الهيئات الأممية بكل السبل إيجاد وسائل لدعمهن ودعم غيرهن، إلا أنها تقف «قليلة الحيلة» في ظل الحصار ومنع دخول المساعدات، خصوصاً بعد حظر «أونروا» من ممارسة دورها، والتي كانت تعد العمود الفقري الأساسي للمؤسسات الأممية كافة داخل القطاع، ودورها بلا بديل ولا يعوَّض.

سيدة فلسطينية تُطعم طفلها وسط الأنقاض في منطقة نهر البارد جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)

وقال دريد: «الوضع كارثي، وعدد القتلى في غزة منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 يناهز حالياً 45 ألف شخص، وهذا يعادل 6 أضعاف عدد القتلى خلال مجمل الأعوام الـ15 التي سبقت الأحداث الحالية. كما أن التركيبة الديمغرافية لهؤلاء الضحايا شهدت تغيراً فارقاً، إذ إن 70 في المائة منهم من النساء والأطفال، بعكس كل الأحداث والأعوام الماضية، مما يؤكد زيادة الاستهداف الأعمى للسكان دون التفرقة بين المدنيين وغيرهم... وهذا المعدل يساوي قتل ما يناهز 3 من السيدات والأطفال في كل ساعة يومياً منذ بداية الحرب!».

وأكد دريد أن بعض الأسر نزحت أكثر من 10 مرات من أجل الهرب من الضربات، ولا يوجد مكان آمن في غزة، والخدمات غير متوفرة، والأوضاع في غاية السوء.

وحول المساعدات التي تقدمها هيئة الأمم المتحدة للمرأة في غزة، أوضح دريد أنها قدمت مساعدات غذائية ونقدية لنحو 75 ألف امرأة وأسرهن، «من بينهن 14 ألف امرأة مسؤولات بالكامل عن أسرهن نظراً لغياب أي عائل لأسباب الوفاة أو الاعتقال أو خلافه، إضافة إلى برامج الدعم النفسي والاجتماعي. كما تتعاون الهيئة مع منظمات فلسطينية في غزة تقودها النساء، واللاتي نثمن ونقدر دورهن وصمودهن في ظل الأوضاع والصعاب الحالية».

وأفاد دريد بأن المساعدات التي تصل إلى مستحقيها شحيحة جداً، ليس بسبب قلة التمويل أو تقاعس مقدمي الدعم، ولكن بسبب العوائق التي تفرضها قوى الاحتلال، وغياب القدرة على تأمين هذه المساعدات القليلة التي تعبر إلى داخل القطاع، وهو أيضاً ما يقع تحت مسؤولية قوة الاحتلال وفقاً للقانون الدولي.

وبعد نحو 14 شهراً من الحرب، يؤكد دريد أنه مع مستويات الفقر والبطالة والدمار الهائلة في غزة، ومع فقدان العائل الأساسي لنحو 8 آلاف من الأسر، تشير التحليلات إلى أن النساء فقدن روافد الدخل ومصادر الرزق بشكل فائق... ومع توحش التضخم، أصبحت حالة هؤلاء النساء مأساوية.

تجريف وجوع

وفي ظل الأوضاع المأساوية التي يعيشها أهالي القطاع، حاولت بعض القرى أن تلجأ إلى زراعة احتياجاتها الغذائية، بل نجح أهالي جباليا وبيت لاهيا، على سبيل المثال، في تحقيق ما يشبه الاكتفاء الذاتي زراعياً... لكنَّ القوات الإسرائيلية اجتاحت الأراضي ودمرت البنية التحتية عمداً، بما يشمل الأراضي وقنوات الري وحتى مزارع الإنتاج الحيواني والسمكي، وذلك تحت ستار البحث عن الأسلحة والأنفاق، حسب شهادات شهود عيان وخبراء تحدثوا إلى «الشرق الأوسط»، إلى جانب فرض قيود على دخول البذور والأسمدة إلى القطاع.

رجل يختبئ خلف عمود فيما ينتشر الدخان والغبار نتيجة انفجار خلال غارة إسرائيلية استهدفت مدرسة في غزة (أ.ف.ب)

وعلى هامش إحدى الفاعليات الخاصة التي حضرتها «الشرق الأوسط» في القاهرة، قال عبد الحكيم الواعر، مساعد المدير العام والممثل الإقليمي لمنظمة الأغذية والزراعة في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، إن «التحدي الأكبر للمنطقة العربية بشكل عام فيما يخص الأمن الغذائي هو الحروب والنزاعات، وخلال النزاعات المطولة والممتدة مثل الوضع في غزة، يوجد أثر كبير على قطاع الزراعة والغذاء».

وأضاف الواعر أن «ذلك يعود إلى عدة عوامل، أولها هجران الناس والمزارعين أراضيهم، مما يتسبب في خلل المنظومة الزراعية، خصوصاً أنهم في حالة نزوح دائم من منطقة إلى أخرى. وذلك بالإضافة إلى الدمار المباشر لهذه الأراضي، فقد جرى تدمير نحو 70 في المائة من الأراضي الزراعية في غزة، سواء بالضرب المباشر خلال العمليات العسكرية أو عبر التجريف، وتأثراً بحركة الآليات الثقيلة... كما نضبت الثروة السمكية تقريباً داخل القطاع منذ 7 أكتوبر 2023، والثروة الداجنة انتهت بالكامل لأنه لا توجد إمدادات، وبقي جزء قليل جداً من الثروة الحيوانية، الذي نحاول كمؤسسات دولية دعمه بالمدخلات الضرورية مثل العلف والتحصينات والمغذيات. وبالإضافة إلى ذلك لا توجد مصادر مياه أو غذاء آمنة ونظيفة ولا كافية، والمساعدات الغذائية شبه متوقفة».

وأكد الواعر أن «كل سكان» غزة أصبحوا للمرة الأولى يقعون تحت خطر التهديد بالجوع، حيث إنهم إمَّا يقعون في الفئة الخامسة (المجاعة) أو الرابعة (الكارثة)، وهي الفئة التي لا يتحصل فيها الإنسان على وجبة واحدة يومياً بصفة منتظمة.

مكان غير صالح للحياة

ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فلم يكفِ سكان قطاع غزة كل ما يمرون به، ليُنكَبوا بوقف إسرائيل دخول المساعدات الشحيحة بالأساس.

وحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، فإن وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع يواجه عراقيل كثيرة، ومن أصل 423 حركة مساعدات إنسانية تم التنسيق لها مع السلطات الإسرائيلية في الفترة من الأول إلى 20 أكتوبر الماضي، تم تسهيل 151 حركة فقط، ورُفضت 189، وعطلت البقية. وفيما يتعلق بحركة وصول المساعدات إلى شمال القطاع، قال المكتب الأممي إنه تم تسهيل 4 حركات فقط من أصل 66 حركة مخططاً لها في ذات الفترة.

التأثير الاقتصادي والشرائح التي شملها هامش الفقر (الشرق الأوسط)

من جانبه، أكد عدنان أبو حسنة، المتحدث باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، أن هناك تراجعاً بالغاً في مستويات الأمن الغذائي في قطاع غزة، وأن الوضع في الجنوب «على أبواب مجاعة حقيقية»، فيما دخل الشمال مجاعة فعلية، ودخلت المنظومة الصحية بشكل عام مرحلة الانهيار. وأشار إلى تكرار رفض طلبات دخول المساعدات الغذائية والطبية إلى القطاع من جانب الحكومة الإسرائيلية. وضرب مثالاً بأن الأسبوع الأول من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) شهد مرور 37 شاحنة يومياً فقط، من بينها شاحنات مياه وأدوية وخيام، وذلك لخدمة 2.3 مليون ساكن للقطاع.

ولفت المسؤول الأممي، خلال «مائدة مستديرة» حضرتها «الشرق الأوسط» بمكتب الأمم المتحدة في القاهرة، إلى نقطة أخرى مهمة تؤكد معاناة سكان القطاع، إذ إن مئات الآلاف من السكان صاروا مصابين باضطرابات نفسية وعقلية نتيجة ما يمرون به من مأساة، حيث قدمت «أونروا» أكثر من 800 ألف استشارة نفسية في غزة خلال الفترة الماضية. كما حذر من أن المياه في غزة غير صالحة للشرب على الإطلاق، وكل المياه ملوثة ولا يمكن تنقيتها بعد تدمير منظومة الصرف الصحي تماماً.

حصار من كل الجوانب

وتشير أحدث تقارير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، والصادرة في شهر نوفمبر إلى أن مستوى الفقر في دولة فلسطين بشكل عام قفز إلى 74.3 في المائة في عام 2024، مؤثراً على أكثر من 4.1 مليون شخص، من بينهم 2.61 مليون يدخلون تحت هذا الخط للمرة الأولى. فيما تشير التقديرات إلى قفزة متوقعة لما يُعرف باسم «مؤشر الفقر متعدد الأبعاد» -الذي يقيس الفقر وفقاً لعدد من الأبعاد مثل مستوى المعيشة والوصول إلى الخدمات وغيرها- من 10.2 في المائة (وفقاً لقياسات عام 2017) إلى 30.1 في المائة في عام 2024... وكل ذلك بالتزامن مع انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 35.1 في المائة مقارنةً بسيناريو عدم وجود حرب، وارتفاع البطالة إلى 49.9 في المائة (التقديرات الحالية من أغلب المسؤولين -وفي ظل غياب أرقام دقيقة- تشير إلى مستويات بطالة تفوق 85 في المائة من السكان).

فلسطينيون يجلسون وسط الأنقاض في موقع غارة إسرائيلية على منزل بالنصيرات وسط قطاع غزة (رويترز)

مؤشر خطير آخر تشير إليه البيانات، مع تدهور مؤشر التنمية البشرية في فلسطين إلى مستوى 0.643 نقطة فقط، وهو أدنى مستوى له على الإطلاق منذ بداية تسجيل البيانات في عام 2004، فيما هوى المؤشر في قطاع غزة تحديداً إلى 0.408 نقطة، ماحياً كل ما اكتسبه على مدار أكثر من 20 عاماً.

كما تشير «إسكوا» إلى أن عدد الإصابات في غزة تخطى 102 ألف شخص، فيما تخطى عدد القتلى 43 ألف شخص، من بينهم أكثر من 17 ألف طفل وأكثر من 7 آلاف امرأة.

تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) تشير أيضاً إلى أن هناك نحو 1.9 مليون نازح داخلياً في قطاع غزة بما يمثل 90 في المائة من مجمل السكان البالغ عددهم نحو 2.1 مليون نسمة، خصوصاً أن نحو 87 في المائة من الوحدات السكنية في القطاع إما دُمِّرت وإما تضررت بشدة. وأن من بين هؤلاء السكان أكثر من 345 ألف في حالة مجاعة شديدة (المرحلة الخامسة)؛ و876 ألفاً في حالة خطرة (المرحلة الرابعة)، فيما يواجه 91 في المائة من السكان ظروفاً غذائية غاية في السوء تضعهم في المرحلة الثالثة على مقياس الأزمة الغذائية.

دمار البشر والحجر

وتوضح تقديرات تقارير «أوتشا» أن نحو 68 في المائة من الأراضي الزراعية في القطاع قد تم تدميرها، وكذلك 52 في المائة من الآبار الزراعية، و44 في المائة من المشاتل أو الصوب الزراعية، و70 في المائة من أسطول الصيد. وتابعت أن 95 في المائة من الماشية أيضاً ماتت، نتيجة إمّا القصف وإمّا عدم الرعاية وإمّا الاستهلاك من دون قدرة على الإحلال.

وتشير بيانات دولية أخرى إلى أن نحو 80 في المائة من المرافق التجارية في قطاع غزة، و68 في المائة من شبكة الطرق فيها دُمِّرت، وفقاً للحسابات والتقديرات حتى صيف العام الجاري. كما أن أكثر من 650 ألف طالب لا يحصلون على تعليم مستدام، خصوصاً مع احتياج أكثر من 87 في المائة من المباني في مدارس قطاع غزة لإعادة بناء.

أطفال فلسطينيون يجري إجلاؤهم من موقع تعرَّض لقصف إسرائيلي في خان يونس جنوب قطاع غزة (أ.ب)

وفي أبريل (نيسان) الماضي، أصدر البنك الدولي تقريراً بالاشتراك مع الأمم المتحدة، يقدِّر تكلفة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية في غزة في ثلاثة أشهر (من بداية الحرب حتى يناير «كانون الثاني» الماضي فقط) بنحو 18.5 مليار دولار، أي ما يعادل 97 في المائة من إجمالي الناتج المحلي للضفة الغربية وقطاع غزة معاً عام 2022.

كما أشار التقرير إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل شبه كامل منذ الأسبوع الأول للصراع. ومع تدمير أو تعطيل 92 في المائة من الطرق الرئيسية، وتدهور البنية التحتية للاتصالات، أصبح إيصال المساعدات الإنسانية الأساسية إلى السكان صعباً للغاية.

ويؤكد التقرير أن «الدمار خَلَّفَ كمية هائلة من الحطام والأنقاض تقدر بنحو 26 مليون طن قد تستغرق سنوات لإزالتها والتخلص منها»، أما على المستوى الإنساني، فقال: «تعرضت النساء والأطفال وكبار السن وذوي الإعاقة للقدر الأكبر من الآثار التراكمية الكارثية على صحتهم البدنية والنفسية والعقلية، مع توقع أن يواجه الأطفال الأصغر سناً عواقبَ سوف تؤثر على نموهم وتطورهم طوال حياتهم».

وأفاد التقرير بأنه مع تضرر أو تدمير 84 في المائة من المستشفيات والمنشآت الصحية، ونقص الكهرباء والمياه لتشغيل المتبقي منها، لا يحصل السكان إلا على الحد الأدنى من الرعاية الصحية أو الأدوية أو العلاجات المنقذة للحياة. وتعرَّض نظام المياه والصرف الصحي تقريباً للانهيار، وأصبح لا يوفر سوى أقل من 5 في المائة من خدماته السابقة، مما دفع السكان إلى الاعتماد على حصص مياه قليلة للغاية للبقاء على قيد الحياة. وبالنسبة إلى نظام التعليم فقد انهار، حيث أصبح 100 في المائة من الأطفال خارج المدارس النظامية.

وفيما يخص الحالة الصحية والغذائية في القطاع، أشارت التقارير الأممية إلى أن 96 في المائة من الأطفال في عمر 6 إلى 23 شهراً، والنساء، لا يحصلون على احتياجاتهم الأساسية من العناصر الغذائية الكافية نتيجة النقص الحاد في التنوع الغذائي. مقدرةً أن نحو 50 ألف طفل من أبناء القطاع يحتاجون إلى علاج لسوء التغذية خلال العام الجاري.

وفيما يخص وضع القطاع الطبي، تشير الإحصاءات إلى أن 19 مستشفى (من بين مجموع 36 مستشفى) خرجت عن العمل، فيما تعمل الـ17 مستشفى الباقية بصورة جزئية؛ إما نتيجة تضرر بنيتها التحتية، وإما نتيجة الافتقار إلى المعدات والأدوات الأساسية وإما نتيجة نقص في طواقم العمل الطبية... ونتيجة لذلك، فإن نحو 14 ألف مريض في حالات متباينة يحتاجون للإخلاء الطبي خارج القطاع من أجل إنقاذ حياتهم.

آلام مضاعَفة

الأوضاع الصحية السيئة التي يشير إليها الجميع داخل قطاع غزة، وسط بنية تحتية تعاني من دمار هائل، جعلت «الشرق الأوسط» تسأل منظمة «أطباء بلا حدود» حول الوضع هناك، وهل تمارس المنظمة عملها بشكل طبيعي؟

الدكتور أحمد أبو وردة، مدير الأنشطة الطبية في مستشفى ناصر بخان يونس، أجاب قائلاً: «بالطبع لا، نحاول في (أطباء بلا حدود) بذل كل ما بوسعنا لتقديم أفضل خدمة طبية ممكنة للمرضى والمصابين بالوضع الحالي؛ لكن الكل يعلم صعوبة دخول المستلزمات والمعدات الطبية والأدوية منذ إغلاق معبر رفح».

ويشير أبو وردة إلى أنه لا يوجد حالياً سوى نحو 1000 موظف في كل أفرع المنظمة في قطاع غزة، مؤكداً أن «الحاجة كبيرة جداً وهناك فجوات في بعض التخصصات حتى اليوم».

ومع استهداف المستشفيات، فإن عدد الأسرّة المتاحة للمرضى صارت محدودة للغاية، ويتم التعامل مع الحالات حسب الأولوية الصحية، حسب أبو وردة، الذي يوضح أن أعداد الحالات من ذوي الأمراض المزمنة، خصوصاً داخل المخيمات صارت «مهولة»، حيث إن «معظم سكان القطاع متكدسون في منطقة صغيرة للغاية بظروف بيئية وصحية سيئة للغاية، ويتردد يومياً على عيادات الرعاية الأولية آلاف المرضى من ضمنهم الأمراض المزمنة، وفي ظل الوضع الحالي الكثير من أدويتهم غير متوفرة».

تجويع ممنهَج وفساد

شاهِد آخر من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم وسام، قال: «بدأت الحرب في أكتوبر، وكانت بالتوازي معها هناك حرب اقتصادية تمثلت في جميع مناحي الحياة لأول مرة في تاريخ المعارك العسكرية ضد الفلسطينيين... من قطع جميع أواصر الحياة والضرب العنيف على كل أوتار الاقتصاد؛ يعني آلة القتل الإسرائيلية تطول الناس من ناحية، ومن الأخرى تقطع الكهرباء ليتم دفع الصناعة بالكامل إلى الشلل وتوقف التجارة بالكامل بعد إغلاق المعابر ليصبح هناك نقص حاد في الموارد السلعية».

وسام، الذي يعمل بأحد المراكز الحكومية ذات الصلة بالتجارة، أكد لـ«الشرق الأوسط» أن الوضع صار خطيراً بالفعل حالياً، لأن المخزون السلعي الاستراتيجي انخفض بشكل حاد، ليصبح لا يكاد يكفي 72 ساعة إثر الإغلاق الكامل للمعابر وقطع الإمدادات. ويتابع وسام: «فيما يخص الغاز مثلاً، فقد أصبح يدخل القطاع بشكل متقطع. والاعتماد حالياً على ما يدخل بشكل مباشر لأن الخزانات أصبحت بلا قيمة، فما يدخل ينفد في ذات اللحظة».

أطفال يحملون أواني معدنية ويتزاحمون للحصول على الطعام من مطبخ يتبع الأعمال الخيرية في خان يونس بقطاع غزة (إ.ب.أ)

أيضاً هناك أزمة أخرى، فالمواد السلعية التي تمر ليست منتظمة ولا منسَّقة، وعن ذلك يقول: «ما بيعطوك كامل المواد من احتياجاتك مرة واحدة... اليوم ممكن يمر منظفات وشغلات ثانوية ويقطعوا عنك اللحم والأرز والمواد الأساسية، عشنا آخر 10 أيام على هذه الشاكلة. بتلاقي أيام تانية نزلّك لحم ودجاج لكن بشكل أقل من الكميات المطلوبة، وبيصير سعرها عالي طبعاً. وهذا شكل مقنن لقطع المصادر الغذائية الأساسية وتوصيل الناس إلى مراحل كبيرة من سوء التغذية، وبتلاقي الناس كلها هزيلة وتعبانة لأنهم ما بيحصلوا على وجبة كاملة... لازم يكون في نقص في شيء».

فساد داخلي؟

لم يكن وسام وحده الذي يشير إلى الفساد، ورغم أن الكل يُدين الطرف الإسرائيلي سواء في المجازر أم الحصار والتجويع لسكان قطاع غزة، إضافةً إلى مسؤولية دولة الاحتلال عن توصيل المساعدات وفقاً للقانون الدولي، فإن كثيراً من قاطني القطاع والهاربين منه يُدينون الإدارة المحلية في قطاع غزة بأنها جزء من الأزمة، سواء بالضلوع في استغلال الوضع، أو السكوت عن الفساد.

وأشار عدد كبير ممن تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» إلى أن الإدارة المحلية تسيطر على توزيع المساعدات الأممية، لكنَّ الفساد يتسلل إلى جانب من هذه المنظومة حيث تكثر السرقات للمستودعات، إضافةً إلى فرض ضرائب باهظة و«إتاوات» على مرور أي بضائع داخل القطاع... وكل ذلك أدى إلى حالة شح شديدة بالأسواق، وتضخم متوحش كسر ظهور سكان قطاع غزة.

ويرى خبير اقتصادي من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم الدكتور وليد، أن «حماس» تسيطر على السيولة النقدية داخل القطاع، حيث أشارت تقديرات إسرائيلية إلى أن حجم الأموال التي جمعتها «حماس» خلال عام من الحرب تتجاوز 750 مليون دولار، من بيع المساعدات عدا عن الضرائب التي جمعتها، بالإضافة إلى السيولة النقدية التي قامت ببيعها. علماً أن الحركة سيطرت على خزانة بنك فلسطين المحدود التي كانت تحتوي على ما يقرب من 140 مليون دولار في بداية الحرب، حسب مصادر محلية ودولية.

آفاق مالية غائمة

وفيما يخص القطاع المالي في غزة إثر كل هذه التحديات العنيفة، تبلغ قيمة محفظة البنوك في غزة نحو مليار دولار، وتبلغ قيمة قطاع التمويل الأصغر في المنطقة نحو 54 مليون دولار، حسب تقارير الأمم المتحدة.

ونفّذت سلطة النقد الفلسطينية وقفاً مؤقتاً للقروض حتى سبتمبر (أيلول) 2024، على الرغم من أن التأثير على كفاية رأس المال والسيولة كان كبيراً. وتقدَّر الخسائر المباشرة التي تكبَّدتها مرافق القطاع المالي في غزة بأكثر من 14 مليون دولار، بالإضافة إلى التأثير الإجمالي للظروف الاقتصادية المتدهورة على المحفظة المصرفية.

فلسطينيون يلتقطون رزم مساعدات أُلقيت من الجو على شمال غزة (أرشيفية - أ.ف.ب)

وهناك أيضاً مخاوف بشأن استعادة السيولة النقدية المتاحة في غزة قبل الحرب. وتؤكد التقارير أنه «لمعالجة نقص السيولة، قدمت سلطة النقد الفلسطينية بعض المساعدات، لكن مشكلات السيولة والوصول إلى الخدمات المالية لا تزال قائمة. ويظل انكشاف النظام المصرفي على القطاع العام مرتفعاً، حيث تجاوز مستوى 2.5 مليار دولار في يوليو (تموز) 2024. وتشير النسبة المتزايدة من الشيكات المرتجعة -التي تصل إلى 9 في المائة من قيمة جميع الشيكات في الربع الأول من عام 2024، حتى 25 في المائة في بعض الحالات- إلى ملف مخاطر مالية كلية متنامٍ».

وفي تقرير للبنك الدولي، صدر في مايو (أيار)، أكد أن وضع المالية العامة للسلطة الفلسطينية قد تدهور بشدة في الأشهر الأخيرة قبل صدوره، مما يزيد بشكل كبير من مخاطر انهيار المالية العامة. وأشار إلى «نضوب تدفقات الإيرادات إلى حدٍّ كبير بسبب الانخفاض الحاد في تحويلات إيرادات المقَاصَّة المستحقة الدفع للسلطة الفلسطينية والانخفاض الهائل في النشاط الاقتصادي. وتؤدي الفجوة الآخذة في الاتساع بسرعة بين حجم الإيرادات والمصروفات لتمويل الحد الأدنى من الإنفاق العام إلى أزمة في المالية العامة».

وأوضح التقرير أنه في نهاية عام 2023، وصلت الفجوة التمويلية إلى 682 مليون دولار، وأنه من المتوقع أن تتضاعف هذه الفجوة خلال الأشهر المقبلة لتصل إلى 1.2 مليار دولار. وأفاد بأن زيادة المساعدات الخارجية وتراكم المتأخرات المستحقة للموظفين العموميين والموردين هي خيارات التمويل الوحيدة المتاحة للسلطة الفلسطينية.

وفقد الاقتصاد الفلسطيني ما يقرب من نصف مليون وظيفة منذ أكتوبر 2023. يشمل ذلك فقدان ما يُقدَّر بنحو 200 ألف وظيفة في قطاع غزة، و144 ألف وظيفة في الضفة الغربية، و148 ألفاً من العمال المتنقلين عبر الحدود من الضفة الغربية إلى سوق العمل الإسرائيلية. وختم التقرير بعبارة: «ومع ضبابية المشهد وعدم اليقين بشأن آفاق عام 2024، من المتوقع حدوث انكماش اقتصادي آخر يتراوح بين 6.5 و9.6 في المائة».

7 عقود ضائعة

وفي تقديرات أخرى لـ«إسكوا»، فإنه في حال دخول الاقتصاد الفلسطيني إلى السيناريو الأسوأ مع عدم التعافي المبكر من آثار الحرب، واستمرار التضييق الإسرائيلي على السكان وبقاء مستوى المساعدات على وضعها الحالي، فإنه من المتوقع تهاوي الناتج المحلي الإجمالي بنحو 20.1 في المائة في 2025، وصولاً إلى 34 في المائة في 2034، مقارنةً بأوضاع ما قبل الحرب.

في تقرير آخر صادم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، صدر في أكتوبر الماضي بمناسبة مرور عام على حرب غزة، أكد أن «آثار الحرب أدت إلى تراجع التنمية في غزة بما يناهز 69 عاماً»، وأنه «دون رفع القيود الاقتصادية، وتمكين جهود التعافي، والاستثمار في التنمية، لن يقدر الاقتصاد الفلسطيني على استعادة مستويات ما قبل الحرب والتقدم للأمام بالاعتماد على تدفق المساعدات الإنسانية وحدها».

مقتل أكثر من 10 أشخاص إثر قصف إسرائيلي على منزل في بيت لاهيا شمال قطاع غزة (أ.ف.ب)

ويشير التقييم إلى أن خطة شاملة للتعافي وإعادة الإعمار، تجمع بين المساعدات الإنسانية والاستثمارات الاستراتيجية في التعافي وإعادة الإعمار، إلى جانب رفع القيود الاقتصادية وتعزيز الظروف المواتية لجهود التعافي، من شأنها أن تساعد في إعادة الاقتصاد الفلسطيني إلى المسار الصحيح ليستعيد توافقه مع خطط التنمية الفلسطينية بحلول عام 2034 -ولكنَّ هذا السيناريو لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت جهود التعافي غير مقيدة.

وقال أخيم شتاينر، مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: «تؤكد التوقعات الواردة في هذا التقييم الجديد أنه في قلب المعاناة الإنسانية والخسائر الفادحة في الأرواح، تَلوح في الأفق إرهاصات أزمة إنمائية خطيرة تُعرِّض مستقبل الأجيال الفلسطينية القادمة للخطر». وأضاف: «يشير التقييم إلى أنه حتى لو تم تقديم المساعدات الإنسانية كل عام، فإن الاقتصاد قد لا يستعيد مستوى ما قبل الأزمة لمدة عقد أو أكثر. ويحتاج الشعب الفلسطيني إلى استراتيجية قوية للإنعاش المبكر يتم تنفيذها حالما تسمح الظروف على الأرض، كجزء لا يتجزأ من مرحلة المساعدة الإنسانية، من أجل إرساء الأسس للتعافي المستدام».

معركة الصبر والصمود

وحول الوضع النفسي حالياً لسكان غزة، يقول الدكتور محمد أبو دوابة: «المعروف عن الشعب الفلسطيني قدرته على الصمود، لا أتحدث عن المقاومة العسكرية، بل على مقاومة الظروف الصعبة... فهل ما وصلنا إليه يعد حالة يأس؟ في رأيي -وبعد عام كامل من الأزمة وظروف يمكن أن تضرب هذه الروح في مقتل- إننا بشر نُبدع في (آليات الصبر واستراتيجيات الصمود)».

وحول تجربته الشخصية، يقول أبو دوابة: «في بداية الأزمة، عملت متطوعاً في مستشفى الأقصى متخصصاً نفسياً... لكن كم كانت المهمة صعبة جداً، مثلاً ماذا يمكن أن نقول لشخص كل عائلته استُشهدت؟ وكان لي منذ سنوات ورقة بحثية في مؤتمر حول الصحة النفسية، أتكلم فيها عن (اضطرابات ما بعد الصدمة)، وأن ما يحدث في غزة هو صدمة مستمرة (Ongoing trauma) وليست صدمة عبرت بالفعل... ولكن هذه المرة فإن طول أمد هذه الصدمة المستمرة يجعلنا نشعر أن الناس بدأوا يصرخون بأنهم بشر وليسوا صامدين أو ناجين، فالناجي من الموت في غزة شخص يموت من الصدمة أكثر من 100 مرة في اليوم».