وقع الخبر ثقيلاً على اللبنانيين بعد ظهر أمس. وفاة ملحم بركات هي أكثر من توقف نبض فنان موهوب وملحن فذّ. بفقدان أبو مجد، بعد رحيل صباح ووديع الصافي وسمير يزبك، والأخوين رحباني، وغيرهم من كبار تلك المرحلة، تبدو صفحة العصر الذهبي الفني اللبناني التي اخترقت المنطقة العربية، كسهم ناري منذ ستينات القرن الماضي، وكأنها تطوى، وتقفر الساحة من كبار يحملون إرث تلك المهابة وذاك الكبر في العطاء.
بعد شائعات كثيرة، حول مدى خطورة الوضع الصحي لملحم بركات الذي رقد في المستشفى، لأسابيع خلت، ومحاولة عائلته طمأنة الجميع عن صحته، توفي الموسيقار الكبير. وجاءت تغريدة صديقه الحميم الشاعر نزار فرنسيس، على «تويتر»: «رفيق عمري راح، ونفسي حزينة حتى الموت» بمثابة الكلمة الفصل التي لا مجال للشك بعدها.
نعم توفي ملحم بركات على سريره في مستشفى «أوتيل ديو» في بيروت، عن عمر 71 عامًا، قضى أكثر من خمسين سنة منها مشغولاً بالتلحين والغناء، ومطاردة النغم والإمساك بالجملة الموسيقية الجديدة. عشقه لمحمد عبد الوهاب وأم كلثوم، لم يمنعه من أن يشق طريقه الذي لا يشبه سواه. عصامي كما غالبية فناني تلك الفترة، عاشق لما يسمو إليه حتى ولو أغضب العائلة. ترك ابن كفرشيما (قضاء بعبدا) مدرسته باكرًا، وهو عارف تمامًا لما يريد، التحق بالمعهد الوطني الموسيقي اللبناني «الكونسرفتوار»، دون إعلام والده، خبأ عدته وعزف على عوده في السر، إلى أن انكشف أمره وكان له ما أراد. عمل مع عباقرة ذاك الزمن الجميل، بقي مع الأخوين رحباني لمدة أربع سنوات، يشاركهم مسرحياتهم مثل «يعيش يعيش» (1970) و«هالة والملك» (1967) إلى جانب فيروز. وكان نجم المسرحيات الرحبانية يومها نصري شمس الدين، فنصحه فيلمون وهبي الذي أدرك عمق موهبته وجمال خامته الصوتية، وهو ابن قريته وجاره، وأحد أقرب الفنانين إليه يومها، أن يتركهم، لأن غاية ما سيصل إليه معهم، هو أن يكون في مكان نصري شمس الدين. باحثًا عن دربه الخاص، عمل مع روميو لحود في مسرحياته وشارك في مسرحية «الأميرة زمرد» مع سلوى القطريب، ومع صباح في مسرحية «حلوة كثير» وكذلك «ست الكل». كانت أولى أغنياته التي قدمها «الله كريم» لكن بقيت من تلك الفترة القديمة أغنيات كثيرة شهيرة لعل أكثرها رواجًا تلك التي جمعته مع جورجيت صايغ «بلغي كل مواعيدي» لما لها من حيوية اللحن وعصرية النغم.
عبقرية ملحم بركات تكمن بشكل خاص في حيوية ألحانه التي تشبه شخصيته المتوقدة المتحفزة، ومنذ البدايات، شكلت الكثير من الألحان التي كان يعطيها للفنانين، محطات هامة ولا تنسى في مشوارهم الفني. هكذا كان الحال مع «يا حلوة شعرك داريه» التي غناها غسان صليبا، و«اعتزلت الغرام» بصوت ماجدة الرومي و«أبوكي مين يا صبية» التي لحنها لوليد توفيق.
ومع انتشار خبر وفاة أبو مجد، لم يجد محبوه أجمل من كلمات أعماله ليرثوه بها، ويتوجهوا إليه بكلماتهم الأخيرة، فكتبوا: «من بعدك لمين؟» و«تعا ننسى»، و«يا حبي اللي غاب»، ولعل أكثر عبارة ترددت على حسابات وسائل التواصل كانت و«مشيت بطريقي» التي عبرت عن إحساس جمهوره بأنه يذهب للسير في طريق جديد، وأنه لن يغيب أبدًا.
ملحم بركات فنان لبناني، لم يغنِ بأي لهجة أخرى، وشن تكرارًا حملات على الفنانين اللبنانيين الذين كانت تغريهم اللهجات العربية، ويجدون في مصر ضالتهم. اعتبر ذلك إجحافا بمن عملوا واجتهدوا من أجل أغنية لبنانية لها مكانتها وخصوصيتها. هكذا كان أبو مجد غاضبًا أبدًا، وفي أيامه الأخيرة يقال بأنه كان حانقًا على الصحافة التي كانت تتناقل خبر موته وهو لا يزال حيًا يرزق.
شاءت الأقدار أن يرحل ملحم بركات قبل أن يرى ميشال عون الذي أيده بشدة، ودافع عنه بقوة، وشتم علنًا كل من لا يريد أن يراه رئيسًا للجمهورية، معتبرًا أنهم «جميعهم لا يريدونه ويكذبون علينا». ثلاثة أيام فقط كان يحتاجها ملحم بركات ليرى حلمه الرئاسي يتحقق لكن القدر لم يمهله.
نعى وزير الثقافة اللبناني ريمون عريجي «الموسيقار والقامة الفنية المشرقة في عالم الغناء والموسيقى والتمثيل. والأداء الطربي المتميز الذي أثرى حفلات لبنان وبرامج التلفزيون، وأعطى أصوات المطربات والمطربين في لبنان موسيقى متجددة وألقًا طربيا ساحرا». ونعاه أهل السياسة كل على طريقته فغرد سمير جعجع على «تويتر» «وداعا موسيقار لبنان ملحم بركات».
أمّا النائب سيمون أبي رميا فقال: «يا صمتي يا معذّبني... كانت أغنية الأحرار.. وداعًا بركات لبنان».
عاش ملحم بركات حياة صاخبة، لكنه كان بسيطًا شعبيًا، يبدو صعب المراس لسرعة غضبه، لكنه في الوقت نفسه كان مخلصًا لأصدقائه ولعاداته. مدمن على الصيد البري الذي لم يتوقف عن ممارسته أبدا إذ يقول: إن بعض أغنياته لحنها وهو في تلك الرحلات أو وراء مقود السيارة، وكثيرًا ما كان يعرج بعد انتهائه من مغامرته هذه على «مطعم الدنون» المفضل لديه في طرابلس والمتخصص في الحمص والفول، وهناك كان يأتي مع صديقه الشاعر نزار فرنسيس أحيانًا، يأكل صحن الفول بحامض وأحيانًا صحن الفتة مع الحمص واللبن. في الصباح الباكر قبل الضوء كان يصل أو بعد الظهر، يجلس ويلتقط الصور بمحبة مع رواد المطعم. وقد نعاه مطعمه المفضل على صفحة أحد أصحابه بلال عبد الهادي بالقول: «كان متواضعًا، بسيطًا، بشوشًا، مزوحا. الطرفة تنبت بعفوية من بين شفتيه. يخسرك لبنان كما تخسرك الألحان، ولكنك باقٍ ما بقيت ألحانك وأغانيك تنتقل من فم إلى أذن، ومن وتر إلى وتر، رحمك الله».
وتسابق الفنانون على وداع ملحم بركات فقالت كارول صقر: «خسرنا قطعة من علم لبنان. كان يدافع عن شرفنا الذي بقي منه القليل». أما هبة طوجي فكتبت «ومشيت بطريقك... بكّير كتير وداعًا موسيقارنا الكبير ملحم بركات، رحمك الله»، أما يوسف الخال فغرد «تحية مني لروحك العظيمة بصوتي.. تعا ننسى»، ناشرا تسجيلا بصوته لأغنية ملحم بركات. أما الشاعر زاهي وهبي فكتب: «بالدمع لا بالحبر أرثيك. أُوَدِعُ إذ أودِعُك بعضًا مِن عمر سهرناه معًا، كنت ضحكته الوارفة وعاشقه المفتون وقمرَ أغنياته الآسِرة».
الموسيقار ملحم بركات «مشى بطريقه» بعد نصف قرن من الألحان
صنع مجدًا فنيًا لكثيرين ومات غاضبًا كما عاش متوقدًا
الموسيقار ملحم بركات «مشى بطريقه» بعد نصف قرن من الألحان
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة