توحي القطارات بالكثير. يمر بك القطار في ربوع قاحلة وعبر مدن مكتظة على حد سواء. يدخل الأنفاق كما لو كان يطوي كتابًا ويخرج منها كما لو كان يفتح كتابًا آخر. تجد نفسك فوق صفحة مياه صافية أو على حافة واد عميق.. من بعيد قد يمتلئ الأفق بالأشجار، أو قد تجد صفوفًا من المنازل المتراصة.
إن كنت مبدعًا أو ذا خيال جيد فقد تسأل نفسك ما الذي يحدث في داخل تلك البيوت في اللحظة التي يمر القطار بها؟ماذا لو دخل القطار نفقًا ولم يخرج منه؟ ماذا لو مر ببطء أمام شخص وقف ينظر إليه وهذا الشخص كان أنت؟
الحكايات تنطلق عادة من مثل هذه الأفكار وتنتهي بالكتّاب وهم يحاولون الإتيان بإجابات منطقية قدر الإمكان، خيالية إلى حد بعيد. تطرح أسئلة حول الركّاب وأخرى حول العالم الذي يمتد وراء نوافذ القطار.
في الركب ذاته، يأتي الفيلم الجديد «الفتاة في القطار» (The Girl on the Train). قصّة ضخمة في صفحاتها وضعتها البريطانية بولا هوكينز حول امرأة شابة تركب القطار من بيتها لعملها في مدينة لندن كل يوم، وذات يوم تشاهد أمرًا لافتًا في أحد البيوت التي يمر القطار بها. تعتقد، ثم تؤمن، بأنها تعرف هؤلاء الأشخاص الذين يعيشون في البيت. كل يوم تنظر من نافذة القطار إلى ذلك البيت، وتكتشف جديدًا حول ساكنيه حتى يصيبها اعتقاد راسخ بأن من يعيش فيه هم شخوص مرّوا في حياتها بالفعل: مطلقها وعشيقته التي تحوّلت إلى زوجته. ذات يوم تشهد ما بدا أنه جريمة قتل.
لا أدري سرعة ذلك القطار لكن يبدو أنها بطيئة أو أن القطار يتمهّل كلما مرّ بذلك البيت. لعل السائق بدوره يشارك المرأة ذلك الفضول. لكن الفيلم الذي أخرجته تايت تايلور ينقل الأحداث إلى ضواحي نيويورك ويتمسّك بالحكاية مصدرًا للغز حول ما إذا شهدت بطلته راشيل (إميلي بْلنت) جريمة قتل أم لا وماذا ستفعل تبعًا لذلك.
من القاتل
الروائية أغاثا كريستي كتبت في سنة 1957، رواية سميت في لندن «4:50 من بادينغتون» وفي الولايات المتحدة نشرت بعنوان مختلف هو «ما الذي رأته مسز مكيلكودي؟». لم يتم تحويلها إلى فيلم، حسب علمي، لكنها تنطلق من الموقف ذاته: راكبة قطار تشهد جريمة قتل ترتكب عندما مر القطار بأحد البيوت.
الحبكة ذاتها لكن القصّتان تختلفان بعد ذلك. ما يجمعهما هو أنهما ينطلقان في موقع واحد وهو القطار ما يذكرنا بأن كثيرًا من الأفلام استخدمت القطار كمكان فريد لوضع الحبكة أو لزرعها حتى وإن غاب القطار عن الظهور لاحقًا.
أغاثا كريستي كتبت قبل «4:50 من بادينغتون»، رواية أشهر بعنوان «جريمة في إكسبرس الشرق» Murder on the Orient Express في سنة 1934. هناك تقع كل الأحداث في ذلك القطار حيث يحاول التحري هركيل بوارو معرفة من القاتل ليكتشف أن الجريمة كان لها أكثر من ذراع فاعل.
هذه الرواية تناولتها السينما مرات عدة. هناك فيلم سدني لوميت، وهو أشهر هذه الاقتباسات، وأخرجه سنة 1974 مع ألبرت فيني في الدور الأول ولفيف كبير من الممثلين حوله. ثم هناك اقتباسات تلفزيونية عدّة وحاليًا يقوم المخرج كنيث برانا بإعداد فيلم جديد عن الرواية ذاتها مع جوني دَب وميشيل فايفر وجودي دنش ومايكل بينا بينما يلعب كينيث دور التحري بوارو.
في القطار وحوله قام المخرج ألفرد هيتشكوك بإخراج فيلمين يحتويان مشاهد قطار: «السيدة تختفي» (1938) عن رواية للكاتبة إيثل لينا وايت و«غريبان في قطار» (1951) وهو عن رواية لكاتبة أخرى، كشأن كل ما سبق، هي باتريشا هايسميث.
الفيلم الأول دار حول راكبتين شابة وعجوز تعرفتا على بعضهما بعضًا في محطة. بعد قليل من ركوب القطار تخلد الشابة (مرغريت لوكوود) للنوم. عندما تستيقظ تكتشف اختفاء المرأة الأكبر سنًا (ماي ويتي). القطار لم يتوقف في أي مكان مما يعني أنها ما زالت فيه، لكن كل من تسألهم بطلة الفيلم ينفون أنهم شاهدوها مع المرأة التي تبحث عنها.
غريبان في قطار» يختلف في الحكاية كثيرًا، لكنه يبدأ برجلين يتعرفان على بعضهما في القطار. برونو (روبرت ووكر) يعرض على غاي (فارلي غرانجر) أن يرتكب كل منهما جريمة قتل المرأة التي يعرفها الآخر، بحيث لا يمكن للبوليس (الذي يبحث عادة عن الدافع بناء على معرفة المتهم بالضحية) معرفة من القاتل ولماذا؟
بالطبع استخدم هيتشكوك القطار أكثر من مرّة منها في «شمال شمالي غرب» (North by Northwest) سنة 1959، لكنه استخدم فيه أيضًا الطائرة. القسم الذي يتعلق بالقطار فيه طيف من المواقف العاطفية والكوميدية ضمن القالب التشويقي العام الذي تقع فيه الأحداث.
سنوات اليأس الاقتصادي
الحال أن أفلام القطارات كثيرة، ومن العجيب كيف تتخذ أشكالاً روائية مختلفة ومتعددة. بدءًا من عام 1903 عندما قدّم إدوين س. بورتر فيلمه المهم «سرقة القطار العظيمة» ثم عندما قام العبقري باستر كيتون بتحقيق فيلمه «الجنرال» الذي ينطلق بمقطورة واحدة لينقذ حبيبته الموجودة في المعسكر الشمالي خلال الحرب الأهلية الأميركية.
منذ تلك الفترة وإلى اليوم تمتد عشرات الأفلام التي تستخدم القطار على نحو أو آخر. كل قطار (أو فيلم) منها يحمل حكاية مختلفة.
في الثلاثينات أنجبت هوليوود عددًا كبيرًا من أفلام القطارات ودوما محملة بحكايات مشوّقة. هناك «يونيون باسيفيك» (سيسيل ب. دميل، 1939) و«القرن العشرون» (هوارد هوكس، 1934) و«شنغهاي إكسبرس» (لجوزف فون ستروهايم، 1932) وإنه الطابع القاسي لفترة سنوات اليأس الاقتصادية في مطلع الثلاثينات الذي ألهم المخرج الراحل هال أشبي عندما أخرج «جدير بالمجد» سنة 1976 عن حياة المغني وودي غوثري (لعبه ديفيد كارادين) الذي كان ينتقل في مقطورات الشحن في الولايات الوسطى ليغني للمزارعين المنكوبين ولعمال النقابات ويشارك في الخناقات التي كانت تقع بين هؤلاء وأزلام أصحاب العمل.
قبله بثلاثة أعوام فقط قام روبرت ألدريتش بتحقيق فيلم عن الفترة ذاتها من وجهة نظر أخرى: لي مارفن هو العاطل عن العمل والمفلس دائمًا الذي يركب القطارات خفية. أرنست بورغنين هو حارس القطارات الذي عليه أن يمنع السفر المجاني، وهو يفعل ذلك بكل قسوة ممكنة. كلاهما يتواجه كند للآخر على خلفية تلك الفترة الاقتصادية الصعبة ذاتها.
ومن بين أفلام القطارات التي تتعامل مع فترة لاحقة، هي فترة الحرب العالمية الثانية، فيلمان جديران بالاهتمام: «القطار»، سنة 1964 لجون فرانكنهايمر مع بيرت لانكاستر في دور أحد المقاومين للنازية الذي عليه، وعلى زملائه، إيقاف قطار محمّل باللوحات الفنية والمقتنيات الثمينة يحاول الألمان تهريبها قبيل نهاية الحرب.
بعد عامين، رأينا التشيكي جيري منزل ينجز «قطارات مراقبة عن كثب» المحمّل بالرموز العاطفية حول مراهق يعمل في محطة صغيرة لقرية بعيدة.
والقطار لعب دورًا كبيرًا في أفلام عدّة دارت في رحى الحرب العالمية الثانية. كثيرة هي الأفلام التي صوّرت قطارات النازيين وهي تحتشد باليهود المقبوض عليهم لإرسالهم إلى المعتقلات. في الواقع تحوّلت القطارات في كثير من هذه الأفلام إلى رمز لما وقع لليهود آنذاك كون القطارات، كما شاهدنا في «قائمة شيندلر»، استخدمت لنقل اليهود لوجهة واحدة لا عودة منها.
بعض الأفلام عادت إلى تلك الفترة بالذاكرة فقط كما حال «جسر كاساندرا» لجورج بان كوزماتوس (1976) حيث يتعرض الركاب لخطر فيروس قاتل على متن القطار المتوجه عبر دول الوسط الأوروبي. من بين هؤلاء المسافر اليهودي هرمان (لي ستراسبيرغ) الذي يخصص له الفيلم مشاهد فلاشباك (تبقى دخيلة على الموضوع مهما كان العذر من ورائها) لتجربة مرّ بها سابقًا عندما قبض النازيون عليه.
حكايات مثيرة
لكن «جسر كاساندرا» قبل ذلك وبعده فيلم أكشن يشبه في منواله كثير من الأفلام الأخرى، التي وظّفت فكرة القطار لخلق تشويق عال.
في عام 1985 قام الروسي أندريه كونتشالوفسكي، وخلال الحقبة التي عاشها في هوليوود، بتحقيق فيلم جيد بعنوان «قطار الهروب» مع جون فويت وإريك روبرتس حول مجرمان هاربان يركبان قطارًا منطلقًا عبر جبال ألاسكا.
والقطارات التي لا يمكن إيقافها لعطل تقني طرأ عليها بالقصد أو على نحو طبيعي كثيرة بدورها، ودائمًا ما حملت للجمهور احتمال حدوث كارثة مدوية كما كان الحال في «خطف بيلام 1 2 3»، في نسختيه الأولى 1974 إخراج جوزف سارجنت والثانية سنة 2009 لتوني سكوت.
توني سكوت عام في العام التالي، وقدّم حكاية مثيرة أخرى عن قطار منطلق يهدد بسحق كل محاولات تعطيله هو «لا يمكن إيقافه» Unstoppable، وكلاهما من بطولة دينزل واشنطن.
ومن دون أن ننسى «دكتور زيفاغو» و«لقاء مختصر» (وكلاهما لديفيد لين) و«لصوص القطارات» و«أفالانشي إكسبرس» و«إكسبرس إلى ميونيخ» و«قطار الرعب»، وكل منها على شاكلة، لا بد من التوقف عند مطلع فيلم سيرجيو ليوني «حدث ذات مرّة في الغرب» عندما يصل ثلاثة أشرار إلى محطة معزولة في الغرب الأميركي منتظرين وصول القطار الذي سيهبط منه رجل تم إرسالهم لقتله. عندما يتوقف ذلك القطار يهبط ذلك الرجل (تشارلز برونسون) ويتبادل الجميع النظر: «يبدو أنك بحاجة إلى حصان»، يقول أحد القتلة المأجورين (جاك إيلام) فيرد عليه برونسون: «أعتقد أن لديكم حصانين أكثر من اللازم». يلي ذلك على الفور مبارزة يسقط فيها القتلة.
المكان وصمته وشاعرية البيئة الطبيعية التي تلتقي مع ما كان سيرجيو ليوني يسميه بـ«شاعرية الصمت» تجعل من هذا المشهد أحد أكثر مشاهد القطارات قدرة على البقاء في البال على الرغم من أنه القطار يمر بالفيلم عابرًا.
ما سبق لا يعدو أكثر من بانوراما سريعة للكيفيات التي استخدمت القطارات فيها عبر الأفلام. لجانب هذا الكم المذكور من الأمثلة، فإن هناك أخرى كثيرة حملت على متنها شخصيات مثيرة أو حكايات لغزية أو رموزًا ممتعة. لكن معظمها استلهم أوضاعه الدرامية من حقيقة أنك في القطار المنطلق أنت حبيس سرعته وما يحدث لك فوقه هو غير ما قد يحدث لك خارجه. لا هروب ممكن ولا قدرة على تغيير وجهة القطار.. هذا إذا ما كان سائق القطار ما زال حيًا عليه.