إيران والقضية الفلسطينية.. الوعود المعسولة

ترفع شعار «تحرير فلسطين» منذ الخميني.. وتحارب في العراق وسوريا واليمن

الخميني ...عرفات
الخميني ...عرفات
TT

إيران والقضية الفلسطينية.. الوعود المعسولة

الخميني ...عرفات
الخميني ...عرفات

لم يصل أي مسؤول «أجنبي» إلى إيران بعد الثورة التي قام بها الخميني عام 1979 قبل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، الذي آمن آنذاك بأن الثورة الفلسطينية راحت تتمدد في إيران كذلك، قبل أن يكتشف أن الأمر لم يعدُ كونه شهر عسل خداعا.
ويذكر أصحاب عرفات الذي كان معروفا بسرعة البديهة والدهاء، أنه تفاجأ من طلب الخميني أثناء لقائه في إيران مترجما للفارسية رغم أنه يعرف العربية جيدا، وقوله في مجالس مغلقة بعد ذلك متندرا حول «الثورة الإسلامية التي لا تتحدث العربية» وإنما فقط الفارسية.
كان عرفات الذي قاد الفلسطينيين لعقود طويلة يريد لهذه العلاقة أن تستمر، لكن سرعان ما حسمها الإيرانيون مع بداية الحرب العراقية الإيرانية إذ طلبوا من عرفات موقفا مؤيدا ومناهضا ومعلنا وعمليا من الرئيس العراقي صدام حسين والعرب، لكنه بعد عدة وساطات ومحاولات لتجاوز أمر الحرب برمته، اختار الانحياز لعروبته، ولم ترَ العلاقة منذ ذلك الوقت خيرا قط، بل دخلت في علاقة مواجهة كبيرة ومحاولات استئثار بالقرار وفرض أجندات وإحداث انشقاقات مع وقف كل دعم مالي أو عسكري ممكن، وهذا ما انسحب لاحقا على كل علاقة إيرانية فلسطينية بغض النظر عن الجهات التي تعامل معها الإيرانيون، منظمة التحرير أو الفصائل الإسلامية أو مجموعات عسكرية صغيرة.
في حقيقة الأمر أن كل دعم كان مسيسا ومشروطا وغير مستمر.
الدعم المشروط
تقول إيران بأنها تقدم دعما غير محدود وغير مشروط لكل فصائل المقاومة الفلسطينية، وتطرح ذلك منذ سنوات طويلة متباهية بتشكيل محور «الممانعة والمقاومة» الذي كان يضم إلى جانبها وسوريا كذلك، ما يسمى «حزب الله» اللبناني وحماس والجهاد الإسلامي الفلسطينيتين، لكن تطورات كثيرة وأحداث ومنعرجات حادة في المنطقة، كشفت إلى حد كبير كيف أن دعم الفصائل المقاومة وكان حقيقيا وكبيرا في فترات متفاوتة، توقف تماما عن حماس التي لم توقع اتفاق سلام مع إسرائيل وما زالت تنادي بالتحرير، وتقطع مع الجهاد الإسلامي التي أيدت بخلاف حماس النظام السوري الذي تحارب من أجله إيران، بسبب «الثمن المطلوب».
ومع عودة قليلة إلى الوراء يتضح بشكل جلي أسباب دعم إيران للفصائل الفلسطينية إذا ما عرفنا لماذا توقف ذلك. ليس هناك أفضل من أن يتحدث زعيم حماس خالد مشعل عن الدعم الإيراني. وقال مشعل، في مارس (آذار) الماضي فقط، إن الأزمة بين حماس والرئيس السوري بشار الأسد أثرت على العلاقة مع إيران، والتي ردَّت بمراجعة الدعم المالي للحركة بشكل كبير، مضيفا: «طهران خفّضت دعمها للحركة بعد أن كانت أحد الداعمين الأساسيين لها، إنها اليوم ليست داعمًا رئيسيًا».
مشعل أوضح أن هناك حالة من الجمود في العلاقة مع إيران، لافتًا في ذات الوقت إلى أنها لم تصل إلى حالة القطيعة الكاملة، مع إبقاء حالة التواصل معها من خلال إرسال الوفود لطهران بين الحين والآخر. ويتضح من حديث مشعل أن إيران كانت تريد من حماس دعم الرئيس بشار الأسد ضد الثورة التي اندلعت في مارس 2011. لكن رفض حماس ذلك كلفها خسارة الدعم المالي الإيراني. لكن بحسب مصادر لـ«الشرق الأوسط» لم تستسلم إيران، بل اتجهت إلى استمالة «بعض حماس».
وقالت المصادر بأن الإيرانيين عمدوا إلى تقديم دعم محدود للجناح المسلح لحماس كتائب القسام في محاولة لتحريضه على المكتب السياسي.
وبحسب المصادر نجحت إيران على الأقل في خلق جدل داخل الحركة حول المحاور. وربما ظهر ذلك الجدل جليا في تطنيش قائد حماس خالد مشعل لأي دور إيراني في دعم الحركة في حرب 2012 مشيدا بأدوار أخرى، قبل أن يظهر القيادي الحمساوي المقرب من كتائب القسام محمود الزهار ليرد بطريقته رافعا سلاحه وسط غزة ومجاهرا بالقول: إنه سلاح إيراني.
بل زاد الزهار بقوله: إن الصواريخ التي أطلقتها كتائب القسام باتجاه إسرائيل في الحرب الأخيرة على غزة، كانت «إيرانية بأيدٍ فلسطينية». وذهب إلى حد القول: «إن إيران لم تطلب من حركته، أي مقابل، بدلا للدعم، على أن تذهب هذه الصواريخ فقط لتحرير فلسطين». آنذاك كان هذا أول تصريح مسؤول من نوعه داخل حماس، منذ سنوات يتحدث عن إمدادها من قبل إيران بالصواريخ، بعدما عمد آخرون لتطنيش هذا الدور في مؤشر على الصراع داخل حماس حول العلاقة مع إيران، وهو صراع يمكن القول: إنه مستمر بفعل سياسة «السيطرة» التي تحاول أن تمارسها إيران، وهي نفس السياسة التي استخدمتها مع الرئيس الراحل ياسر عرفات.
ويذكر الفلسطينيون كيف أن إيران لم تحرك ساكنا لنجدة عرفات المحاصر في بيروت عام 1982. بل ذهبت ميليشيات شيعية بعد ذلك تابعة لأمل التي بايعت الخميني لارتكاب مجازر في المخيمات الفلسطينية، قبل أن يساعد النظام السوري على حدوث أكبر انشقاق في حركة فتح برئاسة أبو موسى الذي انشق عن الحركة وشكل ما عرف لاحقا بفتح الانتفاضة واستقر في سوريا من دون أن يكون له تأثير يذكر في السياسة الفلسطينية، مثلما ساعد على حدوث انشقاقات أخرى في الفصائل المنضوية تحت إطار منظمة التحرير.
ولعل هذا التاريخ هو أحد أهم الأسباب التي تدعو السلطة الفلسطينية اليوم للتأكيد في كل مرة تحشر فيها إيران أنفها في الشأن الفلسطيني أنها لن تسمح لها بشق الصف الفلسطيني. وتتهم السلطة إيران أصلا بتعميق الانقسام عبر دعم حماس في غزة إبان انقلابها عام 2007.
ويرى الكاتب والمحلل السياسي هاني المصري أن إيران مثل كل دولة أخرى لها مصالح محددة، لكن الفلسطينيين أعطوها طريقا أكثر من غيرهم لتأخذهم «بالمفرق» لأنهم ليسوا موحدين. وقال المصري «لو لم نكن مقسمين لكنا نأخذ من مواقف إيران ما يتقاطع مع مصالحنا ونرفض أي مطامع أخرى». ومن وجهة نظر المصري فإنه يجب أن لا يحسب الفلسطينيون أنفسهم على محور ضد آخر وأن يعملوا من أجل كسب كل الأطراف.
لكن حتى الذين حاولوا ذلك لم ينجحوا.
لم تكتف إيران بالعلاقات الجيدة المتبادلة مع الأطراف الفلسطينية، ومثلما طلبت من عرفات موقفا ضد العراق وطلبت من حماس موقفا مع بشار الأسد، طلبت من الجهاد الإسلامي موقفا واضحا من الحرب في اليمن وهو نفس الطلب الذي قدم لحماس من أجل استئناف العلاقات. وحاولت إيران مع بداية العام الحالي استقطاب حماس من جديد، إلى جانب حلفائها المركزيين في المنطقة كالنظام السوري وما يسمى «حزب الله» اللبناني في مواجهة السعودية.
وكشفت «الشرق الأوسط» سابقا عن اجتماع عقد في الرابع من يناير (كانون الثاني) بين وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف مع ممثل حماس في طهران خالد القدومي للبحث في علاقات الجانبين إذ عرض ظريف على القدومي أن تقوم حماس بإعلان موقف سياسي رسمي ضد السعودية بعد إعلانها قطع كافة العلاقات مع طهران مقابل أن تقوم الأخيرة بتلبية مطالب حماس كافة ومنها الدعم المالي الثابت والدائم. ووجه ظريف عبر القدومي رسالة إلى رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل يشرح فيها ظروف العلاقة مع السعودية بعد التدهور الحاصل وما يجري في المنطقة وتأثيره على القضية الفلسطينية وضرورة اصطفاف الحركة التي تؤثر في المواقف الفلسطينية الداخلية إلى جانب إيران باعتبارها الدولة الوحيدة التي تقف في وجه إسرائيل. لكن حماس رفضت.
وبعد عدة اجتماعات حسمت حركة حماس موقفها نهائيا بشأن العرض الإيراني وقررت رفضه عبر طريقة عدم إبداء الرأي. وقال أحد مسؤولي الحركة من الضفة الغربية لـ«الشرق الأوسط» بأن «المعادلة معقدة، نحن كحركة تحرر نتطلع إلى دعم الجميع لكننا أبدا لن نكون في أي تحالف ضد الشعوب أو ضد العالم السني».
وهذا هو الموقف الذي انطلقت منه كذلك حركة الجهاد الإسلامي التي استأنفت علاقتها مع إيران في مايو (أيار) الماضي لكن بعد شهور طويلة عجاف. وكانت إيران مع بدء عاصفة الحزم في اليمن تتطلع إلى موقف فلسطيني مناهض للحملة ضد الحوثيين، وطلبوا من الجهاد تصدير موقف بذلك مشابه لموقف ما يسمى «حزب الله»، لكن حركة الجهاد رفضت، وأكدت بشدة عدم التدخل في شؤون أي بلد عربي، وهو الموقف الذي فاجأ الإيرانيين الذين كانوا يعتقدون أنه يمكن للجهاد أن تقف إلى جانبها في كل شيء، على غرار الموقف الذي اتخذته الحركة من الأزمة السورية. وردت إيران بقطع الدعم المالي عن الجهاد التي لم تتمكن لشهور من دفع رواتب عناصرها قبل أن تعود إيران وتستأنف العلاقة بسبب أنها بحاجة دائما إلى موطئ قدم.
موطئ قدم
لم تتوقف محاولات إيران استقطاب الفلسطينيين على الفصائل الكبيرة فتح وحماس والجهاد، بل سعت حتى لتجنيد مجموعات مسلحة لها في غزة والضفة الغربية كانت ترسلم لهم الدعم مقابل تنفيذ عمليات على ما كشف لـ«الشرق الأوسط» أحد المسؤولين العسكريين لأحد الأجنحة في غزة ورفض ذكر اسمه. وحاولت إيران تشكيل فصائل بأسماء تدل على الأصول الشيعية، مثل جماعات عماد مغنية وما يسمى «حزب الله» الفلسطيني، وغيرها.
وقبل سنوات طويلة أقر سالم ثابت وهو أحد أبرز المسؤولين الميدانيين الذين عملوا ضد إسرائيل في غزة أنه يتلقى دعما مما يسمى «حزب الله» وحين سألته «الشرق الأوسط» آنذاك عن طبيعة هذه العلاقة، قال خلافا لغيره من المقربين لما يسمى «حزب الله»: «إنها علاقة تنظيمية». وقال مصدر بأن مثل هذا الدعم متواصل لبعض الفصائل الصغيرة في غزة حتى الآن.
أما أبرز المحاولات الإيرانية في غزة خلال سنوات ماضية، فهو تشكيل حركة متشيعة هي حركة الصابرين التي أصبحت ممثلا شبه رسمي لطهران.
وظهرت الصابرين التي تدعمها وتوجهها إيران في قطاع غزة منذ نحو 3 أعوام، ويتهمها مسلمون سنيون في غزة بأنها تتبنى «النهج الشيعي». وظهر الدعم الإيراني واضحا على الحركة الجديدة من خلال قدرتها على دفع رواتب موظفيها. لكن حماس مع سوء العلاقة أكثر مع طهران وغضب سني كبير اضطرت إلى إغلاق الجمعية التي أسسها القيادي المعروف في غزة هشام سالم الذي يوصف بأنه رجل إيران الأول في القطاع وكان أسس جناحا عسكريا ما زال موجودا وحاول تأسيس مثل هذا الجناح في الضفة الغربية وفشل.
الذي لم تفهمه إيران
إن المنطلقات التي أخذتها حركة حماس بالحسبان، وأهمها انتماؤها إلى العالم السني، قريبة إلى حد كبير لمنطلقات عرفات الذي أخذها بالحسبان سابقا، وهو انتماؤه إلى العالم العربي، مع فارق المسميات، وهذا جعل الطريق مع إيران أقصر بكثير. وقالت مصادر في حركة حماس لـ«الشرق الأوسط» بأن خالد مشعل رئيس المكتب السياسي للحركة هو الذي رفض العرض الإيراني ويرفض كذلك التقرب من إيران في ظل هذه الظروف خشية أن يفسر أي تقارب كأنه دعم لإيران في أزمتها ضد السعودية أو في ملفات أخرى في سوريا وغيرها. وبحسب المصادر فإن هناك شبه إجماع داخل حماس في هذا الوقت بعدم التورط في أي تحالفات مع إيران حتى لا تخسر الحركة قاعدتها السنية في المنطقة ولأن تجربتها السابقة مع إيران تثير الكثير من القلق.
وأخذت حماس بالحسبان إضافة إلى الخوف من خذلان إيران، إمكانية التقارب أكثر مع الدول السنية المؤثرة في المنطقة، ولأنها تقيم الآن في دولة خليجية، ولها مصالح كبيرة مع جهات غير رسمية في الدول الخليجية والسنية، إضافة إلى العلاقة القوية مع تركيا التي تعد أكثر الجهات دعما سياسيا لحماس وقد وقفت (تركيا) إلى جانب الموقف السني في مواجهة إيران، ناهيك بالانتقادات الكبيرة التي تلقتها الحركة من جماعة الإخوان المسلمين مؤخرا وهي الجماعة الأم لحماس بسبب مؤشرات تقارب مع إيران وما يسمى «حزب الله».
وحقيقة الأمر أن كل محاولات إيران وحماس في السنوات الأخيرة، لتقريب وجهات النظر قوبلت بغضب في القاعدة الحمساوية والسنية المساندة لحماس، ليس بسبب القضية الفلسطينية مطلقا، بل بسبب دور إيران في المنطقة. إذ لم تسلم حماس من انتقادات كبيرة من التنظيم الأم (الإخوان المسلمين) على سبيل المثال مع كل لمحة «غزل» لإيران. واختبرت حماس رد فعل الإخوان وعناصرها كذلك على أي تقارب مع إيران من خلال مواقف مختلفة من بينها رسالة تعزية في مقتل سمير القنطار في سوريا في غارة إسرائيلية.
وكانت قيادة حماس والقسام أرسلوا معزين إلى نصر الله، ما أثار جدلا واسعا في صفوف المنتمين للحركة وكذلك ناشطين بارزين في جماعة الإخوان المسلمين. ووصف ياسر الزعاترة، وهو محلل سياسي من الإخوان المسلمين، بيان النعي من القسام بأنه «بالغ في مدح القنطار»، وأنه «موقف سخيف ويستحق الإدانة». داعيا حماس لعدم الإساءة لنفسها. وكتب الزعاترة «إلى حماس وكتائب القسام: لا تكونوا عبئا على محبيكم، إيران تشن عدوانا على الأمة، وأي موقف مجامل لها مهما كان يسيء لكم، والأمة غير الأنظمة».
فيما كتب الناطق باسم جماعة الإخوان المسلمين في سوريا عمر مشوح: «ندين إدانة حماس لمقتل القيادي بـ(حزب الله) سمير القنطار، لأننا نعتبر هذا القاتل وحزبه والغا بدماء السوريين وشريكا للنظام في إجرامه». وفورا انتقل الجدل إلى صفوف عناصر حماس نفسها، وكتب براء ريان، وهو نجل القيادي في حماس، نزار ريان، الذي اغتيل في حرب 2008 - 2009 في غزة، منتقدا بيان القسام «تخيلوا لو أن طائرة (إف 16 أميركية) قصفت خليفة (داعش)، تُرى هل ستنعونه وتزفونه شهيدًا وتقومون بواجبه.. علما بأنه أسير سابق في سجون الاحتلال الأميركي». وهذا الجدل حول دور إيران في المنطقة هو جدل مستمر ولن يتوقف على الرغم من أن مكالمة مسربة يفترض أنها وضعت الحد للكثير منه.
المكالمة المحرجة
في نهاية يناير (كانون الثاني) تسرب تسجيل لمكالمة حصلت «الشرق الأوسط» على نسخة منها ونشرتها لنائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس موسى أبو مرزوق، يهاجم فيها إيران بشدة وينفي تصريحات إيرانية بأنها تقدم الدعم للمقاومة الفلسطينية خاصة منذ عام 2009. ويسمع في المقطع الصوتي أبو مرزوق وهو يتحدث إلى أحد الأشخاص معقبا على تصريحات إيرانية حول دعم المقاومة ويتحدث عن دور إيراني سيئ في اليمن.
ويعلق أبو مرزوق على بداية التسجيل على العلاقات الإيرانية - الروسية بالقول: «الآن صحيح في الوقت الحاضر بحاولوا يعملوا اتفاقيات وحلف مع الروس وهذا كله دهاء من الإيرانيين ونحن ضحايا لهذا الدهاء». وتحدث القيادي في حماس للشخصية الأخرى بالقول عن دعم حماس «القصة ليست قصة كما يذكرون وهدول من أكثر الناس باطنية وتلاعبا بالألفاظ وحذرا بالسياسة.. من 2009 تقريبا ما وصل منهم أي شيء، وكل الكلام اللي بقولوه كذب وكل اللي بيصل لحبايبنا لم يكن من قبلهم، جزء من طرف صديق وأطراف أخرى بسبب الأوضاع في المنطقة وكله بجهد الأنفس جمعناه وبعتنا، ولم يقدموا شيء في هذا المجال وكل ما يقولونه كذب».
وأشار أبو مرزوق إلى أن إيران كانت كلما يجري حديث معها عن الدعم تشترط ذلك بتدخل حماس لتحسين علاقات طهران مع دول مثل دولة السودان وغيرها، معتبرا ذلك جزءا من العقاب وواصفا إياهم بالقول: «هم مكذبة وفاتحينها بهذا المجال». وأشار لما وصفها بأكاذيب الإيرانيين، حول إرسال السفن للمقاومة في غزة بالقول: «من 2011 كل سفينة بضيع منهم بقولوا كانت رايحة الكم، في سفينة ضاعت بنيجيريا قالوا الكم رايحة، قلتلهم هو احنا فش ولا سفينة بتغلط وبتيجينا كل السفن اللي بتنمسك هي إلنا».
وأضاف: «ياريت يكونوا مخلصين مثل ما بقولوا للناس، بعتبرونا خوارج، من 1400 قرن بتصفوا بالدهاء والتورية والباطنية وليسوا بهذه الدرجة من السهولة»، مشيرا إلى ما افتعلوه من أحداث في اليمن، مضيفا: «هلكوا العباد بسبب أحاديثهم الباطنية وطريقة تعاملهم مع الناس». وهذا الموقف غير المعلن لحماس هو تقريبا نفس الموقف غير المعلن للمستوى الرسمي الفلسطيني، وهو ما يفسر لقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس بزعيمة المعارضة الإيرانية مريم رجوي في باريس في أغسطس (آب) الماضي، وهو اللقاء الذي شن معه مسؤولون إيرانيون هجوما غير مسبوق على عباس واصفين إياه بشتى الأوصاف. لكن كيف ردت حركة فتح؟
الموقف الرسمي الفلسطيني
الرد الفتحاوي اختصر الكثير من تاريخ العلاقة وكيف تنظر لها فتح الحاكمة. وقالت فتح بأن تصريحات الإيرانيين بحق عباس تعد «انعكاسًا لمفاهيم الخيانة والباطنية الناظمة لسياسة القائمين بأدوار تخريب وتدمير وشق الصف الفلسطيني». وأضافت: «بعد قراءة دقيقة لتصريحات مستشار وزير الخارجية الإيراني المسيئة للرئيس القائد العام، يثبت لنا فظاعة دور القائمين على خدمة المشروع الصهيوني بحملاتهم المنظمة على رئيس الشعب الفلسطيني وقائد حركة تحرره الوطنية، وعلى القضية الفلسطينية». وقالت: إن إيران سعت على الدوام إلى «تدمير وتخريب الصف الفلسطيني، وتعميق الانقسام»، وإن المسؤولين الإيرانيين «اغتالوا قيم الوفاء لحركة فتح التي احتضنت الثورة الإيرانية، ومدتها بكل وسائل الدعم المادي والعسكري والمالي، وفتحت قواعدها للثوار».
هذا الموقف الفتحاوي يفسر لماذا تبدو العلاقة الإيرانية الفلسطينية الرسمية في أسوأ أحوالها منذ عقود وستستمر حتى وقت ليس قريبا. لكن ما زال لا يمانع الفلسطينيون أن ينضموا لأي من الفيالق الإيرانية إذا ما تقدمت نحو القدس.



السجن السوري الكبير... بيروقراطية القتل و«بازار» الابتزاز

TT

السجن السوري الكبير... بيروقراطية القتل و«بازار» الابتزاز

منير الفقير عضو مؤسس «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا» في جولة على سجنه مع «الشرق الأوسط»
منير الفقير عضو مؤسس «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا» في جولة على سجنه مع «الشرق الأوسط»

«أمي أصرت على أن ترافقني في زيارتي الأولى لزنزانتي في سجن صيدنايا وزوجتي اتصلت من تركيا لتجعلني أقسم ألا أذهب من دونها... وأنا حقيقة ما زلت غير قادر على مواجهة هذا المكان. لا بمفردي ولا مع شاهد آخر على مأساتي».

هكذا اعتذر لنا منير الفقير، الناجي من الاعتقال في أفرع الأمن وفي سجن صيدنايا والشريك المؤسس في «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا»، عن عدم زيارة زنزانته التي كانت مقررة في صباح ذلك اليوم الدمشقي.

«في البداية تشجعت أن نذهب معاً» قال: «ولكنني فعلياً غير قادر على استعادة هذا الكابوس الآن. هناك فيض من المشاعر التي لا أعرف التعامل معها... استشرت صديقاً نصحني بألا أقوم بهذه الزيارة قبل أن أحصّن نفسي وأكون على أتم الاستعداد».

وبعد برهة صمت استدرك: «لكن كيف يستعد الإنسان للقاء كهذا؟».

منير الفقير عضو مؤسس «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا» في جولة على سجنه مع «الشرق الأوسط»

لم نصر على الزيارة بطبيعة الحال. فالأيام القليلة التي سبقت الوصول إلى دمشق، وما نشر عن ذلك المكان السيئ السمعة من معلومات دقيقة أو مبالغة (بلا مبرر)، كفيل بإيقاظ أي صدمة مهما اندملت أو طوته الذاكرة. فكيف والجرح طري والألم مقيم. كذلك فإن الدفق الهائل من الروايات الفردية والجماعية عن هذه التجربة المروعة، الذي لم يترك تفصيلاً إلا وتناوله في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي كان ليجعل أي إصرار في غير صوابه.

سجن صيدنايا رأس جبل الجليد

إلى ذلك، فإنه يستحيل اختزال التجربة السجنية في سوريا على مدى الخمسين عاماً الماضية في سجن صيدنايا وحده، على فرادة التجربة لا شك، وذلك لكونه رأس جبل جليد دونه أفرع أمنية ومعتقلات وسجون كثيرة لا تقل رعباً وقسوة.

وإذا كان من نموذج لـ«الناجي المطلق» في ذلك الجحيم كله، فهو منير الفقير، المهندس ابن دمشق، الذي تنقل لأكثر من سنتين بين عدة محطات اعتقال بدءاً بالفرع 215، «سرية المداهمة» التابع للأمن العسكري، مروراً بالفرع 215 والمستشفى العسكري 601 المعروف بـ«المسلخ»، حيث التقطت صور «قيصر»، وصولاً إلى المسلخ الكبير... صيدنايا.

مدخل الفرع 215 «سرية المداهمة» التابع للأمن العسكري السوري كما بدا منتصف ديسمبر 2024 (الشرق الأوسط)

وقد يكون أول سؤال يتبادر إلى الذهن هو كيف نجا منير، وكيف خرج حياً بعد كل ذلك، فيقول: «المعجزة أنني خرجت حياً من الفرعين الأولين. أما وقد وصلت إلى صيدنايا، وريثما علم أهلي بمكاني فقد كان بزنس الابتزاز انتعش. وحاولت عائلتي كغيرها من عائلات كثيرة إخراجي مقابل المال... وكنت محظوظاً أنه تم لي ذلك». ولعل اللافت أن رئيس المحكمة الميدانية، اللواء محمد كنجو حسن الذي حكم على منير بالترحيل إلى صيدنايا في جلسة محاكمة لم تتجاوز دقيقتين، كان هو نفسه من صادق على خروجه بعد تقاضي رشوة كبيرة عبر شبكة ابتزاز تعمل لصالحه.

هذا علماً أن منير لا يزال حتى الساعة جاهلاً بتهمته. ويقول: «لا أعلم حتى الآن ما هي التهمة الموجهة إليّ ولم أعلم حينها بمدة الحكم أو إذا كنت سأعدم. طوال الفترة التي قضيتها لم أبلّغ بشيء وممنوع أن أسأل. كنت فقط أحاول الاستنتاج من طبيعة الأسئلة الموجهة لي. لكنني لم أعلم شيئاً».

المعتقلون و«بازار» الابتزاز

يوضح منير أن هناك 3 أنواع من حالات الإفراج. الحالة النادرة جداً وهي العفو الرئاسي، وحدث أن منح بشار الأسد عفواً في حالات استثنائية ولأشخاص معينين. والحالة الثانية هي التبادل أي تبادل معتقلين بمعتقلين لدى أطراف أخرى، وهي أيضاً نادرة.

منير الفقير عضو مؤسس «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا» يزور سجنه بالفرع 215 في دمشق (الشرق الأوسط)

أما الحالة الأبرز والأكثر شيوعاً فهي الابتزاز المالي. ويقول منير: «كان لدى كنجو حسن الذي يملك ثروة طائلة وعقارات، سماسرة يرصدون الصيد الثمين من المعتقلين فيتواصلون مع الأهالي وبشكل رئيسي الأمهات ثم بدرجة ثانية مع الزوجات والأخوات».

وأضاف: «نحن في رابطة صيدنايا رصدنا هذا الموضوع، وقمنا بنشر تقرير توعوي للأهالي حول شبكات الابتزاز وقدرنا المبالغ المالية التي حصلت عليها شبكات الابتزاز الأمنية بنحو مليار دولار للفترة الممتدة بين 2011 حتى 2020». وتابع أن «منظمات حقوقية أخرى قدرت المبالغ بأكثر من ذلك، لكننا رصدنا الحد الأدنى الذي استطعنا توثيقه بناء على عينة إحصائية وليست عينة مسح».

وتعمل تلك الشبكات بإحياء أمل الأمهات باستعادة المفقود وإثارة خوفهن من خسارة ابن آخر «لينطلق البازار»، على ما يقول منير، ويبدأ إرسال المال مقابل معلومات أو إشارات شحيحة عن المفقود ريثما لا يعود لدى «الزبون» ما يقدمه؛ فإما أن يتم الإفراج فعلياً عن المعتقل وإما أن يصبح الرقم خارج التغطية، أو تُبلغ العائلة بأن الوقت قد فات وأن الابن لم يعثر عليه أو أنه ربما مات.

وهنا محظوظة هي العائلة التي تمنح شهادة وفاة أو جثة تدفنها، وغالباً ما يتم ذلك مقابل إجبارها على توقيع شهادة وفاة تقول إن الموت جاء لأسباب طبيعية أو صحية أبرزها توقف القلب أو الاحتشاء أو الفشل الكلوي، علماً أن الشائع هو تسجيل من دون حتى إبلاغ العائلة ولا حتى تسليم جثة.

الموت والتغييب كإجراء إداريّ

«لا شيء متروك للصدفة»، يقول منير ونحن نقف داخل مكتب السجلات في الفرع 215: «كل شيء مسجل ومؤرشف. وهذا جزء من نجاحهم في إطباق القبضة الأمنية. فمهما كان عدد المعتقلين ضخماً ومهما كان الازدحام في الزنزانات شديداً، يمكنهم بلحظة سحب الملف وسحب السجين من أي مهجع أو زنزانة».

وبالفعل، شملت سجلات الجرد التي ملأت الرفوف واطلعنا على بعضها، تفاصيل دقيقة عن الأشخاص ومقتنياتهم وأوراقهم الثبوتية وكل ما تتم مصادرته منهم حين توقيفهم. وكان هناك عدد كبير جداً من جوازات السفر المحفوظة، وعلمنا لاحقاً أنها تستخدم لنصب الأفخاخ. فأصحابها غالباً لا يعلمون أنهم مطلوبون لفرع أمني حين يتقدمون باستخراجها أو بطلبات تجديدها، وحين تنجز ويذهبون لتسلّمها يتم اقتيادهم إلى الفرع.

وثائق وأوراق ثبوتية ومقتنيات معتقلين مبعثرة ومنهوبة بقاعة المحفوظات في الفرع 215 بدمشق (الشرق الأوسط)

ومن «الأمانات» التي وقعنا عليها في قاعة المحفوظات تلك، كتاب «الاستخبارات المركزية الأمريكية: غول وعنقاء وخل: ماذا فعلت؟» لمحمود سيّد رصاص، وأحذية لأطفال ويافعين، وبطاقة هوية عليها صورة فتى لم يتجاوز سنوات مراهقته الأولى، وكثير من علب المهدئات العصبية ومسكنات الألم بتركيبة الكوديين.

أما من نعتقد أنهم «منسيون» في الأفرع والمعتقلات وبعضهم من جنسيات غير سورية أيضاً، فينطبق عليهم المبدأ نفسه بأن لا شيء متروك للصدفة. فبحسب ما يشرح منير، هناك نوعان من العبارات التي تكتب على إضبارات المعتقلين الذين يتخذ قرار «نسيانهم» أو عملياً قرار إخفائهم قسرياً: العبارة الاولى هي «يحفظ ويذكّر به» وتعني أنه يتعين على السجان تذكير مسؤول الفرع بالمعتقل في فترات متباعدة. والعبارة الثانية هي «يحفظ ولا يذكر به» فيعطى رقماً ويصبح بالإمكان إما الإبقاء عليه أو تصفيته.

قاعة إعدام وكابوس البطانيات

غادرنا قسم العمل البيروقراطي والإداري المتقن وهبطنا إلى الطوابق السفلية. هنا المهاجع والزنزانات المنفردة وقاعة تدريب على الرماية تحولت مكان اعتقال جماعي وتعذيب في فترات الذروة، ثم مسرحاً لإعدامات ميدانية وثقتها الرابطة ومنظمات حقوقية ومنحت الفرع 215 برمته سمعته بأنه «فرع الموت». لا يزال المكان يعبق بما شهده من فظاعات. ولا تزال الجدران السوداء في قاعة الإعدام تلك سقفها يحمل تركات ماض ليس ببعيد. الرائحة تثير الإعياء.

فجأة انتابت منير فورة غضب عارم فراح يضرب باب زنزانته برجليه ويديه حتى كاد يدميها. ثم تماسك، وغالب دموعه وتابع المسير.

مهجع في معتقل الفرع 215 بدمشق

في بعض المهاجع كانت بقايا خبز وعلب لبن فارغة وحبات طماطم تآكلها العفن مرمية على الأرض المتسخة أو فوق بطانيات رثة هي كل ما يشكل أثاث هذه القاعات. لا شيء إلا الجدران والبطانيات وحفرة صحية مكشوفة لقضاء الحاجة. على الجدران كتابات تخطر ببال ولا تخطر، محفورة بالأظافر أو أغطية علب اللبن. مناجاة وأسماء وتواريخ ومعادلات رياضية معقدة يقول منير إنها تهبط على الشخص في لحظات صفاء الذهن المطلق كما يحدث في السجن.

البطانيات التي يحمل بعضها دمغة «مفوضية اللاجئين» التابعة للأمم المتحدة (UNHCR) وتشكل الأثاث الوحيد في هذه القاعات المغلقة تستخدم لأي شيء وكل شيء حتى أصبحت بؤرة جراثيم وبكتيريا وقمل تتسبب بتقرحات ونقل أمراض وعدوى بين المعتقلين خصوصاً في حالات الجروح المفتوحة. وليس نادراً أن تتفشى الغرغرينا في مهجع ما لأسباب كثيرة، أحدها هذه البطانيات نفسها. ويقول منير: «أحياناً كثيرة يموت سجين فيتركونه هنا لساعات أو أيام، بين رفاقه الأحياء، جثة ملقية على هذه البطانيات التي يعاد استخدامها لأغراض أخرى».

في آخر الرواق ليس بعيداً من القاعات الجماعية التي لا تتجاوز مساحتها 35 متراً مربعاً ويحشر فيها 200 شخص أو أكثر أحياناً بحسب المواسم، تصطف المنفردات فتبدو كأنها قبور منتصبة لا يمكن أن تتسع لحركة آدمي. ولكنها، وعلى الرغم من ذلك تبقى «مرتجى» كثيرين لأنها تبعد عنهم ولو قليلاً رعب البطانيات ذاك.

زنزانة منفردة في الفرع 215 بدمشق (الشرق الأوسط)

الرعب المعمّم خارج السجن

لعل أحد أوجه القسوة والترهيب المعمم في سوريا على مدى العقود الماضية، يكمن في اختيار مواقع هذه المعتقلات بين الأحياء السكنية في دمشق وتفرعات الشوارع كأنما لفرض التطبيع مع العنف الدائر داخلها. فإذا كان سجن صيدنايا بعيداً عن العين والمخيلة اليومية للناس العاديين، فإن هذه الأفرع تنتشر وسط العاصمة بمحاذاة حياة «طبيعية»، تجري خارجها.

فللوصول إلى الفرع 215 الواقع ضمن المربع الأمني بين حي كفرسوسة والمزة، الذي شكل المحطة الأولى في رحلة الاعتقال المستعادة مع منير، مررنا عبر «أوتوستراد المزة» الشهير وانعطفنا قليلاً ثم دخلنا من بوابة مفتوحة على الشارع كأننا نتوجه إلى أي دائرة حكومية في فضاء عام. ثم لدى انتهائنا من الزيارة وخروجنا من ظلمة السراديب إلى ضوء النهار، بدت فجأة من الجهة الخلفية مبانٍ إدارية تطل نوافذ مكاتبها على باحات هذا المكان، وكأننا بالموظفين يسترقون النظر إليه خلال استراحات القهوة والسجائر ثم يعودون هم أيضاً إلى عمل بيروقراطي متقن آخر.

وعلى الجانب الآخر، ثمة مبانٍ سكنية لها شرفات مظللة ضاقت بالغسيل المنشور عليها وتطل بدورها على الفرع. حمل مشهد الغسيل ألفة غامرة وخوفاً في آن.

عندها تصدق قصص كثيرة عن عائلات غيرت سكنها وباعت بيوتها لتتخلص من هذه الجيرة الثقيلة، ولعجز أفرادها عن الاستمرار في سماع صوت التعذيب المتسلل إلى غرف المعيشة وحجرات المنام.

كتاب «الاستخبارات المركزية الأميركية: غول وعنقاء وخل: ماذا فعلت؟» ضمن أمانات المعتقلين بالفرع 215 في دمشق (الشرق الأوسط)

«قسم الرضوض»... وصور قيصر

يفيد تعميم مسرب منتصف 2018، ومؤرخ في 18/12/2012 صادر عن رئاسة فرع المخابرات العسكرية بأنه «يطلب من جميع الأفرع الأمنية الخاضعة لها الإبلاغ عن وفاة أي سجين، في اليوم نفسه وإبلاغ رئيس الفرع شخصياً عبر (التلغرام) مع ذكر سبب الاعتقال ونتائج التحقيق وسبب الوفاة».

هذه وثيقة تستخدمها اليوم مجموعات حقوقية لمقاضاة الجناة دولياً، وتعدّ اعترافاً صريحاً بوقوع الوفيات، لكنها أيضاً إقرار بأن تلك الوفيات بأعدادها الهائلة، تجري بمعرفة وقرار مباشر من أعلى هرم القيادة.

ويعد الفرع 215 السابق الذكر محطة أساسية في «خط الإنتاج» ذاك، يليه «قسم الرضوض» في مستشفى المزة العسكري (يوسف العظمة سابقاً) المعروف بالـ601، «حيث يتم تخريج الوفيات بطريقة طبية أو يتم الإجهاز على المرضى بشكل طبي أيضاً»، بحسب ما يقول منير.

وكان «قسم الرضوض» استحدث بعد الثورة في 2011 ضمن المبنى القديم للمستشفى الذي يعود إلى حقبة الانتداب الفرنسي لـ«معالجة» المعتقلين بعدما ارتفعت وتيرة التعذيب والقتل بشكل منهجي في الأفرع وأعداد الضحايا، وبرزت حاجة لـ«تصريف» الجثث وتخفيف الاكتظاظ. وذلك بالتزامن مع جعل «قسم الرضوض» مكاناً إضافياً للتعذيب «الطبي» هذه المرة، ثم حفظ الجثث وأرشفتها وترقيمها، وأبرزها تلك التي ظهرت في صور قيصر وتم تصويرها في باحة هذا المكان.

ويشرح منير دور الطاقم الطبي فيقول: «المشرفون على قسم الرضوض هم بشكل أساسي أمنيون وأطباء عسكريون، فالقسم يخضع لإدارتين أمنيتين هما: الأمن العسكري والأمن الجوي لكل منهما عزرائيل كما كنا نسميهما، لأنهما كانا كثيري القتل والتفنن به».

صور مفقودين عُلقت على جدران مستشفى المزّة العسكري - 601 في دمشق (الشرق الأوسط)

وبحسب منير، وهو ما تمت مقاطعته من مصادر أخرى أيضاً، كان عدد غير قليل من الأطباء والممرضين وحتى الممرضات متواطئين إلى حد بعيد مع العسكريين فكانوا «يرشدونهم» إلى طريقة ضرب تؤدي إلى نزف داخلي مثلاً أو فشل كلوي أو اختناق من دون أن تظهر بالضرورة على الجسد آثار تعذيب واضحة، ما يسهل تبرير سبب الوفاة في السجلات الرسمية، وتسجيلها وفاة طبيعية لتكتمل دورة العمل الإداري والبيروقراطي الدقيق.

لم يكن ممكناً دخول المستشفى لمعاينة «قسم الرضوض» الذي رقد فيه منير لفترة وقد كان في حالة سيئة جداً وخسر وزناً كثيراً. فقد أغلق المكان وتحول إلى مقر شبه عسكري تابع لـ«الهيئة». عند السور الحجري الكبير، علقت عشرات صور المفقودين وأسماؤهم وأرقام هواتف ذويهم علّ أحداً يتعرف عليهم أو يمكنه الإفادة بمصيرهم.

خلال انتظارنا لنحو ساعتين عند البوابة الرئيسية للمشفى، توافدت سيارات كثيرة بطلبات مختلفة من تسليم سلاح فردي، ومراجعين لأقسام طبية لم تعد موجودة، إلى موظفة سابقة تريد استعادة أغراض شخصية من مكتبها مقابل أن تسلم مفتاحها. كغيرها، عادت أدراجها خائبة، فوحده تسليم السلاح لقي تجاوباً وترحيباً من العناصر المسلحة.

أما منير، وقبل أن يعود إلى احتفالات ساحة الأمويين، توقف طويلاً عند لوحة رفعت على المدخل الرئيسي تقول: «إدارة المشفى تتمنى لمرضاكم الشفاء العاجل».

لافتة الاستقبال عند مدخل مستشفى المزّة العسكري - 601 في دمشق حيث جرت عمليات تعذيب وتصفية (الشرق الأوسط)