مئات القطع الجنائزية الأثرية، بينها نواويس ومسلات ونصب وجداريات وزجاجيات، كما فخاريات ومقتنيات نادرة، ترجع إلى ما قبل التاريخ وتمتد حتى الحقبة العثمانية، أصبحت معروضة أمام الجمهور، منذ الجمعة، بعد أن انضمت إلى المجموعة العامة للمتحف اللبناني، بافتتاح الطابق السفلي للمبنى.
وأضيفت إلى 1300 قطعة أثرية كانت معروضة سابقًا 31 قطعة من النواويس الحجرية والرخامية والفخارية تزينها النقوش تعود إلى مرحلة ما بين القرنين السادس والرابع قبل الميلاد، وتحيط بها المرايا من كل جنب وفي السقف، في عرض سينوجرافي يظهر تضاعف أعدادها. هذا عدا مئات القطع الأخرى، التي انضمت إلى المعروضات. وقد تم اكتشاف هذه المقتنيات في مدافن ومواقع التنقيبات والحفريات الأثرية في مختلف المناطق اللبنانية في أوقات زمنية مختلفة تمتد منذ خمسينات القرن الماضي، وصولا إلى عام 2014، إضافة إلى قطع كانت في مستودعات مديرية الآثار وتم ترميمها.
جدير بالذكر، أن المتحف الذي يعود تأسيسه إلى مطلع ثلاثينات القرن الماضي وفتح أبوابه أمام الجمهور عام 1942، كان قد أغلق مع بدء الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 إثر تحول منطقته إلى خط تماس بين المتحاربين، كما أصيب مبنى المتحف ومقتنياته بأضرار كبيرة، رغم الجهود التي بذلت للحفاظ على القطع الأثرية أن بنقلها أو بصب الإسمنت المسلح فوقها. لكن هذا لم يحل دون خراب كبير وضرر بالغ؛ إذ حتى المياه التي فاضت وأغرقت الطابق السفلي تآمرت على هذا المكان الجميل. وتحول المتحف خلال الحرب إلى مركز للميليشيات، واحتاج الأمر إلى سنوات طويلة بعد توقف المعارك، لترميم محفوظاته ومبناه وإعادته إلى الحياة، لكن المكتبة التي تحتوي على ما يقارب 17 ألف عنوان ومخطوطة كانت قد حرقت عن بكرة أبيها.
وبالتالي، فافتتاح الطابق السفلي الذي تم بفضل مساهمة من الحكومة الإيطالية بهبة عينية بلغت مليونا و200 ألف يورو، إضافة إلى الخبرات التقنية والفنية، يعتبر استكمالا للجهود المبذولة منذ توقفت الحرب في مطلع تسعينات القرن الماضي، حيث تم الافتتاح الرسمي عام 1999، ومنذ ذلك الحين والعمل متواصل لاستعادة بيروت متحفها الوطني.
وتم تدشين الطابق السفلي مساء الجمعة باحتفال رسمي حضره رئيس الوزراء اللبناني تمام سلام، ووزير الخارجية الإيطالي باولو جنتيلوني.
وبعد أداء النشيدين اللبناني والإيطالي بصوت عدد من الفتية والفتيات جرى عرض فيلم وثائقي عن تأهيل الطابق السفلي في المتحف الوطني الذي استغرق عامين، كما تم عرض فيلم وثائقي عن المعروضات التي يحتويها الطابق الجديد.
وعلى أنغام موسيقى البيانو التي كانت تعزف مباشرة تنقل الحضور بين القطع التي توزعت بين تماثيل ونصب ومسلات رخامية وحجرية ولوحات تذكارية ونواويس تظهر العادات الجنائزية التي اتبعتها الشعوب التي سكنت هذه الأرض.
وعرضت داخل واجهات زجاجية مئات القطع والأدوات من المتاع الجنائزي التي وجدت داخل المقابر والنواويس والجرار المدفنية وقناديل زيت وتعاويذ ومباخر برونزية منقوش عليها مشاهد من حياة السيد المسيح.
ومن بين المعروضات، قطع نادرة منها واجهة رخامية لأحد المدافن وعليها صليب من كل جهة، وفي الوسط رسم للسيدة العذراء وكتابة تشير إلى أنه مدفن بروليوس، ويعود إلى عام 240، أي خلال الحقبة البيزنطية.
وتشير مديرة المتحف والمشرفة على المشروع آن ماري عفيش خلال شرحها لكبار الزوار، ومن بينهم عدد كبير من الوزراء والنواب اللبنانيين والوفد الإيطالي، إلى أنه لم يتم العثور قبل ذلك التاريخ على رسم تصويري للسيدة العذراء «ما يعني أنه الرسم الأول لوجه العذراء المكتشف حتى اليوم في لبنان».
وتقول عفيش، إن هذه «القطع الثمينة والفريدة بأشكالها وأحجامها وألوانها تحكي رواية حياة إنسان هذه الأرض ومعتقداته وتقاليده على مدى العصور الممتدة من مائة ألف عام قبل الميلاد حتى أوائل القرن العشرين. وهي مقتنيات من الحجر والفخار والنحاس والعاج والحديد والرخام».
وتمتد المعروضات على مساحة 700 متر مربع، وفقا لتسلسلها الزمني ابتداء من العصر الحجري القديم مرورا بعصور الحجر الوسيط والحجر والنحاس والحجر الحديث والبرونز والحديد مرورا بالحقبة الهلنستية والرومانية والعصور الوسطى، وصولا إلى الحقبة العثمانية. جدير بالذكر، أنها الحقبات التي تغطيها محتويات المتحف ككل، والذي من أحد أهم خصائصه، أنه يحتوي على قطع وجدت جميعها على الأراضي اللبنانية أثناء عمليات التفتيش والتنقيب، وليست محمولة أو مجلوبة من دول أخرى. وبالتالي، فإن الإضافات التي تتم تدريجيًا، هي جزء من بناء الذاكرة الجماعية اللبنانية التي تحتاج إليها عملية الانصهار الوطني.
ومن بين المعروضات الجنائزية، سن مكتشفة في منطقة نهر الكلب إلى الشمال من بيروت تعود إلى 70 ألف عام لشاب في العشرين، وفك لشاب آخر وقبور تم العثور عليها في مغاور تعود إلى 15 ألف عام قبل الميلاد.
وتظهر الاباريق التي تعود إلى الحقبة الفينيقية التي تراوحت بين 900 و800 قبل الميلاد تغير العادات في الدفن، حيث أصبح الفينيقيون يحرقون جثامين موتاهم ويضعوها في أباريق جنائزية.
وأشرف على تصميم المكان المهندس الإيطالي أنطونيو جيامانتيس ليتناسق مع القاعة التي خصصت لجداريات صور المدفنية منذ عام 2011.
وقال سلام في حفل الافتتاح «وضع الخبراء الإيطاليون خلاصة معرفتهم لإنجاز هذا العمل وفق أرفع المعايير العلمية؛ فجاءت النتيجة كما ترون ذروة في الدقة والأناقة والمهابة التي تعكس قيمة هذه المقتنيات اللبنانية النادرة». ووجه وزير الثقافة، ريمون عريجي، في كلمة التحية إلى وزير خارجية إيطاليا قائلا له: «إننا نثمن هذه المبادرة ونتطلع إلى مشروعات مشتركة متنوعة على الصعد الثقافية والاجتماعية والإنسانية عامة»، ووصف الافتتاح بأنه «لحظة مصافحة التاريخ»، قائلا «هذه المقتنيات الأثرية الرائعة هي شواهد على الحضارة التي نشأت على الشاطئ المتوسطي».
ووجه المتحدثون التحية لأحد كبار مؤسسي وحافظي المتحف الوطني الراحل الأمير موريس شهاب الذي تولى حفظ مقتنيات المتحف إبان الحرب الأهلية التي دارت بين عامي 1975 و1990.
وتحدث وزير الخارجية الإيطالي فأشار إلى «دور الثقافة في تطور الشعوب، ولا سيما في نبذ التطرف والعلاقات الإنسانية» وقال إن «الثقافة تلعب دورا مهما في التطور الاقتصادي والاجتماعي، ولها أهمية في التغلب على التمييز العنصري بين البشر».
والمعروضات الجديدة ليست إلا غيضا من فيض ما هو موجود في مستودعات المتحف التي تضم ما يقارب 100 ألف قطعة أثرية يضيق المكان بها، وتحتاج إلى مساحات جديدة ومؤهلة لاستقبالها.
كنوز جنائزية أثرية تنضم إلى «المتحف الوطني اللبناني»
نواويس ومقتنيات نادرة.. ورسم للعذراء يعد الأقدم اكتشافًا
كنوز جنائزية أثرية تنضم إلى «المتحف الوطني اللبناني»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة