مصورو الحرب أمام جدلية رصد العنف والحفاظ على المهنية والإنسانية

الحرب الأهلية في السودان 1993 للمصور كيفين كارتر
الحرب الأهلية في السودان 1993 للمصور كيفين كارتر
TT

مصورو الحرب أمام جدلية رصد العنف والحفاظ على المهنية والإنسانية

الحرب الأهلية في السودان 1993 للمصور كيفين كارتر
الحرب الأهلية في السودان 1993 للمصور كيفين كارتر

لم يكن كيفين كارتر المصور الصحافي الجنوب أفريقي، يعلم أن الصورة التي التقطها في السودان أثناء فترة المجاعة التي فاز بها بجائزة «بوليتزر» الأميركية للصورة عام 1993، ستكون آخر أعماله قبل انتحاره بعدها بثلاثة أشهر، تاركًا رسالة انتحار قال فيها: «أنا آسف جدًا جدًا. لكن ألم الحياة يفوق متعتها بكثير، لدرجة أن المتعة أصبحت غير موجودة، أنا مكتئب، من دون جوال، مال للإيجار، مال لإعالة الطفل، تطاردني ذكريات حية من عمليات القتل والجثث والغضب والألم، لأطفال يتضورون جوعًا أو جرحى، من المجانين المولعين بإطلاق النار، أغلبهم من الشرطة، من الجلادين القتلة.. ذهبتُ للانضمام إلى كين إن كنت محظوظًا لتلك الدرجة».
وترصد الصورة التي التقطها طفلة صغيرة يظهر هيكلها العظمي واضحًا بسبب ما فعلته بها المجاعة التي تسببت بها الحرب الأهلية، وهي لم تعد قادرة على الوقوف، ووراءها نسر في انتظار وفاتها حتى يأكلها.
وانتظر كارتر 20 دقيقة آملاً أن يفرد النسر جناحيه من أجل أن يلتقط أفضل صورة ممكنة، لكنه لم يفعل.
ولا ينفصل التأثر بما تلتقطه عدسة المصور الصحافي عن أخلاقيات المهنة التي تدور في فلك جدلية، كيف يمكن تصوير العنف دون أن يصدم المشاهدين؟ حيث عادت مسألة التعامل الأخلاقي مع العنف إلى البروز خلال جائزة بايو لعام 2016، مع معرض عن حرب العصابات في اكابلكو، المدينة الأكثر خطورة في المكسيك، وفق منظمه الصحافي البلجيكي المعروف لوران فان در ستوكت، المعرض الذي يستمر حتى 30 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي في كنيسة في بايو، تحذر لافتة من أن بعض الصور يمكن أن تكون صادمة، وهي صور يصعب عرضها في الصحافة الأوروبية.
وكان لوران فان در ستوكت قد فاز في عام 2012 بجائزة «فيزا الذهبية» عن فئة «نيوز» في مهرجان «فيزا الصورة»، عن قصته في دخول دمشق بسوريا، ونشرت صحيفة «لوموند» الفرنسية تحقيقًا عن تلك الرحلة الشاقة، وقال ستوكت: «كان الدخول إلى دمشق والخروج منها عملية معقّدة تستغرق أسابيع. في سوريا نصل إلى لحظة يحس فيها المرافقون بانعدام التوازن مع مهماتهم».
وقبل سوريا، غطّى ستوكت حروبًا وصراعات كثيرة في العراق ويوغوسلافيا، وأفغانستان والشيشان، وحصدت أعماله أيضًا كثيرًا من الجوائز.
ويثار الجدل القاسي، حول المهنية في التقاط الصور ومعيار الإنسانية في التعامل مع مناطق النزاع، في كل سنة مع إعلان لجان التحكيم الخاصة بالجوائز العالمية للصور الصحافية، مثلما حدث في عام 2014، حيث منح الجمهور في بايو جائزته إلى المصور التركي أمين أوزمن لتحقيق مصور عن متطرفين يقومون بقطع رؤوس في سوريا، بعدما شكل التقرير موضع مناقشات حادة بين أعضاء لجنة التحكيم التي لم تمنحه جائزة.
ولكن النقاش لا يزال مستمرًا. ويقول الفرنسي باتريك شوفيل، المعروف في مجال التحقيقات المصورة، الذي كان يدير هذه الندوة، إن أمين أوزمن «كان على حق. لا يمكننا أن نقول إن (داعش) يقطع الرؤوس وعدم إظهار ذلك. هذا لا يخدم دعاية (داعش)، لا بل على العكس».
ويرى بعض المصورين أن الصور الخاصة برصد مناطق النزاع، قد تفقد مغزاها، وتؤدي إلى تأجج العنف، مثل المصور الكردي العراقي يونس محمد الذي شارك في أسبوع بعنوان «أخلاقيات المهنة على أرض الواقع» على هامش جائزة بايو للمراسلين الحربيين في شمال غربي فرنسا.
ويقول يونس محمد (44 عامًا): «شاهدت أطفالاً يلعبون لعبة التظاهر بقطع الرأس. هذا يطرح تساؤلات. من يستخدمون العنف يريدون أيضًا إبراز قوتهم وينتظرون مني مساعدتهم لترك أثر نفسي» على أعدائهم.



من طهران إلى كابل... حكايات نساء يتحدّيْن الظلم في «البحر الأحمر»

وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)
وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)
TT

من طهران إلى كابل... حكايات نساء يتحدّيْن الظلم في «البحر الأحمر»

وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)
وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)

في الدورة الرابعة من مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي»، تنافست أعمال استثنائية نقلت قصصاً إنسانية مؤثّرة عن واقع المرأة في إيران وأفغانستان. وسط أجواء الاحتفاء بالفنّ السينمائي بوصفه وسيلةً للتعبير والتغيير، قدَّم فيلما «السادسة صباحاً» للإيراني مهران مديري، و«أغنية سيما» للأفغانية رؤيا سادات، شهادتين بارزتين على تحدّيات النساء في بيئاتهن الاجتماعية والسياسية.

«السادسة صباحاً»... دراما الصراع مع السلطة

يروي الفيلم قصة «سارة»، الشابة الإيرانية التي تتأهّب لمغادرة طهران لإكمال دراستها في كندا. تتحوّل ليلة وداعها مواجهةً مفاجئةً مع «شرطة الأخلاق»؛ إذ يقتحم أفرادها حفلاً صغيراً في منزل صديقتها. يكشف العمل، بأسلوب مشوّق، الضغط الذي تعيشه النساء الإيرانيات في ظلّ نظام تحكمه الرقابة الصارمة على الحرّيات الفردية، ويبرز الخوف الذي يطاردهن حتى في أكثر اللحظات بساطة.

الفيلم، الذي أخرجه مهران مديري، المعروف بسخريته اللاذعة، يجمع بين التوتّر النفسي والإسقاطات الاجتماعية. وتُشارك في بطولته سميرة حسنبور ومهران مديري نفسه الذي يظهر بدور مفاوض شرطة يضيف أبعاداً مرعبة ومعقَّدة إلى المشهد، فيقدّم دراما تشويقية.

لقطة من فيلم «أغنية سيما» المُقدَّر (غيتي)

«أغنية سيما»... شهادة على شجاعة الأفغانيات

أما فيلم «أغنية سيما»، فهو رحلة ملحمية في زمن مضطرب من تاريخ أفغانستان. تدور الأحداث في سبعينات القرن الماضي، حين واجهت البلاد صراعات سياسية وآيديولوجية بين الشيوعيين والإسلاميين. يتبع العمل حياة «ثريا»، الشابة الشيوعية التي تناضل من أجل حقوق المرأة، وصديقتها «سيما»، الموسيقية الحالمة التي تبتعد عن السياسة.

الفيلم، الذي أخرجته رؤيا سادات، يستعرض العلاقة المعقَّدة بين الصديقتين في ظلّ انقسام آيديولوجي حاد، ويُظهر كيف حاولت النساء الأفغانيات الحفاظ على شجاعتهن وكرامتهن وسط دوامة الحرب والاضطهاد. بأداء باهر من موزداح جمال زاده ونيلوفر كوخاني، تتراءى تعقيدات الهوية الأنثوية في مواجهة المتغيّرات الاجتماعية والسياسية.

من خلال هذين الفيلمين، يقدّم مهرجان «البحر الأحمر» فرصة فريدة لفهم قضايا المرأة في المجتمعات المحافظة والمضطربة سياسياً. فـ«السادسة صباحاً» و«أغنية سيما» أكثر من مجرّد فيلمين تنافسيَّيْن؛ هما دعوة إلى التأمُّل في الكفاح المستمرّ للنساء من أجل الحرّية والمساواة، مع الإضاءة على دور الفنّ الحاسم في رفع الصوت ضدّ الظلم.

في هذا السياق، يقول الناقد السينمائي الدكتور محمد البشير لـ«الشرق الأوسط»، إنّ فيلم «السادسة صباحاً» ينساب ضمن وحدة زمانية ومكانية لنقد التسلُّط الديني لا السلطة الدينية، واقتحام النيات والمنازل، وممارسة النفوذ بمحاكمة الناس، وما تُسبّبه تلك الممارسات من ضياع مستقبل الشباب، مثل «سارة»، أو تعريض أخيها للانتحار. فهذه المآلات القاسية، مرَّرها المخرج بذكاء، وبأداء رائع من البطلة سميرة حسنبور، علماً بأنّ معظم الأحداث تدور في مكان واحد، وإنما تواليها يُشعر المُشاهد بأنه في فضاء رحب يحاكي اتّساع الكون، واستنساخ المكان وإسقاطه على آخر يمكن أن يعاني أبناؤه التسلّط الذي تعيشه البطلة ومَن يشاركها ظروفها.

على الصعيد الفنّي، يقول البشير: «أجاد المخرج بتأثيث المكان، واختيار لوحات لها رمزيتها، مثل لوحة الفتاة ذات القرط اللؤلؤي للهولندي يوهانس فيرمير، ورسومات مايكل أنجلو على سقف كنيسة سيستينا في الفاتيكان، وغيرها من الرموز والاختيارات المونتاجية، التي تبطئ اللقطات في زمن عابر، أو زمن محدود، واللقطات الواسعة والضيقة».

يأتي ذلك تأكيداً على انفتاح مهرجان «البحر الأحمر السينمائي»، ومراهنته على مكانته المرتقبة في قائمة المهرجانات العالمية، وترحيبه دائماً بكل القضايا المشروعة.

ونَيل «أغنية سيما» و«السادسة صباحاً» وغيرهما من أفلام هذه الدورة، التقدير، وتتويج «الذراري الحمر» للتونسي لطفي عاشور بجائزة «اليُسر الذهبية»، لتقديمه حادثة واقعية عن تصفية خلايا إرهابية شخصاً بريئاً... كلها دليل على أهمية صوت السينما التي أصبحت أهم وسيلة عصرية لمناصرة القضايا العادلة متى قدّمها مُنصفون.

وأظهر المهرجان الذي حمل شعار «للسينما بيت جديد» التزامه بدعم الأفلام التي تحمل قضايا إنسانية عميقة، مما يعزّز مكانته بوصفه منصةً حيويةً للأصوات المبدعة والمهمَّشة من مختلف أنحاء العالم.