لم أستغرب أن يتأخر موعد لقائي مع سيندي تشاو. فكل وسائل الإعلام كانت تحوم حولها في «لوغران باليه» مقر «ذي بينالي ذي انتيكير»، على أمل التقاط صورة لها أو تسجيل لقطات معها. أما هي فكانت تداري هذا وتُجاري ذاك، تشرح لهم بصبر التقنيات التي استعملتها لكي تُبدع تحفا مصاغة من الأحجار الكريمة والنادرة وبأوزان بخفة حلوى الماكارون.
لهذا كنت أتوقع أن تصل إلى مكان اللقاء متعبة أو متوترة، لا سيما أن درجات الحرارة كانت جد مرتفعة، كون «لوغران باليه»، يتحول دائما إلى ما يُشبه البيت الزجاجي كلما سطعت الشمس على سقفه، لكن لدهشتي، وصلت وهي تقفز مثل الفراشة، وعلى محياها ابتسامة واسعة تكاد تضاهي ببريقها ودفئها وحجمها، الزمرد الذي رصع أقراط أذنها. كانت هذه الأقراط كل ما تلبسه من إكسسوارات وماكياج. فقد كانت تعرف، من خلال تجربتها، أنها كافية لتضفي على وجهها الإشراق وعلى مظهرها الأناقة.
تجلس وهي تعتذر عن تأخرها، قائلة بأنها أول مرة تشارك فيها في «بينالي دي أنتكيير» الباريسي، لهذا تحرص أن يمر كل شيء بسلاسة وسلام. وتستطرد أنه «حلم راودني وأجتهد لتحقيقه منذ ست سنوات، لأنه فرصة لا تُعوض ومنبر عالمي يؤمه عشاق اقتناء القطع الفريدة والتحف النادرة». عندما أبوح لها بما كان يراودني قبل وصولها، تضحك قائلة: «التجارب الصعبة تعلم الإنسان الكثير. لا أخفيك أن التوتر يلازمني في السابق عندما أصمم أو أقوم بأي نشاط مماثل، لأني كنت أشعر بالضغط وضرورة أن أبرهن للغير قدراتي، لكني الآن اكتسبت ثقة أكبر وأصبح بإمكاني التعامل مع الأمور ببساطة».
كانت تتكلم بعفوية وحرية يفتقدهما الكثير من المصممين، الذين يعملون مع بيوت أزياء كبيرة. فأغلبهم تأتي إجاباتهم متحفظة ومحسوبة، وكأنهم يرددون نصا حفظوه عن ظهر قلب، ومهما حاولت معهم ومهما غيرت زاوية الحديث، تأتيك نفسك الأجوبة، التي تدور غالبا حول الحرفية والتاريخ العريق للدار وغيرها. سيندي في المقابل، تنسى وتُنسيك أنها في لقاء صحافي، وتنطلق في سرد مسيرتها وما يتخللها من مطبات وكأنها تحكي أخبارها لصديق لم تره منذ سنوات.
تقول: إن بدايتها كانت في 2004 عندما عادت إلى مسقط رأسها، تايبييه الصينية، لتطلق دارها. صدمها أن الناس لا يزالون يتعاملون مع المجوهرات من منطلق تقليدي محض «لم يكن بإمكانهم التفريق بين الفن والحرفية والمجوهرات العادية. لهذا كثفت جهودي لكي أوازن بين الاثنين وأقدم لهم قطعا تجمع صفاء الأحجار وجودتها بجمال التصاميم والحرفية، التي لا تحافظ على قوتها الاستثمارية فحسب بل تزيد من قيمتها على مر الزمن».
لكن المشكلة التي واجهتها أنها في عام 2004 لم تكن مشهورة ولم يكن أحد قد سمع باسمها من قبل، ما جعل عملية إغراء الصينيين لدفع أي مبلغ لقاء حصولهم على الحرفية والتفرد، صعبة. «مع الوقت، شعرت بأني إذا واصلت بهذه الطريقة ومحاولة تلبية ما يطلبونه سأتحول إلى مجرد مصممة أو صائغة مجوهرات أخرى».
طبعا لم يكن هذا هو المستقبل الذي كانت تحلم به، لهذا صوبت أنظارها باتجاه شريحة تتذوق الفن وتُقدره. تشرح: «بعت بعض ممتلكاتي لكي أمول ما أومن به، وفي عام 2007 حالفني الحظ وبيعت قطعة من تصاميمي في المزاد الأمر الذي أثار انتباه العالم إلى مصممة اسمها سيندي تشاو».
رغم أنها تعود بذاكرتها إلى 2004 العام الذي انطلقت فيه، فإن قصتها تبدأ حتى قبل أن ترى النور. فقد وُلدت في وسط يتنفس الفن، بحكم أن جدها، زي زينان، صمم الكثير من المعابد في آسيا، ووالدها أيضا نحات معروف. لهذا تغذت وشبت على فكرة أن الفن، بكل أشكاله، يجب أن يتحدى الزمن وتتوارثه الأجيال، وأن تتعامل مع كل قطعة وكأنها تبني معلما، وهو ما يظهر جليا في مجوهراتها. فهي دائما ثلاثية الأبعاد ومرصعة بأحجار سخية الأحجام من الخارج والداخل، لأنها كما تؤكد لا تريدها أن تكون عادية بقدر ما تطمح أن تكون تحفا تخاطب عشاق الفن ممن يُقدرون الجمال والاستثمار في الوقت ذاته.
لا تُخفي سيندي تشاو أنها كانت ستدرس فن العمارة لولا ممانعة والدتها ورفضها. فالأم سيدة أعمال ناجحة، لم ترق لها فكرة أن تعمل ابنتها في ورشات تقابل فيها عمالا لوحدها. فهذا يتنافى مع مفهوم الأنوثة في آسيا، لهذا دفعتها لدراسة تصميم المجوهرات. وافقت سيندي على مضض، ولم تكن تتوقع أن تقع في حبها وأن تنجح في تطويعها لتُشبع حبها للبناء والنحت من خلال الأحجار الكريمة والمعادن الثمينة عوض الإسمنت والمرمر.
عندما عادت إلى تايبييه في عام 2004. وافتتحت دارها، لم تتأقلم بسرعة مع السوق المحلية وكان بداخلها صوت يصرخ بأن هناك شيئا ينقصها ويحرمها من الرضا الكامل. تعلق: «اكتشفت أنني لا أستمتع بالتعامل مع المجوهرات كبضاعة ومادة استهلاكية، ولم أستطع أن أتقبل أن يُملي علي الزبائن نظرتهم. تذكرت بأن حلمي لم يكن يوما أن أكون مجرد مصممة عادية مثل مئات الفتيات اللواتي دخلن هذا المجال لسبب أو لآخر وبالتالي علي أن أجد متنفسا آخر». وهذا ما حصل في 2007. حين أعادت صياغة أهدافها ومجوهراتها بأشكال فنية تُباع في المزادات ويطلبها المقتنون، حتى في عز الأزمات المالية. تشرح هذا التناقض قائلة: «هناك نوعان من الزبائن: نوعية تريد قطعا تورثها لأجيال قادمة عوض موضة تفقد قيمتها بعد فترة قصيرة، ونوعية تريد أن تُخزن أموالها بطريقة مضمونة والحفاظ عليها تحت النظر، عوض العقارات التي يتذبذب سوقها، والبنوك بسبب انخفاض نسبة الفائدة مقارنة». ولا تنسى أن تشير إلى أن هذه النوعية هي التي تمنحها دفعة قوية للإبداع، لأنها تقدر الاستثمار بنفس القدر الذي تشجع فيه على الابتكار. وتستدل على هذا بآخر «فراشة» أبدعتها، وتطلبت ثلاث سنوات تقريبا لإنجازها. فقد طلب منها أحد عشاق الاقتناء المعروفين، أن تصممها له وأعطاها ياقوتة ضخمة لتكون الأساس الذي تبني عليه تحفته. وعدته سيندي أن تُسلمها له بعد عام ونصف، لكن الفنان بداخلها لم يكن راضيا عن النتيجة، واضطرت لإجراء تعديلات عليها نحو ثلاث مرات قبل أن تسلمها لصاحبها. لكن ليس قبل وقوع مشاحنات بينهما، تتذكر: «كلمني بعد عام تقريبا طالبا القطعة ومُبديا انزعاجه من عدم حصوله عليها في الوقت الذي اتفقنا عليه. لا أنكر أن طريقته صدمتني وكان لا بد أن أشرح له أنني فنانة، ومن المُفترض أنه كعاشق للفن يُقدر أنه لا يخضع لمعايير حسابية صارمة». تتابع ضاحكة: «لن أنسى كيف ارتبك وسارع بالاعتذار قائلا لي خذي وقتك، المهم أن أحصل على قطعة فنية تنال الرضا، وهو ما تحقق له».
وبالفعل وصل رضاه إلى حد أنه كافأها بقبوله أن تعرضها في «بينالي دي أنتيكيير» الأخير، وأن تحكي قصته معها، وهو ما لا يحصل دائما، كون أغلبية المقتنين يفضلون السرية.
بيد أنه من الخطأ القول: إن سيندي تشاو فنانة تعيش في برج عال، بالعكس، فهي تعرف أن الفن لا يُشبع من جوع ولا يمكن الاعتماد عليه وحده، لهذا لا تزال تصمم مجوهرات «عادية» بمفهومها العادي، في خطها «وايت لايبل»، الذي يشكل 60 في المائة من مبيعاتها. «فهو الذي يمول جنوني الفني، والأكسجين الذي يمدني بترف الوقت والإمكانيات لإبداع قطعة فنية من خط (بلاك لايبل) يمكن أن تستغرق سنوات قبل أن تكتمل بشكل أرضى عنه ويعكس طموحاتي ونظرتي الفنية» حسب اعترافها. يمكن القول: إن تصاميمها لـ«وايت لايبل» نسخة أرخص من تصاميم «بلاك لايبل» وتلبي رغبة امرأة تريد قطعة من سيندي تشاو، مع فرق بسيط أنها مصوغة بمعادن وأحجار تختلف معاييرها عن تلك التي تستعملها في خط «بلاك لايبل».
* همسات: جديدها
تشارك سيندي تشاو لأول مرة في معرض «بينالي دي أنتكيير» الباريسي العالمي، وهو حلم راودها لمدة ست سنوات، لهذا كان مهما أن تقدم فيه أجمل ما لديها وتلخص فيه مسيرة 12 عاما، من خلال 12 قطعة ضمن خطها «بلاك لايبل ماستربيس». بعض هذه القطع جديد مثل «روز ريبون» و«فور سيزنز» وبعضها قديم جديد، مثل مجموعة الفراشات التي تعود إليها في كل عام لتصوغها بشكل متجدد. وتربط المصممة تطورها ونضجها الفني بتطور التقنيات التي تستعملها، من حيث استعمالها التيتانيوم الذي يمنحها خفة وزن، ومن حيث الأبعاد الثلاثية التي تستغلها لكي تبدو كل قطعة كأنها حية تتحرك أمامك. ورغم أن التيتانيوم يتطلب حرفية أعلى من تلك التي يتطلبها الذهب بخمسة أضعاف، فإنه المفضل لها حاليا، واستعملته في دبوس «الريش» kaleidoscopic Feather Brooch. ورغم أنها استوحته من دبابيس الشعر المستعملة في القرن الثامن عشر فإن استعمالاته العصرية كثيرة. وتجدر الإشارة إلى أن خفته ليست مكمن جماله الوحيدة، فالأحجار التي تصل إلى 1600 حجر من الماس الأصفر، بكل درجاته، تجعلك تقف مبهورا أمامه لعدة دقائق، تحاول حل لغزه ولا تشبع من تحريك كل ريشة فيه وكأنك أمام اختراع عظيم وليس بروشا.
- تجدر الإشارة إلى أن مجموعة الفراشات، Butterflies أصبحت ماركتها المسجلة، تطرحها بانتظام منذ عام 2008. وطلبات هواة الاقتناء عليها محجوزة لغاية 2020. فالكل يعرف أنها استثمار ويمكن أن تُباع في المزادات العالمية بملايين الدولارات.
- تشمل قلادة The Winter Leaves المأخوذة من تشكيلة «فورسيزونز» مجموعة من أحجار الماس البيضوي الشكل عيار 300 قيراط واستغرق ترصيعها ما لا يقل عن 8 أشهر وأكثر من 10 آلاف ساعة من العمل الهندسي والحرفي، لتخرج كقطعة تزن مكوناتها المعدنية أقل من 40 غرامًا.
- تتميز قلادة Ribbon Necklace بهيكل من قطع الماس على شكل وسادة عيار 76 قيراطًا تتموضع بشكل يبرز تكوينًا يحاكي ربطة العنق. كما تسمح هندستها الهيكلية باستخدام هذه القطعة كدبوس أو قلادة.
سيندي تشاو.. من الصين إلى العالم عبر المزادات والأحجار الكريمة
مشاركتها في «بينالي» باريس.. حلم تنتظره منذ 6 سنوات
سيندي تشاو.. من الصين إلى العالم عبر المزادات والأحجار الكريمة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة