غالبًا ما يتحرك الرجال الناجحون انطلاقًا من حاجتهم إلى التصالح مع آبائهم. ويمكننا معاينة ذلك في افتتاحيات سيرهم الذاتية. على سبيل المثال، كتب باراك أوباما: «قال شخص ما ذات مرة إن كل رجل يحاول طيلة الوقت إما الارتقاء لمستوى توقعات والده، أو التعويض عن الأخطاء التي اقترفها والده، وأعتقد أن هذه الفكرة قد تفسر العلة التي أعانيها».
أما ريتشارد نيكسون فأعرب عن الفكرة ذاتها على نحو أكثر إيجازًا: «ولدت في منزل بناه والدي».
من جانبه، يفتتح الروائي المتخصص في أدب الجاسوسية، جون لو كاريه، كتابه الساحر الجديد الذي يحمل عنوان: «نفق الحمامة»، بالإشارة إلى ذكريات مرافقته والده ذات مرة في مغامرة مقامرة له بمونت كارلو. خلف نادي القمار، كانت توجد أنفاق صغيرة يجري استخدامها في دفع حمام حبيس إلى الخارج باتجاه البحر كي يصطاده ممارسو رياضة الصيد. أما الحمام الذي كان ينجو، فكان «يعود إلى موطن مولده فوق سقف كازينو القمار، حيث كانت الفخاخ ذاتها بانتظاره»، حسبما كتب لو كاريه. وأضاف: «أما السبب وراء هيمنة هذه الصورة على ذهني لفترة طويلة للغاية، فهو أمر قد يكون باستطاعة القارئ التعرف عليه على نحو أفضل مني». ومثل حمامة مجروحة، يمضي لو كاريه في استعراض جراح حياته ويقتفي أثرها وصولاً إلى جراح طفولته. ويرجئ لو كاريه الفصل المعني أساسا بوالده، الذي كان شخصا محتالا، حتى قرب نهاية الكتاب، وسبقه بمجموعة متنوعة من القصص الأخرى، بعضها مرتبط ببعض، والآخر عشوائي. وتأتي النتيجة النهائية مختلفة للغاية عن الشكل التقليدي للسيرة الذاتية، ومع ذلك تحمل نفحات قوية لسيرة ذاتية تتوق لكتابتها يومًا.
وقدمت قصة لو كاريه وعلاقته المعذبة بوالده المحتال، الأساس الذي قامت عليه السيرة التي وضعها آدم سيسمان العام الماضي في 652 صفحة بعنوان: «جون لو كاريه»، والتي تطرقت هي الأخرى لجوانب أخرى من حياة لو كاريه الشخصية. يذكر أن لو كاريه تعاون بشكل كامل مع سيسمان، لكن من الواضح أنه لم يكن راضيًا عن الكشف بدرجة كبيرة عن حياته الخاصة. وبعد أيام قلائل من نشر سيرته الذاتية، أعلن لو كاريه أنه سيتولى كتابة سيرته الذاتية بنفسه، الأمر الذي قد يفسر لماذا تبدو بعض أجزاء «نفق الحمامة» كأنه جرى تجميعها على عجل.
وحسبما يشرح لو كاريه في المقدمة، فإن «سيرة نشرت مؤخرًا عن حياتي تعرض نسخا موجزة من قصة أو قصتين بحياتي، لذا من الطبيعي أن أشعر بالسعادة لاستعادة هذه القصص وسردها بصوتي وبث أكبر قدر ممكن من مشاعري بها».
من ناحية أخرى، من الواضح أن طفولة لو كاريه وعلاقته مع والده هيأته بشكل جيد للانضمام إلى الاستخبارات البريطانية لاحقًا في حياته، الأمر الذي تحقق بمجرد تخرجه في الجامعة. وعن هذا، كتب قائلاً: «التحايل والخداع كانا السلاحين الأساسيين بالنسبة لي خلال الطفولة. وعندما جاء عالم الاستخبارات ليضمني إليه، شعرت كأنني أعود لوطني».
وبالمثل، شعر لو كاريه بتأقلم بالغ مع مسألة العيش في ظل اسم مستعار.
ورغم أن اسمه الحقيقي ديفيد كورنويل، فإنه أثناء عمله في ألمانيا عميلا للاستخبارات البريطانية، بدأ في نشر مؤلفات له تحت اسم جون لو كاريه. وقد أعرب عن اعتقاده بأن «التجسس وتأليف الروايات أمرين خلقا ليكونا معًا، فكلاهما يتطلب قدرًا كبيرًا من الاستعداد لرصد الطرق الكثيرة للخيانة».
وبفضل النجاح الذي حققته روايته «الجاسوس الذي جاء من البرد» التي نشرها عام 1963، تمكن لو كاريه من اعتزال عالم الاستخبارات والتحول إلى كاتب من الدرجة الأولى لروايات الجاسوسية في العصر الحالي.
وتدور أحداث رواياته الـ23 في أرجاء مدن ومناطق متنوعة ما بين بريمين وبيروت وبانكوك.
وبوجه عام، تخلص أعماله إلى درسين أساسيين؛ أولهما: يتضاءل الوضوح الأخلاقي نتيجة الفهم المتعمق. وعن ذلك، قال: «كلما أمعنت في البحر بحثا عن المطلق، تراجعت احتمالات عثورك عليه». ثانيًا: تعمل وكالات الاستخبارات بمثابة نافذة على الروح المميزة للمجتمعات التي تمثلها، الأمر الذي شرحه بقوله: «إذا كنت روائيًا تحاول سبر أغوار ضمير أمة ما، فإن الاستخبارات مكان مناسب للبدء منه».
* خدمة «نيويورك تايمز»