حين كان أحد المواطنين يتجول في موقع «المقر» القريب من محافظة وادي الدواسر، وسط السعودية، اكتشف آثارًا ورسومات على الصخور، فسارع إلى إبلاغ الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني. ومنذ ذلك الوقت، تحول الموقع إلى واحد من أهم الأماكن الأثرية في أوساط المراكز البحثية العالمية المتخصصة في الآثار والتاريخ.
وأظهرت الكشوفات الأثرية الأخيرة في الموقع شواهد لحضارة إنسانية متقدمة جدًا، من فترة العصر الحجري الحديث، شهدتها هذه المنطقة قبل 9 آلاف سنة، وعثر فيها على آثار تبرز أقدم استئناس للخيل في التاريخ.
وتتميز المنطقة التي تعد امتدادًا لصحراء نجد بتضاريس خاصة، حيث تمثل نقطة التقاء هضبة نجد بأطراف المرتفعات الشرقية، ولذلك تنتشر فيها تكوينات جبلية قليلة الارتفاع تتخللها أودية.
ويخترق الموقع وادٍ كان في الأصل نهرًا جاريًا ينحدر باتجاه الغرب، مشكلاً شلالاً كبيرًا يصب في الأراضي المنخفضة الواقعة إلى الغرب من الموقع، ويوجد الموقع على ضفتي هذا النهر.
وعاش الإنسان في هذا المكان قبل التصحر الأخير، أو خلال فترة التحولات المناخية التي انتهت بانتشار التصحر في المنطقة، ولعل تلك التحولات هي سبب استقرار الإنسان في هذا المكان. كما مارس سكان هذا المكان الزراعة وتربية الحيوانات، وتنتشر على سطح الموقع مواد أثرية متنوعة من الأدوات الحجرية التي تشمل رؤوس السهام والمكاشط دقيقة الصنع من الأنواع التي استخدمها الإنسان في فترة العصر الحجري الحديث.
وباشرت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني استكشاف الموقع، والبحث فيه، في شهر ربيع الثاني عام 1431 هـ / مارس 2010.
وعثر الفريق الاستكشافي بالموقع على أشكال لحيوانات متعددة استأنسها الإنسان، واستخدم بعضها الآخر في نشاطاته وحياته اليومية، ومن هذه الحيوانات: الضأن والماعز والنعام، والكلب السلوقي، والصقر، والسمك والخيل.
وتدل المواد الأثرية الموجودة في الموقع على أن فترة العصر الحجري الحديث هي الفترة الأخيرة التي عاش فيها الإنسان في هذا المكان (9 آلاف سنة قبل الوقت الحاضر)، وإليها يعود تاريخ الأدوات الحجرية التي تم التقاطها من سطح الموقع.
ولتأكيد تاريخ الموقع، أخذ الفريق البحثي 4 عيّنات من المواد العضوية المحروقة من طبقات الموقع الأثرية، وأرسلوها إلى أميركا لتحليلها في معامل خاصة بتحليل الكربون 14، لمعرفة تاريخ الموقع، وجاءت تواريخ العينات في بداية الألف التاسع قبل الوقت الحاضر.
وجرى تحديد التاريخ باستخدام تحليل درجة الكربون المشع، المعروف بتحليل كربون 14 (C14)، وهي تقنية تعتمد على قياس نسبة تقلص الكربون المشع في المادة العضوية عبر الزمن، كما أجري الفحص على 4 عينات عضوية (عظام) مختلفة جمعت من أنحاء متفرقة من الموقع، وأعطت جميعها تواريخ متوافقة، حيث تراوحت العينات الأربع في تاريخها ما بين 8110 إلى 7900 سنة قبل الوقت الحاضر.
وتوجد قرب الموقع مواقع أخرى أقدم تاريخًا يمكن نسبتها إلى العصر الحجري الوسيط.
أشكال فريدة للخيل
ويعد وجود أشكال كبيرة الحجم للخيل في هذا الموقع، مقترنة بمواد أثرية من العصر الحجري الحديث يرجع تاريخها إلى 9 آلاف سنة، اكتشافًا أثريًا مهمًا على المستوى العالمي، إذ إن آخر الدراسات حول استئناس الخيل تشير إلى حدوث هذا الاستئناس لأول مرة في أواسط آسيا (كازاخستان) منذ 5500 سنة. وهذا الاكتشاف يؤكد أن استئناس الخيل تم على الأراضي السعودية في قلب الجزيرة العربية قبل هذا التاريخ بزمن طويل.
ويقارب طول أحد أشكال الخيل التي وجدت بالموقع 100 سنتمتر، وهو يمثل الرقبة والصدر، ولم يعثر من قبل على أشكال حيوانات بهذا الحجم في أي موقع آخر في العالم من هذه الفترة نفسها، وما عثر عليه في تركيا والأردن وسوريا لا يعدو أن يكون تماثيل صغيرة الحجم، ومن فترة متأخرة عن هذا التاريخ، وليست للخيل.
ويحمل شكل الخيل الكبير الذي وجد بالموقع ملامح الخيل العربية الأصيلة، ويبدو ذلك واضحًا في طول الرقبة وشكل الرأس، ويوجد على رأس الخيل السابق الذكر شكل واضح لِلِجَام يلتف على رأسها، مما يشكل دليلاً قاطعًا على استئناس الخيل من قبل سكان هذا الموقع في تلك الفترة المبكرة.
وصنعت هذه الأشكال من نوع الصخر المتوفر بالموقع الذي يُرى في أماكن عدّة بالمكان في الوقت الحاضر، ويبدو أن هذه الأشكال كانت مثبتة في بناء يتوسط الموقع على الضفة الجنوبية للنهر قبل مصبّه في الشلال، وربما كان لهذا البناء دور رئيسي في الحياة الاجتماعية لسكان الموقع.
حصن وأنوال نسيج
ويوجد بموقع «المقر» حصن كبير الحجم مبني بالحجارة فوق تكوين جبلي يشرف على الموقع من جهة الشرق، وعلى الأراضي المنخفضة التي يصب فيها الشلال من جهة الغرب، وتوجد بداخل هذا الحصن حجرات مربعة ووحدات بنائية متعددة.
وإضافة إلى الأدوات الحجرية ورؤوس السهام، عثر بالموقع على مساحن لسحق الحبوب، ونجر حجري، وثقالات تستخدم في أنوال النسيج، وبكرات للغزل والنسيج، وجزء من إناء حجر صابوني يحمل زخرفة هندسية بالحز، وأدوات حجرية لمعالجة الجلود، وتؤكد هذه الأدوات على وجود معرفة ومهارة حرفية متقدمة جدًا لدى سكان هذا الموقع.
وعول ونعام وصيد بالكلاب
وتوجد على الصخور المجاورة للموقع رسوم صخرية من فترة سكنى الموقع، رسمت فيها بالحز صور وعول ونعام وحيوانات أخرى، وأشكال آدمية، كما تعرض إحداها صورة فارس على صهوة جواد، وأخرى لصيد الوعول بالكلاب السلوقية، حيث تحيط 5 من الكلاب بوعل في شكل دائرة. وهذه الرسوم الصخرية اكتسبت طبقة عتق داكنة جدًا، وقريبة من اللون الأسود لتقدم تاريخها، مما يؤكد أنها نفذت خلال فترة استخدام الموقع، كما وجدت رسوم صخرية أخرى لخيول وأشكال آدمية على ألواح حجرية بين أنقاض المبنى الرئيسي الذي يتوسط الموقع.
ويزيد عدد المواد الأثرية التي جمعت من سطح الموقع على الثمانين قطعة، وهي تشير إلى حضارة إنسانية متقدمة جدًا من فترة العصر الحجري الحديث شهدتها هذه المنطقة قبل 9 آلاف سنة، وتعد هذه الحضارة ثورة حقيقية في معرفة الإنسان ومدنيته وتطور مهاراته الحرفية.
وكاستنتاج أولي، توقع فريق الباحثين انتشار هذه الحضارة التي أطلق عليها مسمى «حضارة المقر»، نسبة إلى اسم المكان الذي وجدت فيه، داخل وخارج الجزيرة العربية، وهو أمر ستكشف عنه الدراسات والأعمال الميدانية المستقبلية، والدراسات المقارنة مع المواقع الأخرى داخل الجزيرة العربية وخارجها.
وأوضحت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني أن العمل يجري على تشكيل فريق علمي يشترك فيه عدد من الباحثين الدوليين للقيام بالبحث والتنقيب في هذا الموقع، والكشف عن مزيد من أسرار هذه الحضارة.
وأكد الدكتور علي الغبان، نائب رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، المشرف على برنامج خادم الحرمين الشريفين للعناية بالتراث الحضاري، أن موقع «المقر» يعد منجمًا مهمًا للمعلومات التاريخية حول حضارات وسط الجزيرة العربية، مشيرًا إلى أن البحث الدقيق سيستمر في الفترة المقبلة «لإيماننا أن هناك مجموعة كبيرة من الآثار التي حتما ستغير - وتضيف - من تاريخ الحضارة في الجزيرة العربية».
وأوضح الغبان أن الهيئة باشرت استكشاف الموقع بعد بلاغ تلقته من أحد المواطنين في شهر ربيع الآخر من عام1431هـ، وشكلت هيئة السياحة فريقًا علميًا شارك فيه مسؤولو الهيئة وباحثون سعوديون وعرب ودوليون مختصون في علم الآثار وفترة ما قبل التاريخ، وبينت نتائج فحوص الحامض النووي DNA واختبارات «كربون 14 المتخصصة»، أن الشواهد والمواد الأثرية التي عثر عليها في الموقع تعود إلى حضارة إنسانية متقدمة جدًا من فترة العصر الحجري الحديث شهدتها هذه المنطقة قبل 9 آلاف سنة.
وقال إن استكشاف هذه الحضارة يعد إضافة مهمة في مجال معرفة الإنسان ومدنيته وتطور مهاراته الحرفية، كما تكشف المواد الأثرية أن استئناس الخيل تم لأول مرة على أرض الجزيرة العربية قبل أكثر من 9 آلاف سنة، بينما كانت الدراسات السابقة تشير إلى حدوث هذا الاستئناس في أواسط آسيا منذ 5 آلاف سنة، كما أن القيمة الأثرية للشواهد والقطع التي عثر عليها، والتي تزيد عددها على 80 قطعة، تمثل أنموذجًا فريدًا من حيث أحجامها وتنوعها والدقة في تنفيذها.
وأوضح الغبان أن تماثيل الخيل التي عثر عليها نادرة من حيث الحجم ومهارة الحفر، مشيرًا إلى عدم العثور على مثيلاتها في العالم كله، مما يبين أن هذا الموقع سيكون ملهمًا للباحثين عن حضارة الجزيرة العربية، وعلاقة الإنسان بالحيوان في الفترات الماضية، وأن جميع الآثار المكتشفة في الموقع يعود تاريخها إلى 9 آلاف سنة.
ولفت إلى ملاحظة الباحثين إتقان فنون النسيج والصناعات الجليدية والزخارف الهندسية، مما يظهر رموز الثقافة العربية الأصيلة، واهتمام سكان المنطقة بالفروسية والصقارة عن طريق تماثيل الصقور التي بدت غاية في الجمال.
عرض الاكتشاف في دول العالم
ونظرًا لأهمية هذا الاكتشاف، عرض الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز، رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، والفريق العلمي السعودي المشارك في الاكتشاف، نتائج التنقيب على الملك عبد الله بن عبد العزيز - رحمه الله - بقصر الصفا، بمكة المكرمة، في شهر رمضان 1432هـ | أغسطس (آب) 2011، حيث شاهد عرضًا للاكتشاف الأثري الذي عثر عليه في موقع «المقر»، كما اطلع على عدد من المواد الأثرية التي تشير إلى أن الموقع يعد أقدم موقع تم اكتشافه حتى الآن لاستئناس الخيل في العالم، كما تبرز النشاطات الحضارية التي مارسها سكان المنطقة في فترة العصر الحجري الحديث.
ووجه الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز بعرض هذا الاكتشاف الأثري في عدد من الدول ليطلع عليه العالم.
كما زار الأمير سلطان بن سلمان موقع «المقر»، والتقى بعض المواطنين من سكان المنطقة، وشكرهم على إسهامهم بالمحافظة على المواقع الأثرية في المنطقة، وحمايتها من التعدي أو السرقة أو النقل غير المشروع لها، وأشار إلى أن ذلك يمثل صورة حقيقية للشراكة الفاعلة بين الهيئة العامة للسياحة والآثار والمواطنين في مجال المحافظة على آثارنا وحمايتها، مؤكدًا أهمية الوعي المتزايد لدى المواطنين بأهمية الحفاظ على مكتسبات السعودية الأثرية التي تبرز مكانتها التاريخية والحضارية، وتنامي شعور المواطنين بأهمية المحافظة على هذه الثروة التي تعد ملكية عامة للدولة، ويمنع النظام من تملكها أو حيازتها أو التعدي عليها.