«ما لا تتمناه لنفسك لا تفعله للآخرين»، و«العلم الحقيقي يكون عندما تدرك مدى جهلك»، و«لا بد أن تُعلم عامة الشعب بدلاً من إخضاعهم»، و«عندما تدرك عجزك عن الوصول إلى أهدافك لا تغير هذه الأهداف بل عدّل خطواتك»، و«هناك ثلاث وسائل لتعلم الحكمة: الأولى من خلال التأمل وهي الأنبل، والثانية من خلال التقليد وهي الأسهل، والثالثة بالتجربة وهي الأمرّ»، و«في الدولة التي تُحكم بشكل جيد يصبح الفقر يصبح شيئًا مخجلاً، وفي الدولة التي تحكم بشكل سيئ يكون الغنى شيئًا مخجلاً»، و«إذا فكرت في معيار زمن قدره سنة فازرع بذرة، وفي معيار زمن قدره عشر سنوات فاغرس شجرة، وفي معيار زمن قدره مائة سنة فعلم الناس»، و«إن المجد الحقيقي ليس في تفادي الكبوات، بل في النهوض من كل كبوة تقع فيها».
بهذه العبارات وغيرها خلّد الحكيم كونفوشوس اسمه في تاريخ البشرية. ولكن من هو هذا الحكيم الذي نسمع عنه كثيرًا عندما نتعرض لتاريخ الفلسفة أو لتاريخ الصين العظيم؟
تشير التقديرات إلى أن كونفوشيوس وُلِد بمقاطعة زو في الصين قرابة 551 قبل الميلاد، وكان والده محاربًا قويًا طويلاً عريض المنكبين كافأه الملك بتوليه إدارة قرية نظير خدماته لملكه. ولقد أنجبت زوجة هذا المحارب تسع بنات، بينما كان حلم الرجل أن يُرزق بولد ذكر يخلفه، إلا أن هذا الحلم لم يتحقق إلا من خلال إحدى عشيقاته التي حملت منه سفاحًا وأنجبت صبيًا سماه «كونفو دزيه» وهو الاسم الذي حرّف فيما بعد في اللغة اللاتينية إلى «كونفوشيوس». ووفق معظم الروايات كان هذا الطفل قبيحًا منفرًا لكل من رآه، ومع ذلك فإن العظمة لم تُقَس يومًا بالشكل، بل بعظمة الروح والعقل.
تربى هذا الطفل يتيمًا على يدي أمه التي اضطرت لمواجهة حياة قاسية في تنشئته بعدما رفضت أسرة زوجها احتضانها وإياه، فاضطرت بعد فترة إلى ترك المدينة حيث كانا يقيمان. وفي هذه الأثناء يقال إن الطفل نشأ على القراءة والكتابة وتعلم الحكمة والتاريخ والفلسفة الصينية، إضافة إلى العلوم الأخرى التي استطاع أن يحصّلها ويتقنها. وهكذا شب فتى جيد الاطلاع وذكيًا وكان قائدًا روحيًا منذ صباه، إلا أن القدر لم يمهل أمه كثيرًا، إذ توفِّيت ونعاها ابنها بحزن عميق وبدأ يواجه حياته وحيدًا.
مع هذا، سرعان ما بدأ «كونفو دزيه» (أو كونفوشيوس) يؤسس مدرسته الخاصة التي أصبحت فيما بعد مركز جذب لكثيرين من أولاد العامة والأثرياء على حد سواء، وكان يدرّس فيها فلسفته التي أدركها بالتأمل والقراءة والتاريخ.
لقد بنيت فلسفة كونفوشيوس على أفكار بسيطة عملية، لكنها كانت ذات قيمة عالية للغاية، إذ ركز الرجل على فكرة الالتزام الذاتي وحب الآخرين وتأمل الحياة والطبيعة ليعيش الإنسان في وئام معها ويدرك قيمتها ويسعد بها. كذلك شدد على أهمية التعليم كأساس للمواطن الصالح أيًا كانت طبقته، معتبرًا أن في التعليم وسيلة الارتقاء الأساسية للإنسان سواء في الحكم أو إدارة الحياة والأسرة أو أي منحى آخر. وكان يرى أن من شأن العلم التأسيس لإنسان سويّ، ويحرص في تعاليمه على أهمية الرقي بالإنسان كخطوة أولى نحو الرقي بالأسرة، ومنها إلى المجتمع والدولة ككل، ثم العالم أجمع. وثمّن كونفوشيوس أيضًا على الصفاء الروحي لدى الفرد الذي يستطيع أن يستقيه مما هو حوله من جمال شريطة أن يفهم هذا العالم المادي من حوله.
أما فلسفته السياسية فكانت تتركز حول الفضيلة، إذ كان يرى أن الحاكم لا بد أن يتمتع بالفضيلة ويكون مثالاً للرعية، ويرى أن الحكم الرشيد يكون من خلال نشر الحكمة والفضيلة بدلاً من العقاب، فالأخلاقيات كانت مركز فلسفته سواء السياسية أو الاجتماعية أو الفردية.
ظهرت فلسفة كونفوشيوس بينما كانت الصين تعاني من التفتت السياسي والاجتماعي بفقدان الوحدة السياسية نتيجة صراع الزعماء المتنافرين الذين قلصوا السلطة المركزية في البلاد. وهكذا، آلت السلطة إلى الإقطاعيين الأقوياء، فانتشر الفقر والمرض والجهل كنتيجة طبيعية، وكان الرجل على قناعة تامة بأن أفضل وسيلة لنشر فلسفته تتأتى من خلال تبوئه منصب مستشار للحاكم، كما حدث، أو أن يحكم بنفسه لينشر فلسفته بين العامة، وهو ما لم يتحقق.
ذلك أنه بعدما جرى تقريبه من الحاكم سرعان ما انتشرت حوله الدسائس، اضطر كونفوشيوس إلى النفي الطوعي متجولاً في غرب الصين لنحو 14 سنة، نشر خلالها فكره حيثما حلّ، وسط حوارييه الذين أحبوه حبًا شديدًا وارتبطوا بفكره ارتباطًا أشد، حتى إنه يقال إن الرجل لم يتغلب أبدًا على وفاة أفضل حوارييه عندما مات في الأربعينات من عمره، وظل متأثرًا بوفاته.
واستمر كونفوشيوس على هذا الحال حتى استطاع أحد حوارييه أن يقنع الحاكم العام بمنحه إدارة مدينة (أو ولاية) استطاع أن يفرض فيها حكمته وتعاليمه فأصبحت تدين له بالولاء التام. ويُقال إن خلال فترة حكمه شهدت المدينة انتشار العدل والأمان واختفت السرقة وانتشرت الفضيلة، بيد أن النفوس المريضة ظلت من وراء الستار تحرض الحاكم العام عليه حتى عزله.
عاد كونفوشيوس بعد هذه التجربة إلى مسقط رأسه وهو في السابعة والستين من عمره، حيث استأنف نشاطه التعليمي، إلا أنه كان منهكًا، كما لم يكن على وئام مع حاله، إذ اعتبر أن رسالته لم تكتمل حتى إنه يقال إنه خلال سكرات الموت استفسر ممن حوله عما إذا كان هناك أي والٍ أو حاكم يريد أن يتعلم من فلسفته. فلقد ظن الرجل أن حكمته ذهبت هباءً، لكن الحقيقة أنها عاشت بشكل كبير في وجدان حوارييه وتلاميذه، وفي سيرته، حتى قرون لاحقة عندما جرى تجميعها في كتب نسبت إليه خصوصًا كتاب «التحليلات» (Analects) وغيره، وشابهت إلى حد كبير «حوارات أفلاطون» التي أوردت حكمة الفيلسوف سقراط، مع العلم أن الأخير - أي سقراط - لم يدون أي كتاب بعكس تلاميذه وحوارييه.
حقيقة الأمر أن مسيرة حياة هذا الرجل الزاهد العظيم لم تكن خالية من المآسي، شأنه شأن أغلب المُصلحين الاجتماعيين أو السياسيين أو الفلاسفة القدامى. كذلك لم تلقَ تعاليم كونفوشيوس الاهتمام المستحق إبان حياته، ولذا توفِّي وهو يشعر بأنه فشل في مشروع عمره.. ألا وهو الارتقاء بحال الشعب عامةً، بطبقاته العليا والدنيا وحكامه على حد سواء، وإن كانت تجربة هذا الحكيم العظيم قد أثبتت أمرين أساسيين:
- الأول، تأكيد التجربة الإنسانية التي تشير في أغلبها إلى أن العامة (وأيضًا الخاصة غالبًا) لا تدرك قيمة الأفكار والحكمة وعمقها وخطورتها إلا بعد زوال الداعي إليها بزمن، وعندها يندم المرء على ما فاته دون أن يدرك قيمته في حاضره.
- الثاني أن تجربة كونفوشيوس أكدت أن نشر الحكمة والفضيلة لا يتطلب السلطة السياسية، مع أنها تمثل عاملاً مساعدًا في مثل هذه الأمور. فهو توفي من دون أن يحظى بالسلطة السياسية، ولكنه لم يدرك أن سلطة الكلمة والحكمة ستكون على المدى الطويل أقوى وأكثر تأثيرا من سلطة السيف المؤقتة، وهذه سنة الحياة لكل متأمل.
من التاريخ: حياة كونفوشيوس
من التاريخ: حياة كونفوشيوس
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة