من التاريخ: حياة كونفوشيوس

من التاريخ: حياة كونفوشيوس
TT

من التاريخ: حياة كونفوشيوس

من التاريخ: حياة كونفوشيوس

«ما لا تتمناه لنفسك لا تفعله للآخرين»، و«العلم الحقيقي يكون عندما تدرك مدى جهلك»، و«لا بد أن تُعلم عامة الشعب بدلاً من إخضاعهم»، و«عندما تدرك عجزك عن الوصول إلى أهدافك لا تغير هذه الأهداف بل عدّل خطواتك»، و«هناك ثلاث وسائل لتعلم الحكمة: الأولى من خلال التأمل وهي الأنبل، والثانية من خلال التقليد وهي الأسهل، والثالثة بالتجربة وهي الأمرّ»، و«في الدولة التي تُحكم بشكل جيد يصبح الفقر يصبح شيئًا مخجلاً، وفي الدولة التي تحكم بشكل سيئ يكون الغنى شيئًا مخجلاً»، و«إذا فكرت في معيار زمن قدره سنة فازرع بذرة، وفي معيار زمن قدره عشر سنوات فاغرس شجرة، وفي معيار زمن قدره مائة سنة فعلم الناس»، و«إن المجد الحقيقي ليس في تفادي الكبوات، بل في النهوض من كل كبوة تقع فيها».
بهذه العبارات وغيرها خلّد الحكيم كونفوشوس اسمه في تاريخ البشرية. ولكن من هو هذا الحكيم الذي نسمع عنه كثيرًا عندما نتعرض لتاريخ الفلسفة أو لتاريخ الصين العظيم؟
تشير التقديرات إلى أن كونفوشيوس وُلِد بمقاطعة زو في الصين قرابة 551 قبل الميلاد، وكان والده محاربًا قويًا طويلاً عريض المنكبين كافأه الملك بتوليه إدارة قرية نظير خدماته لملكه. ولقد أنجبت زوجة هذا المحارب تسع بنات، بينما كان حلم الرجل أن يُرزق بولد ذكر يخلفه، إلا أن هذا الحلم لم يتحقق إلا من خلال إحدى عشيقاته التي حملت منه سفاحًا وأنجبت صبيًا سماه «كونفو دزيه» وهو الاسم الذي حرّف فيما بعد في اللغة اللاتينية إلى «كونفوشيوس». ووفق معظم الروايات كان هذا الطفل قبيحًا منفرًا لكل من رآه، ومع ذلك فإن العظمة لم تُقَس يومًا بالشكل، بل بعظمة الروح والعقل.
تربى هذا الطفل يتيمًا على يدي أمه التي اضطرت لمواجهة حياة قاسية في تنشئته بعدما رفضت أسرة زوجها احتضانها وإياه، فاضطرت بعد فترة إلى ترك المدينة حيث كانا يقيمان. وفي هذه الأثناء يقال إن الطفل نشأ على القراءة والكتابة وتعلم الحكمة والتاريخ والفلسفة الصينية، إضافة إلى العلوم الأخرى التي استطاع أن يحصّلها ويتقنها. وهكذا شب فتى جيد الاطلاع وذكيًا وكان قائدًا روحيًا منذ صباه، إلا أن القدر لم يمهل أمه كثيرًا، إذ توفِّيت ونعاها ابنها بحزن عميق وبدأ يواجه حياته وحيدًا.
مع هذا، سرعان ما بدأ «كونفو دزيه» (أو كونفوشيوس) يؤسس مدرسته الخاصة التي أصبحت فيما بعد مركز جذب لكثيرين من أولاد العامة والأثرياء على حد سواء، وكان يدرّس فيها فلسفته التي أدركها بالتأمل والقراءة والتاريخ.
لقد بنيت فلسفة كونفوشيوس على أفكار بسيطة عملية، لكنها كانت ذات قيمة عالية للغاية، إذ ركز الرجل على فكرة الالتزام الذاتي وحب الآخرين وتأمل الحياة والطبيعة ليعيش الإنسان في وئام معها ويدرك قيمتها ويسعد بها. كذلك شدد على أهمية التعليم كأساس للمواطن الصالح أيًا كانت طبقته، معتبرًا أن في التعليم وسيلة الارتقاء الأساسية للإنسان سواء في الحكم أو إدارة الحياة والأسرة أو أي منحى آخر. وكان يرى أن من شأن العلم التأسيس لإنسان سويّ، ويحرص في تعاليمه على أهمية الرقي بالإنسان كخطوة أولى نحو الرقي بالأسرة، ومنها إلى المجتمع والدولة ككل، ثم العالم أجمع. وثمّن كونفوشيوس أيضًا على الصفاء الروحي لدى الفرد الذي يستطيع أن يستقيه مما هو حوله من جمال شريطة أن يفهم هذا العالم المادي من حوله.
أما فلسفته السياسية فكانت تتركز حول الفضيلة، إذ كان يرى أن الحاكم لا بد أن يتمتع بالفضيلة ويكون مثالاً للرعية، ويرى أن الحكم الرشيد يكون من خلال نشر الحكمة والفضيلة بدلاً من العقاب، فالأخلاقيات كانت مركز فلسفته سواء السياسية أو الاجتماعية أو الفردية.
ظهرت فلسفة كونفوشيوس بينما كانت الصين تعاني من التفتت السياسي والاجتماعي بفقدان الوحدة السياسية نتيجة صراع الزعماء المتنافرين الذين قلصوا السلطة المركزية في البلاد. وهكذا، آلت السلطة إلى الإقطاعيين الأقوياء، فانتشر الفقر والمرض والجهل كنتيجة طبيعية، وكان الرجل على قناعة تامة بأن أفضل وسيلة لنشر فلسفته تتأتى من خلال تبوئه منصب مستشار للحاكم، كما حدث، أو أن يحكم بنفسه لينشر فلسفته بين العامة، وهو ما لم يتحقق.
ذلك أنه بعدما جرى تقريبه من الحاكم سرعان ما انتشرت حوله الدسائس، اضطر كونفوشيوس إلى النفي الطوعي متجولاً في غرب الصين لنحو 14 سنة، نشر خلالها فكره حيثما حلّ، وسط حوارييه الذين أحبوه حبًا شديدًا وارتبطوا بفكره ارتباطًا أشد، حتى إنه يقال إن الرجل لم يتغلب أبدًا على وفاة أفضل حوارييه عندما مات في الأربعينات من عمره، وظل متأثرًا بوفاته.
واستمر كونفوشيوس على هذا الحال حتى استطاع أحد حوارييه أن يقنع الحاكم العام بمنحه إدارة مدينة (أو ولاية) استطاع أن يفرض فيها حكمته وتعاليمه فأصبحت تدين له بالولاء التام. ويُقال إن خلال فترة حكمه شهدت المدينة انتشار العدل والأمان واختفت السرقة وانتشرت الفضيلة، بيد أن النفوس المريضة ظلت من وراء الستار تحرض الحاكم العام عليه حتى عزله.
عاد كونفوشيوس بعد هذه التجربة إلى مسقط رأسه وهو في السابعة والستين من عمره، حيث استأنف نشاطه التعليمي، إلا أنه كان منهكًا، كما لم يكن على وئام مع حاله، إذ اعتبر أن رسالته لم تكتمل حتى إنه يقال إنه خلال سكرات الموت استفسر ممن حوله عما إذا كان هناك أي والٍ أو حاكم يريد أن يتعلم من فلسفته. فلقد ظن الرجل أن حكمته ذهبت هباءً، لكن الحقيقة أنها عاشت بشكل كبير في وجدان حوارييه وتلاميذه، وفي سيرته، حتى قرون لاحقة عندما جرى تجميعها في كتب نسبت إليه خصوصًا كتاب «التحليلات» (Analects) وغيره، وشابهت إلى حد كبير «حوارات أفلاطون» التي أوردت حكمة الفيلسوف سقراط، مع العلم أن الأخير - أي سقراط - لم يدون أي كتاب بعكس تلاميذه وحوارييه.
حقيقة الأمر أن مسيرة حياة هذا الرجل الزاهد العظيم لم تكن خالية من المآسي، شأنه شأن أغلب المُصلحين الاجتماعيين أو السياسيين أو الفلاسفة القدامى. كذلك لم تلقَ تعاليم كونفوشيوس الاهتمام المستحق إبان حياته، ولذا توفِّي وهو يشعر بأنه فشل في مشروع عمره.. ألا وهو الارتقاء بحال الشعب عامةً، بطبقاته العليا والدنيا وحكامه على حد سواء، وإن كانت تجربة هذا الحكيم العظيم قد أثبتت أمرين أساسيين:
- الأول، تأكيد التجربة الإنسانية التي تشير في أغلبها إلى أن العامة (وأيضًا الخاصة غالبًا) لا تدرك قيمة الأفكار والحكمة وعمقها وخطورتها إلا بعد زوال الداعي إليها بزمن، وعندها يندم المرء على ما فاته دون أن يدرك قيمته في حاضره.
- الثاني أن تجربة كونفوشيوس أكدت أن نشر الحكمة والفضيلة لا يتطلب السلطة السياسية، مع أنها تمثل عاملاً مساعدًا في مثل هذه الأمور. فهو توفي من دون أن يحظى بالسلطة السياسية، ولكنه لم يدرك أن سلطة الكلمة والحكمة ستكون على المدى الطويل أقوى وأكثر تأثيرا من سلطة السيف المؤقتة، وهذه سنة الحياة لكل متأمل.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».