ظهر نجم الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك Zizek في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، حين بدأت أعماله الفلسفية تتخذ مكانها في الخطاب الفلسفي الأوروبي، وتحوله إلى نجم في المحافل الأكاديمية والثقافية العامة، يعبر من خلالها عن رؤى ماركسية تمتزج فيها أفكار هيغل وجاك لاكان مع أطروحاته الغريبة والاستفزازية أحيانًا، ولكن العميقة غالبًا تجاه معظم القضايا المطروحة ليس على ساحات الحوار الفلسفي فحسب وإنما على الساحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فجيجيك مثقف مناضل، وإن على مستوى أقل حدة ربما من نعوم تشومسكي مثلاً، مع أنه يبدو أكثر لفتًا للانتباه من المفكر الأميركي ومن كثيرين بالتيشيرت وفرط الحركة وطريقة الكلام والهيئة العامة الأقرب إلى هيئة الهبيين، ولكن بنجومية تقربه من نجوم البوب وتجعله سوبر ستار، إلفيس برسلي الفلسفة كما سماه البعض، بين فلاسفة تتسم أساليبهم بالهدوء وشخصياتهم بسمة الحكمة والمظهر المقبول.
ولد جيجيك عام 1948 وتعلم في سلوفينيا اليوغوسلافية، ويشير في حديثه عن نفسه إلى شاب نشأ بتوجهات معارضة للسائد السياسي والآيديولوجي. تقدم للحصول على الماجستير في جامعة لوبليانا، عاصمة سلوفينيا والمدينة التي تعلم فيها، إلا أن رسالته رفضت، لأنها لم تكن ماركسية الرؤية والمنهج فأبعد عن الجامعة. لكن خروجه، كما يقول عنه، كان نعمة خفية حولته إلى أستاذ ومفكر تسعى له الجامعات ومنها الجامعة التي أبعدته، حيث يعمل حاليًا فيها برتبة باحث متميز في معهد علم الاجتماع، إضافة إلى تعيينه «أستاذا عالميًا متميزًا للألمانية» في جامعة نيويورك، وإلى جانب كونه مدير معهد الإنسانيات في جامعة لندن. غير أن نزعته للمعارضة في مقاربة السائد من الآيديولوجيات وإعادة النظر في المستقر من المفاهيم لا تزال تمنحه اختلافه وتجتذب إليه الجمهور، حيث ذهب وإن لم تخل سبيله من ألوان الرفض والقيود التي يعرفها ويتحدث عنها.
في مناظرة جمعته بآلان باديو في فيينا عام 2004 ونشرت تحت عنوان «الفلسفة حاليًا»، عبر جيجيك عن جملة من الآراء تجاه قضيتين من القضايا المطروحة هما الديمقراطية وحرية التعبير. ومع أن القضيتين متداخلتان في طرحه لهما فإنه يتناول كل واحدة على حدة. الديمقراطية تأتي في سياق ما يشير إليه بـ«موضوعي الحقيقي»: «لكنني أود العودة مرة أخرى إلى موضوعي الحقيقي. كما رأينا، كل المبالغات تبدو مسموحًا بها. لكن حاول فقط أن تلمس وثن الديمقراطية وانظر ماذا يحدث». وبعد أن يتساءل عن معنى الديمقراطية وكيف تعمل يعمد إلى أحد محددات ذلك المفهوم، وهو أن الديمقراطية «من الناس وإلى الناس»، ليشكك في المفهوم بالإشارة إلى أن الديمقراطية عبارة عن قواعد مقررة نطيعها «بغض النظر عن النتائج». ثم يضرب مثلاً بانتخاب جورج بوش الابن الذي تم بناء على قواعد يقبلها الناس، ولا يستطيع أو يود أحد أن يخالفها حتى مع عدم قناعته بها أو تصديقه لنتائجها: «لا يوجد ديمقراطي في أي لحظة حتى خطر بباله ألا يعترف بنتائج الانتخابات وينزل إلى الشارع - مع أن الجميع يعلم أنهم غشوا في فلوريدا». إنها «صناعة الموافقة» التي أشار إليها تشومسكي، وكانت عنوانًا وموضوعًا لأحد كتبه الشهيرة، الموافقة التي يرى جيجيك أيضًا أهمية الخروج عليها، وأن مهمة الفلسفة والفكر الجاد هي في ذلك الخروج. «تبدأ الفلسفة»، كما يقول الفيلسوف السلوفيني: «في اللحظة التي لا نقبل فيها ببساطة ما هو موجود بوصفه معطى (هكذا هي الأمور، القانون هو القانون، إلخ)، وإنما تثير السؤال حول الكيفية التي صار بها ما نواجهه كشيء فعلي ممكن». الفلسفة، بتعبير آخر، تضطلع بدور نضالي كالذي رآه باديو وغيره لها.
ومثل باديو وغيره من المفكرين اليساريين، سبق الوقوف عند بعضهم في مقالات سابقة، يروي جيجيك مواقف تذكر بأن الاعتقاد بحرية التفكير والتعبير في ثقافة ترفع شعارات الحرية يحتاج إلى إعادة نظر. من تلك المواقف ندوة نظمها حول لينين في مدينة إيسين الألمانية. يقول جيجيك إنه اكتشف أن الحديث أو الكتابة عن لينين يستثير حساسية عالية لدى كثيرين ومنهم بعض أصدقائه: «يمكنك أن تتحدث عن ماركس دون أي مشكلات... أما إن أشرت إلى لينين فتلك قصة أخرى، قصة مختلفة تمامًا». ويشير في ذلك السياق إلى كتاب ألفه عن لينين: «هل تتخيل الثمن الذي دفعت بسبب ذلك الكتاب؟ لقد فقدت ثلثي أصدقائي بسببه». إنها عكس الحكاية التي يرويها فوكو وغضب الماركسيين منه، لأنه لم يقتبس من ماركس، لكن النتيجة واحدة. ومما لا يقل أهمية عن ذلك ما حدث حين نظم جيجيك ندوة لينين في مدينة إيسين.
عندما نظمتُ ندوة في إيسين، وكما تبين لي بعد ذلك، جاءت الخدمة السرية الألمانية وسألت سكرتيري عما كنا نفعل. فكما ترى، ليس الأمر بالتسامح الظاهر. إنها مفارقة الوضع الحالي: حسب الآيديولوجيا الرسمية، كل شيء مسموح به، لا توجد رقابة، وكل شيء يسير بانتظام. ولكن يجب ألا ننخدع.
على المستويين الشخصي - الاجتماعي والرسمي، إذن، تقف التحديات المختلفة في شكل قيود ورقابة ومقاطعة. لا أحد يُمنع، لكن الثمن يُدفع والضغوط تُمارس على أي حال.
نوع آخر من القيود يتصل بالتهمة المسلطة على الرقاب وهي معاداة السامية. وكان نصيب جيجيك من تلك التهمة لا بأس به. ففي محاضرة ألقاها في المدرسة الأوروبية للدراسات العليا EGS في سويسرا عام 2009، ناقش جيجيك معاداة السامية، مستعرضًا تحولاتها طوال فترة الحضور اليهودي في التاريخ الأوروبي. وفي المناقشة ذكر عبارة يقول إنها جلبت له المتاعب، هي أن هناك صهاينة معادين للسامية، عبارة بناها على قناعته بأن عداء السامية ليس حكرًا على غير اليهود، وإنما هي حاضرة بين اليهود أنفسهم ووجدها لدى بعض الصهاينة. ويذكر في هذا السياق أنه ألقى محاضرة في إسرائيل وكان معه على المنصة المخرج الإسرائيلي الأميركي أودي ألوني Aloni الذي استفز وجوده بعض الحاضرين فقال مخاطبا جيجيك: كيف يخدعك هذا، أي ألوني؟! عندها قال له الفيلسوف السلوفيني: «إذن هو يهودي قذر!»، مشيرًا إلى الصورة النمطية في الخطاب الأوروبي المعادي للسامية. ويخلص جيجيك من هذا إلى أن ما سمعه في إسرائيل أكد اعتقاده بوجود صهيونية معادية للسامية، صهيونية ترفض اليهود الذين لا يتماهون مع إسرائيل، يهود اليهود، كما يسميهم، أي اليهود الذين يحملون الصفات العنصرية النمطية لليهودي في الثقافة الأوروبية. منتقدو جيجيك، من اليهود وغيرهم، سيجدون في هذه المجادلة تبريرًا لمعاداته هو للسامية، بادعاء أنه كمن يقول إن وجود صهاينة معادين لليهود يبرر أو يخفف من أثر وجود آخرين معادين لليهود أيضًا. وقد انبرى لجيجيك من قال ما يشبه ذلك، لكن الفيلسوف السلوفيني يمضي في مشروعه الفكري غير عابئ بما يقال، فهو لا يزال نجم المحافل التي تضج بالجماهير.
جيجيك.. المفكر أمام الرقيب
نجوميته تقربه من نجوم البوب ويسميه البعض «إلفيس برسلي الفلسفة»
جيجيك.. المفكر أمام الرقيب
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة