في رأي كثيرين ممن مارسوا الكتابة للروايات المطبوعة وللسيناريوهات المصورة أن هذين الحقلين مختلفان تماما كل عن الآخر. كل منهما يفرض جوه الخاص. تأليف رواية هو طقس أدبي وأسلوبي متحرر من الشروط التقنية لكتابة السيناريو، بينما كتابة السيناريو ممارسة معنية بتلك التقنيات تبتعد بالتالي عن الوصف الأدبي والعناية بأسلوب العمل وشروط سرده المختلفة.
لكن القاص المعروف ستيفن كينغ لا يوافق كثيرا على هذا الرأي. يقول لنا: «الطريقتان هما في الواقع طريقة واحدة ولا أفهم كونهما غير ذلك، لكني أجد من الصعوبة بمكان كبير الحديث في هذا الجانب. لكني أعتقد أن كليهما ينصان على القدر ذاته من الاهتمام بالحبكة وبالشخصيات وإلى أين هي ماضية، وماذا ستفعل؟».
كينغ رقميا
ستيفن كينغ، كما يعرفه كل من قرأ أعماله أو شاهد الأفلام المقتبسة عنها، روائي يعيش في عوالم من الخيال المتراوح بين الغرائبي والمرعب. بين ما وراء الطبيعي والداكن من الأفكار حتى عندما يظهر للمتابع أن بعض أعماله الأخيرة لا تتمتع بتلك الأنياب الحادة التي ميزت تلك الأولى طوال العقود السابقة. لكن لا تدع هذا الخاطر يخدعك. أعمال كينغ الأخيرة ما زالت ملكا لعالمه المتوجس. صحيح أن نبرته أصبحت هادئة لكن الرجل يحب هذه العوالم التي يلجها ويبذل في التجديد ولو أن هذا ليس أمرا مضمونا على كثرة ما يكتب وينجز. «الكتابة عملية صعبة لكني عندما أجلس للعمل لا أريد أن أتركه. يصبح أصعب علي الخروج منه قبل انتهائه. تتملكني الرغبة في البقاء في العالم الذي دخلته لأنني أصبح قادرا على أن أرى الأمور تتوجه كما أريدها أن تفعل. أعايش اللحظات التي تمر بها الشخصيات كما لو كانت حقيقية» يقول في لقاء مع «الشرق الأوسط».
لكن لحظة.. هل لدى ستيفن كينغ، الذي اقتبست السينما أعماله بوفرة منذ أن قام المخرج برايان دي بالما بنقل روايته «كاري» إلى الشاشة الكبيرة سنة 1976، وقت يقضيه خارج تلك العوالم التي يشيدها؟ «كاري» (حول الفتاة المالكة لقدرات غير طبيعية) كان أول رواية له (نشرت قبل عام واحد من تحويلها إلى فيلم سينمائي من بطولة سيسي سبايسك) ومنذ ذلك الحين وضع نحو 150 قصة قصيرة ورواية نقلت السينما منها 130 عملا وهناك سبعة أو ثمانية أخرى على الطريق.
وهو كتب للتلفزيون أو اقتبس التلفزيون من كتاباته 30 مرة، آخرها المسلسل الجديد «تحت القبة» المؤلف من 14 حلقة. قبله في العام الماضي تم تحقيق مسلسل تلفزيوني من 52 حلقة ألفها تحت عنوان «ملجأ» والعام الذي قبله كتب للتلفزيون «حقيبة من العظام»، وكان التلفزيون اقتبس من شخصياته 77 حلقة من مسلسل آخر بعنوان «منطقة ميتة» سنة 2002.
سينمائيا انتقل من حكاية الفتاة المصابة بالقدرة على الحرق والقتل بمجرد الرغبة في ذلك، في «كاري»، إلى حكاية المؤلف الروائي الذي نزح مع عائلته من المدينة لفندق معزول لكي يستلهم وينجز روايته الجديدة لكنه يتحول إلى قاتل يهدد سلامة زوجته وابنه في «اللمعان». بعد ذلك الطريق مفتوح: خمسة أفلام هوليودية من أعماله عام 1983، وفيلمان عام 1984، وفيلمان آخران عام 1985، ثم ثلاثة عام 1986، وستة عام 1987 والرحلة وغزارة منتجها لم تتوقفا منذ ذلك الحين وإلى اليوم.
تحت القبة
> تكتب عن الخوف الكامن في شخصياتك، وما يفرضه ذلك من مخاوف أخرى في بيئتها ومحيطها المباشر. هل الخوف هو المبرر الذي يوجهك؟ وممن تخاف؟
- إذا ما كان لدي خوف، وهو ما لا أعتقده، فأنا دفنته في الشخصيات التي أقوم بتأليفها ومن خلالها إلى القراء الذين يطالعون رواياتي. الكثيرون سألوني عن طفولتي معتقدين أن علي أن أكون قد عانيت من أحداث أو لحظات جعلتني أكتب هذه القصص، لكنني في الحقيقة عشت طفولة عادية لكني كنت أحلم كثيرا. كان خيالي دائما أكبر مني.
> أين كنت تذهب بهذه الأحلام، كيف قررت أن تضعها على الورق؟
- ذهبت بها إلى الكتابة طبعا. لو كنت تعاني من الكوابيس أو من المخاوف فإنك ستذهب إلى طبيب نفسي وتنفق نحو 120 دولارا على الساعة الواحدة. بالنسبة لي كان هناك حل آخر: وضعها في الروايات وعوض أن أدفع أخذت أتقاضى (يضحك).
> هل تنام جيدا الآن؟
- أنام جيدا جدا حتى أكتب. لقد طردت كل الكوابيس منغمسا أكثر في العمل. وضعت كوابيسي في الحكايات. لكن حين لا أكتب فإن الأحلام تزورني في الليل وبعضها غير مريح وغير مبهج.
> لماذا تعتقد ذلك؟
- لدي نظرية وهي أنه أول ما تبدأ استخدام مخيلتك من الصعب إطفاؤها. تعيش العالم الذي يمكنك من توظيف تلك الخيالات والأفكار وتبقى مرتبطا بها. عقلك سيداوم العمل في اليقظة كما في الحلم وفي الوعي وغير الوعي.
> «تحت القبة» هي عبارة عن رؤية مستقبلية يضعها ستيفن كينغ في جو من الإثارة المعهودة في أعماله، لكنها تنتمي في الحقيقة إلى مخاوفنا الطبيعية في هذه الآونة، فهي تتساءل عن مستقبل الأرض ومستقبلنا نحن عليها وكيف سنتصرف إذا خسرناها نتيجة أي من العوامل المعادية للحياة التي نمارسها سواء عن طريق الإضرار بالبيئة أو عن طريق تطوير أدوات القتل النفسي والجسدي.
> هل سيؤول بعضنا للعيش فوق المريخ قريبا، كما يرد في هذا المسلسل؟
- فكرة هذا العمل ليست جديدة كما قد تتخيل. الفكرة وردت إلى في السبعينات. كنت مدرسا آنذاك وفكرت أنه لو تم وضع هذا المحيط الاجتماعي تحت قبة لخرجنا برؤية ما لما يمر به كوكب الأرض. فكرت أن هذه القبة يمكن لها أن تصبح نموذجا لدراسة ما تمر به الأرض من متغيرات وظروف: التكاثر السكاني، التلوث، الإكثار من استخدام الطاقات جميعا، النفط.. كل شيء. فكرت أيضا أن أضع كل ذلك في دراسة وأن أسعى لدى المدرسة لكي تساعدني على إجراء هذه الدراسة. لم أكن أعلم كيف ستنتهي ولا كيف يمكن تفصيليا القيام بها، لكني رأيتها فرصة مناسبة لبحث مفيد. لكني لاحقا ما قررت أن المشروع أكبر من الإمكانيات ولو أنه بقي في بالي طوال ذلك الحين.
> كيف عادت الفكرة إليك الآن؟
- كنت على طائرة في طريقي إلى أستراليا عندما أخذت أفكر بها جديا. قررت أنه يمكن لي أن أضعها اليوم في كتاب. ما زالت تتطلب دراسة لكن بوجود مصادر مختلفة على الإنترنت وبتعيين مساعد لي لإجراء الأبحاث المطلوبة يمكن لي أن أحول هذا المشروع إلى رواية تعتمد على الوقائع وليس على الخيال وحده.
> لكن هل الفكرة جديدة أو خاصة فعلا؟ لجانب أنها وردت في حلقة من حلقات «The Simpsons» فيها يقرر رب العائلة بناء قبة للعيش تحتها فإن صديقا ألمانيا وجد أنها وردت في كتاب تم نشره قبل أشهر في النمسا بعنوان «الجدار» للكاتبة مارلين هاوسوفر. هل هو توارد أفكار؟
- سأخبرك حكاية غريبة وقعت قبل ثلاثة أشهر عندما كنت أتنقل على الشبكة الاجتماعية ووجدت أمامي فيلما يروي حكاية امرأة تعيش تحت تلك القبة غير المرئية وبعض المفارقات ليست غريبة مطلقا عما كنت وضعته في سيناريو الحلقة الأولى من المسلسل. لم يكن الفيلم منقولا عن أفكاري بل كان مختلفا، لكنه كان متشابها في بعض عمومياته. عندما بحثت عن أصل الفيلم وجدت أنه اقتبس عن رواية نشرت سنة 1963 عندما كنت في الـ16 من العمر. ثم هناك فيلم «ال سيمبسونز» الذي لم أكن أعلم أنه يتحدث عن الحياة تحت القبة وعندما شاهدته تأوهت (يضحك). راحت علي المبادرة (يضحك).
> هل هناك حشد من الأفكار في بالك دائما، كيف تختار الفكرة التي ستقوم بكتابتها من بين كل تلك الأفكار التي في رأسك؟
- كان هناك وقت كان فيها مخي يكاد ينفجر من كثرة الأفكار التي فيه. كنت أتساءل كيف يمكن لي أن أبدأ كتابة واحدة من هذه الأفكار بينما هناك أفكار أخرى في البال. لكن المسألة هي مثل الزواج. عليك أن تكون مخلصا ومحبا للفكرة التي تختارها. في بعض الأحيان، وإلى اليوم، تعترضني فكرة جديدة وأنا متزوج من فكرة أقوم بكتابتها.. لا أستطيع أن أوقف ما أقوم به رغم ولعي بالفكرة الجديدة. أضعها في البال وأعود سريعا لاستكمال الحكاية التي بدأتها.
> تضعها في البال؟ ألا يسبب ذلك حشدا ضخما من الأفكار غير المحققة؟
- الحقيقة أنها الطريقة الأمثل. لا أؤمن بكتابة الفكرة في دفتر ملاحظات ثم العودة إليها لاحقا. حين أحتفظ بالفكرة في بالي فإن أحد الأمرين سيحدث: إما أنني سأنساها، وهذا بالنسبة لي أنها لم تكن فكرة جيدة وإلا لما كنت نسيتها، أو أن تبقى وهذا يؤكد جدارتها.
رأي في كوبريك
من بين كل الأفلام التي تم تحقيقها عن روايات كينغ، يبقى فيلم ستانلي كوبريك المنجز عن رواية «اللمعان» أفضلها. ربما لأنه ابتعد كثيرا عن محاولة نقل الحكاية مكتفيا بفكرتها ومتحررا من ضرورة الالتزام بما لم يرغب فيه. حدث ذلك سنة 1977 وبعد خروج الفيلم بأشهر تداول الإعلام حينها عدم رضا الكاتب عن الفيلم. ستيفن كينغ لا يزال عند رأيه اليوم إذ يقول حول هذا الموضوع:
لا أعتقد أنه فيلم جيد جدا. أعتقد أنه فيلم جميل للنظر إليه لكنك تستطيع أن تقول ذلك عن سيارة «كاديلاك» سواء أكان هناك محرك فيها أم لا.
> لماذا؟
- أعتقد أنني كتبت شخصية الرجل جاك تورانس على نحو أفضل. هو، كما كتبته، رجل عائلي يحب عائلته ويتمنى لها كل الخير. لكنه يعاني فجأة تلك النوبات الغامضة التي تجعله أقرب إلى المطرقة. كتبت أيضا شخصية زوجة جميلة وقوية إلى درجة التميز. أردتها امرأة محبوبة وجميلة بروح وبعاطفة. حين شاهدت الفيلم وجدت أن كوبريك ابتكر شخصيات من تلك التي تختلف عن جوهر ما أردت. شخصية جاك كما مثلها جاك نيكولسون هي شخصية تداولها جاك نيكولسون في أفلامه السابقة في الستينات. شخصية شيلي دوفال (الزوجة) كانت نوعا مناوئا للمرأة وعلى نحو كاريكاتوري. أساسا لم يكن الفيلم الجيد كما رآه الكثيرون.
> هل تشعر عموما بأن السينما عاملتك جيدا كمؤلف؟
- طبعا. ليس لدي أي شكوى حيال ذلك. هناك أفلام كان يمكن لها أن تكون أفضل وهناك الكثير مما جاء كما توسمت له أن يجيء، جيد ومثير بحد ذاته وليس لأنه مقتبس من عندي.
> ماذا عن قرارك قبل سنوات بالتوقف عن الكتابة، لماذا قررت ولماذا لم تتوقف؟
- كانت فترة صعبة وجدت نفسي فيها كمن يعيد كتابة أفكاره. لم أشعر بأني أريد المواصلة ثم تعرضت لتلك الحادثة سنة 1999 وكدت أموت. ثم تعرضت لحادثة أخرى عندما صدم رأسي وبقي الألم طويلا. لذلك قررت حينها أن أتوقف عن العمل. لكن الأفكار لم تتوقف. الرغبة في العمل استولت علي ووجدت أنه من الصعب علي أن أتحول إلى نبتة لا تفعل شيئا. الآن ما زلت أدرك أنني لا أريد البقاء عندما أستنفد نفسي ولا يعد لدي جديد أقدمه، لكني باق في العمل طالما أن لدي جديدا أقوم به.