يثار دائما موضوع «السجون السرية» في العراق، لا سيما بعد التغيير الذي حصل عام 2003، حين أسقطت القوة الأميركية الهائلة نظام حكم حزب البعث، الذي هيمن على العراق على مدى 35 عاما. وباعتراف كبار المسؤولين الأميركيين، حتى أولئك الذين كان لهم دور في صنع ما عرف بالعراق الجديد، ومنهم بول بريمر أول حاكم مدني للعراق، الذي أمضى سنة في حكم البلاد، وسجل انطباعاته تلك في كتاب أطلق عليه «عام قضيته في العراق 2003 - 2004»، اعترفوا بأنهم فشلوا في إيجاد البديل المناسب ممن كانوا يراهنون عليهم من رجال المعارضة العراقية السابقة.
وبموازاة الفشل الأميركي الذي جاء بسلطة ترقيعية، قامت على أسس المحاصصة الطائفية والعرقية، فقد بدت إيران هي الطرف المستفيد في ظل غياب وتراجع عربي، رغم أن كثيرا من الدول العربية كانت قد ساندت التوجه الأميركي لإسقاط صدام حسين، الذي كان مصدر قلق لجيرانه والمنطقة. لكن إيران أخذت الأمر على عاتقها في بناء تصورها الخاص للعراق الجديد الذي يختلف عن تصورات ورؤى الآخرين، بمن فيهم «شركاؤها» الأميركيون الذين وافقوا - كما يقول بريمر نفسه - على أن يكون لإيران دور في استقرار العراق.
لكن هذا الاستقرار سرعان ما تحول بعد سنوات إلى مشكلة باتت الولايات المتحدة تدفع ثمنها، ليس في العراق فقط، بل في سوريا ولبنان واليمن، حين تغولت إيران عبر نفوذ الميليشيات التابعة لها، التي امتدت أذرعها في هذه البلدان، لتتحول إلى دولة داخل الدولة، تمتلك زعامات وجيوشا تستعرض في الطرقات، وتملك صواريخ ومدفعية وسجونا سرية.
وحكاية هذه السجون ليست سرية، إذ كان كثير من القيادات العراقية والناشطين المدنيين والحقوقيين، سواء في العراق أو عدد من العواصم العربية والعالمية، يتحدثون عن سجون وانتهاكات، وهو ما بات يمثل مصدر معلومات دائما لمنظمات حقوق الإنسان، «هيومان رايتش ووتش» و«العفو الدولية»، وحتى الاتحاد الأوروبي الذي كثيرا ما استضاف مسؤولين ونوابا في البرلمان العراقي للحديث عن هذه القضايا، دون رد من الحكومة العراقية.
وحين يجئ الرد، فإنه إما يكون بالنفي كالعادة، أو قد يأتي محملا بالمزيد من الاتهامات للجهات التي يقال إنها تحمل أجندة معادية للتجربة الجديدة في العراق، فيما يتعلق بوجود سجون سرية أو انتهاكات، وما إلى ذلك.
لكن الأمر بالنسبة لأبي عبد الله (ف. و. ع)، الذي كان نزيل أحد هذه السجون، ويقيم اليوم في إحدى العواصم العربية، كان مختلفا. وقد روى أبو عبد الله معلوماته عن هذه السجون لـ«الشرق الأوسط»، قائلا إنه «تمكن من الحصول على معلومات بشأن ذلك، بعد أن قام، بعد تجربة سجنه التي استمرت أكثر من سنتين، وأخرج بعدها بصفقة، بجمع المزيد من المعلومات عن هذه السجون المنتشرة في مناطق مختلفة من البلاد، التابعة لعدة فصائل مسلحة، كلها سرية ما عدا ما لدى التيار الصدري من سجون معلنة في منطقة الحنانة، في مدينة النجف، التي لا تجري فيها عمليات تعذيب بقدر ما هي مخصصة للمخالفين، ممن يقوم زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر باحتجازهم، بمن فيهم مسؤولون كبار في التيار، كان أبرزهم نائب رئيس الوزراء السابق بهاء الأعرجي الذي يقال إنه تم إخراجه من السجن، بعد عدم ثبوت الأدلة بتهم الفساد ضده».
وفي روايته لـ«الشرق الأوسط»، عبر الهاتف من مقر إقامته، يقول أبو عبد الله إن السجون السرية، حسب المعلومات التي حصل عليها من جهات موثوقة، التي تشكل معظمها بعد دخول (داعش) إلى العراق، واحتلالها أربع محافظات غربية عراقية، وتهديدها بغداد، بل وصولها إلى الخاصرة الشمالية لمحافظتي كربلاء وبابل من خلال جرف الصخر «تعود لعدة فصائل وميليشيات مسلحة، الأبرز فيها هي الموجودة في جرف الصخر، التي تعود في الغالب لكتائب حزب الله».
ويضيف أنه «توجد خمسة معتقلات في منطقة الهبارية، في النخيب، بإدارة حزب الله، وهذا القضاء متنازع عليه بين كربلاء والأنبار، كما يوجد معتقل أبوغرك بالحلة بإدارة حزب الله، ومعتقل الرزازة بإدارة عصائب أهل الحق، ومعتقل صدر القناة بإدارة كتائب رساليون، ومعتقل الخالص بإدارة منظمة بدر».
ويمضي أبو عبد الله قائلا: «أعداد المعتقلين متفاوتة في هذه السجون، حيث كان يوجد في معتقل الرزازة حتى قبل شهور نحو 1208 معتقلين، ويضم معتقل أبوغرك 729 سجينا». وحول تصنيف هؤلاء المعتقلين، وما إذا كانوا سنة أم من طوائف أخرى، يقول: «نحو 90 في المائة من المعتقلين سنة، والباقي شيعة من الشيوعيين والصرخيين».
ويتابع أبو عبد الله: «من بابل والأنبار إلى ديالى، تمتد خريطة السجون السرية، حيث تنتشر في ديالى كثير من هذه السجون، لا سيما بعد أن «تمكنت ميليشيات متنفذة من السيطرة على الشارع، وبدأت عمليات تصفية للمدنيين الآمنين، إذ شهدت ديالى عمليات متكررة للخطف والقتل المنظم طالت كثيرا من أبناء المحافظة»، علما بأن عددا من المجاميع المسلحة والميليشيات لها سطوة أكثر من الدولة، وباتت تهدد السلم الأهلي.
ويمضي أبو عبد الله قائلا إن «العمليات الإجرامية التي شهدتها بعض مناطق المحافظة إنما تمثل دليلا على سيطرة كاملة للميليشيات على أغلب مناطق المحافظة، وقد قامت بعض الميليشيات بمنع رئيسي الوزراء والبرلمان من الدخول إلى قضاء المقدادية، بعد تفجيرها 9 مساجد لأهالي السنة هناك». ويضيف: «يتذكر سكان ديالى شهادات من مخطوفين تم تحريرهم بفدية، أو عمليات أمنية، تشير إلى وجود كثير من السجون وأماكن الاحتجاز التي تسيطر عليها الميليشيات، أو منتسبين استغلوا مواقع السلطة، حيث قاموا بعمليات احتجاز وتصفية لكثير من الأبرياء، بجرائم دموية لن يستطيع أحد أن ينكرها». ويتابع إنه «خلال مداهمة القوات الأمنية تم العثور على منازل زج بكثير من المختطفين داخلها في مناطق الوجيهية وأبي صيدا والخالص، إضافة إلى بساتين في مناطق الوقف».
وأوضح أبو عبد الله أن «قضية أماكن الاحتجاز التي تتبع بعض الميليشيات ليست جديدة، إذ إن المداهمات التي قامت بها القوات الأمنية للفترة من 2005 - 2011 تم العثور فيها على العشرات من المنازل التي حولت إلى أماكن احتجاز لعدة سنوات». ويروي أبو عبد الله الحكاية التالية، نقلا عن سجين تم إطلاق سراحه أخيرا بعد تحرير الكرمة (قرب الفلوجة)، واحتجاز العشرات من قبل الميليشيات بدعوى التحقيق معهم، ويقول إن «أحد المعتقلين توفي شقيقه لأنهم لم يكونوا يتلقون الطعام الكافي، ولكنه بقي يومين لم يخبرهم عن وفاته لكي يحصل على حصته الغذائية».
مع ذلك، فإن نواب المحافظات تلك التي يوجد أبناؤها في تلك السجون كانوا قد أثاروا مثل هذه القضايا في أوقات سابقة. حيث يرى عضو البرلمان العراقي عن محافظة ديالى رعد الدهلكي أن «الميليشيات تنتشر في مناطق كثيرة من العراق، وتنفّذ أعمال الخطف بلا رادع، تنفيذًا لأجنداتها بالتغيير الديموغرافي»، مبينًا أنّ «القوات الأمنيّة والأجهزة الحكومية تقف عاجزة عن إيجاد حل للميليشيات».
ويحذّر الدهلكي «من خطورة استمرار الوضع الأمني على ما هو عليه، وعدم اتخاذ قرارات أو تدابير حكوميّة رادعة بحق الميليشيات»، مؤكّدًا أنّ «السكوت على هذه الحالة سيفاقم ويعقّد المشهد الأمني في البلاد». ويخلص إلى أن «المسؤوليّة الأخلاقيّة والقانونية تحتم على الحكومة، بل وعلى الرئاسات الثلاث (الحكومة والجمهورية والبرلمان)، الوقوف بحزم وقوة تجاه تلك الانتهاكات التي تضرب النسيج العراقي، وإيجاد حلول ناجعة وجذرية، وفقًا للقانون الذي يجب أن يطبق على الجميع، وخصوصًا المجرمين الذي تسببوا بأعمال العنف».
السجون السرية في العراق.. من النجف جنوبًا إلى ديالى شمالاً مرورًا بالأنبار
تديرها ميليشيات موالية لإيران.. و90 % من نزلائها من المكون السني
السجون السرية في العراق.. من النجف جنوبًا إلى ديالى شمالاً مرورًا بالأنبار
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة