المكسيك والاستعمار الإسباني

من التاريخ

المكسيك والاستعمار الإسباني
TT

المكسيك والاستعمار الإسباني

المكسيك والاستعمار الإسباني

تعد المكسيك دولة متميزة بحق في مجالات كثيرة، فجغرافية هذه الدولة خاصة، فبها الصحاري والوديان، والغابات والأراضي القاحلة، كما أن بها السهول والبراكين العملاقة مثل البركان «بوبوكاتبتل»، الذي يشعر الإنسان بضعف حجمه وهو بجوار هذا الصرح الجيولوجي العظيم الذي ظل يرمي حممه ونيرانه حتى سنوات معدودات، كذلك فهي من أغنى الثقافات اللاتينية على الإطلاق، خرج منها الأدباء ليفوزوا بجائزة نوبل، كما أن بها صناعة سينما وتلفزيون تتفوق بها على شقيقاتها بأميركا اللاتينية، حتى إن فرق كرة القدم المكسيكية بدأت تتنافس على القمم، ومع ذلك فإن المحيط الأطلسي أبعد المكسيك ودول أميركا اللاتينية الأخرى عن مرمى التاريخ والثقافة بالنسبة للعرب، وذلك على الرغم من أن الجيش المصري سبق له أن حارب في المكسيك بلواءين لمساندة حكم الإمبراطور المكسيكي «مكسيمليان» بدعم من الإمبراطور نابليون الثالث، إمبراطور فرنسا في منتصف القرن التاسع عشر.
إن تاريخ هذه الدولة العريقة يشتمل على مراحل تستحق منا الوقوف أمامها للتأمل والعظة، فالمكسيك شأنها شأن باقي الدول اللاتينية وقعت فريسة للاحتلال الإسباني التعس بعد أن جاءت عبر البحر الحملة العسكرية التي قادها العبقري المرتزق «إيرنان كورتيز» (Cortez) الذي استطاع بقرابة خمسمائة جندي فقط أن يسقط إمبراطورية «الأزتيك» (Aztec) بأكملها، تلك الإمبراطورية مترامية الأطراف والتي كانت تحكم البلاد لقرون قبل قدوم الإسبان، ولكن التحالفات مع أعدائها وعبقرية القائد الإسباني مضافا إليهما الضعف المعنوي الذي كان قد أصاب هذه الدولة خاصة بعدما بدا تحقق النبوءة التي قالت إن إمبراطوريتهم ستسقط بعد قدوم أنصاف الآلهة من البحر للتخلص منهم، فهكذا تهزم الدول في معنوياتها قبل جيوشها.
وقد خضعت المكسيك لحكم الإسبان منذ ذلك التاريخ وحتى عام 1821، ولكن حقيقة الأمر أن فتح القارتين الأميركيتين كان قد أصاب الدولة الإسبانية بحالة من الارتباك، فلقد ظنوا أن كولومبوس اكتشف الطريق إلى الصين، ولم يدركوا أنه اكتشف قارتين، وبالتالي فإن عملية الإدارة السياسية أخذت بعض الوقت من الدولة الإسبانية لتنظيمها فكانت تعتمد في البداية على المرتزقة القادرين على الفتوحات مع رجالهم مقابل منحهم حكم المناطق التي يفتحونها باسم أو نيابة عن ملك إسبانيا، وقد سمحت هذه السياسة للمرتزقة والعملاء وحقيري الشأن بالسيطرة على دفة الأمور في البلاد فأذاقوا السكان الأصليين الويلات من العذاب والمهانة ووضعوا نظام تفرقة عنصرية واضحا تسيد فيه الإسبان مقابل استعباد الشعب لمصالحهم المالية والاجتماعية، بل والجنسية أيضا، ولكن الدولة سرعان ما بدأت تضع نظامها الجديد وفي منتصف القرن السادس عشر بحيث آلت السلطة مرة أخرى إلى الوالي الإسباني الذي يجري تعيينه من مدريد ليحكم إسبانيا الجديدة كما أطلق عليها.
ولقد تعرض الشعب المكسيكي لموجات من تغيير الهوية الداخلية فيما أطلق عليه عملية «الاحتلال الثقافي»، أي العملية الممنهجة من قبل الإسبان بهدف «إسبنة» المكسيك وتنصيرها، فلقد كانت للشعوب الأصلية لغاتها الخاصة وعلى رأسها لغة «الناوتل» المتداولة بين الأزتيك، ولكن دور الحركات التبشيرية التي قادها الآباء الفرنسيسكان حسمت المعركة الثقافية بتغيير الديانة واللغة على حد سواء، فلقد بدأت الإسبانية تسود البلاد مع مرور الحقب، وخاصة أنها أصبحت لغة السادة والحكم، وقد بدأت هذه الظاهرة من خلال التعليم الأساسي، حيث سمح لأبناء الهنود بتعليم أساسي لتثبيت اللغة الإسبانية في الوجدان المكسيكي.
من جانب آخر، قامت حركات التبشير بالدور الأساسي في عملية تنصير السكان الأصليين أو «الهنود» كما يحلو للبعض تسميتهم، وفي كل الأحوال فإن المقاومة للمسيحية لم تكن على أشدها، وخاصة أن المنظومة الدينية للأزتيك لم تكن جذابة بأي حال من الأحوال، لا سيما مع وجود آلهة تحب الدماء وتطلب أضحية بشرية، كما أن هذه الديانات لم يكن لها العمق الفكري أو الإرث الثقافي والذي كان من شأنه أن يجعل انتشار المسيحية بالأمر الصعب، ولضمان السيطرة السياسية والعرقية الإسبانية فلقد منع أبناء الهنود المسيحيين من الانضمام للسلك الكنسي في محاولة للإبقاء على الهيمنة الإسبانية وضمان عدم تحول الكاثوليكية إلى أداة سياسية قد تعمل ضد الدولة الإسبانية، وهو ما حدث كما سنرى.
لم تختلف المكسيك عن النظام الاجتماعي الذي فرض على الممالك الإسبانية الأخرى في العالم الجديد، فلقد تسيد الإسبان المشهد السياسي والاجتماعي تماما كما تعكسه الروايات والأفلام السينمائية بلا مبالغة، وقد بلغ حجمهم وفقا لآخر التقديرات قبل الاستقلال قرابة العشرين ألفا، أي أقل من نصف في المائة، ونظرا لأن الدولة والكنيسة لم يستطيعا منع الاختلاط في هذه المقاطعات فإن الزيجات المختلطة أو علاقات السفاح مع النساء من الهنود أسفرت عن أجيال مختلطة صاعدة عرفوا باسم «Mestizos» مثلوا على الذين ولدوا قرابة عشرين في المائة من السكان، فلا هم إسبان متأصلون ولا هم هنود، كذلك وجدت طبقة الـ«Creollos»، وهي المكونة من الإسبان الذين ولدوا في المكسيك ولكنهم ظلوا أقل من طبقة الإسبان الأصليين القادمين من إسبانيا، وهؤلاء سمحت لهم بالكثير من الحقوق، ولكنهم لم يكونوا مثل الإسبان الخالصين، وفي قاع السلم الاجتماعي كان هناك «الهنود» الذين بلغوا قرابة سبعين في المائة ولم تكن لهم أي حقوق سياسية أو اجتماعية ولم يكن أتعس منهم حالا إلا طبقة العبيد التي كانت تشترى، والتي كانت ملكا للسادة الإسبان.
أما الأوضاع الاقتصادية في المكسيك فكانت في حالة يرثى لها، فالإسبان لم يكن معروفا عنهم الإدارة، فهي الدولة الوحيدة التي عندما انفتحت ثروات مستعمراتها عليها حدثت لها انتكاسة بسبب التضخم وسوء الإدارة والتوزيع مما عجل بضعف الدول دوليا، وقد تمثل هذا الضعف الإداري في حالة من ضعف الأداء الاقتصادي، فلقد قسمت البلاد على أسس شبه إقطاعية من خلال ما عرف بـ«الأسيندا» (Hacienda)، أي الضيعة أو العزبة المكبرة، والتي كانت تعمل في الزراعة والرعي، ونظرا لسيطرة الدولة على التجارة فقد انغلقت الأبواب أمام فرص التبادل التجاري الخارجي لهذه الإقطاعيات، ومن ثم حرمان المكسيك من التراكم الرأسمالي، فكانت «الأسيندا» تنتج من أجل العاملين بها والفائض الزراعي أو من المراعي يمثل قيمة مضافة للمالك الإسباني، وهو ما فرض حالة من شبه العزلة بين المناطق المنتجة في البلاد، وقد ربطت هذه المنظومة الفاسدة «الهندي» بـ«الأسيندا» لأن فرصه في العيش خارجها أصبحت شبه معدمة، ولمزيد من السيطرة حرمت إسبانيا مستعمراتها من الصناعات لضمان بقاء حالة التبعية على إسبانيا، وفرضت النظام الميركانتيلي (Mercantilism) على هذه الدولة بحيث منعت الدول من التجارة مع المكسيك، وفي حين انحسرت الطاقات الهائلة لهذه الدولة فإن خيراتها نهبت على أيدي الإسبان، فدولة بلغ حجمها مليونا ونصف المليون ميل مربع أخرجت خيراتها لغيرها، فلقد كانت المكسيك تنتج وحدها من الفضة ما ينتجه العالم أجمع، بينما كانت تنتج من الذهب أكثر من أي دولة أخرى في العالم، ولكن في عالم المستعمرات تكون خيرات الدول للمستعمر.
وإزاء هذه الظروف التعيسة كان من المتوقع أن تتكالب التطورات لتفرز ثورة شعبية عارمة، ولكنها لم تكن بالضرورة سهلة كما سنرى.
* كاتب مصري



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.