عبقرية محمد خان في اللقطات الثرية

في رحيل مخرج كبير‬ قدّم البيئة الشعبية كما لم يفعل مثله أحد

المخرج الراحل محمد خان‬ - من «فتاة المصنع»: أحد أفلامه الأخيرة‬
المخرج الراحل محمد خان‬ - من «فتاة المصنع»: أحد أفلامه الأخيرة‬
TT

عبقرية محمد خان في اللقطات الثرية

المخرج الراحل محمد خان‬ - من «فتاة المصنع»: أحد أفلامه الأخيرة‬
المخرج الراحل محمد خان‬ - من «فتاة المصنع»: أحد أفلامه الأخيرة‬

يترك فارس (محمود حميدة) أدهم بيه (عبد العزيز مخيون) في السيارة التي كان يقودها. يقول له «بردون يا أدهم بيه، فلوسك أهه، والعربية كمان». يغلق باب السيارة ويمضي دون أن يطفئ محركها فتمضي السيارة من دون سائق. أدهم بيه متهالك على مقعده لا يستطيع التحكم بالسيارة. يدير عجلتها فتخرج عن الطريق الريفي وتتقدم نحو الهاوية ثم تتوقف في اللحظة الأخيرة قبل أن تسقط من عل.‬
هذا مشهد من فيلم «فارس المدينة» للمخرج الراحل محمد خان. ليس ما يميّزه عن باقي مشاهد الفيلم سوى ذلك الدمج الدقيق بين الدراما، من حيث موقع المشهد في حكاية بدأت ولم تنته، وبين الخيط البادي من عنصر التشويق. ‬
في حديث خاص مضى، لم يوافق محمد خان على أن أفلامه تنتمي إلى سينما معيّـنة، تشويقية أو بوليسية أو واقعية: «الموضوع يفرض نفسه بالضرورة. عندما أخرج فيلما لا أتصوّره منتميًا إلا إليّ. لكن إذا ما كنت تبحث عن التأثير المباشر فأعتقد أنني أقرب إلى السينما الإيطالية من سواها».‬
«فارس المدينة» (1991) كان من أفضل أعماله، لكن كل أعماله كانت تحتوي على ما هو جيد. مخرج لاقط للتفاصيل. لا يرى السينما على لون واحد، بصرف النظر عن ذلك اللون، وشخصياته كلها تستدعي الاهتمام ولديها ما تعكسه في إيجاز سواء أكانت بطولية أم لا.‬

مدينة نموذجية‬

لم يعد هناك الكثير مما لم يُـكتب ويُـطرح في سينما محمد خان. تناولته كتابات المحللين والنقاد من وجهات كثيرة وبعضها مباشرة بعد وفاته غير الموقوتة في السادس والعشرين من هذا الشهر. بعضهم وجده وريث السينما الواقعية لصلاح أبوسيف لكن الواقعية التي في أفلامه تختلف عن واقعية أبوسيف اختلافًا كبيرًا. وفي تحليلات أخرى هو المخرج الذي قدّم البيئة الشعبية كما لم يفعل مثله أحد، وعند بعض السينمائيين ومثقفي اليمين، هو من اعتاد تشويه الواقع المصري متعمدًا بسبب تصويره حكايات من بطولة أماكن شعبية وشخصيات هامشية.‬
رغم أن هناك نصيبًا من الصحة في معظم ما سبق، إلا أن الصفة الأهم لسينما محمد خان هي سينمائية محضة لا علاقة لها بما صوّره أو أوحى به. نجدها في فهمه لشروط الصورة الصحيحة ولإيقاع اللقطة داخل المشهد والمشهد داخل الفيلم. يعمل محمد خان على منوال أن الفيلم هو حالة فنية للتعبير عن المضمون وليس المضمون نفسه. ما يحدد الفارق المذكور هو كيف سيختار المخرج تصوير عمله لإبراز مضمونه. هذا الاختيار وقف وراء أعمال متعددة المعالجات. ‬بالطبع هو ابن المدينة ويعرف كيف يصوّرها ويجيد كما فعل في «مستر كاراتيه» و«فارس المدينة» و«الحريف»، لكنه ابن المجتمع المصري ويعرف كيف يمنح مشاهديه فرصة الاطلاع عليه واقعيًا، كما في «مشوار عمر» و«عودة مواطن» و«سوبر ماركت». في الوقت ذاته هو صاحب المعالجة الحسّـاسة لشخصياته التي لا تشبهها شخصيات أخرى في أفلام سواه مثلما في «هند وكاميليا» و«خرج ولم يعد» و«زوجة رجل مهم». على كل ذلك، كل واحدة من هذه المجموعات تملك خصال المجموعة الأخرى. بالتالي أفضل أفلام المخرج (وليس من بينها ما هو رديء) هي تلك التي حوت كل تلك العناصر بمقادير مختلفة.
المدينة بالنسبة لمحمد خان هي نموذجية لتصوير العلاقة بين الناس وبين الناس والمجتمع ومن ثم بين المجتمع وتقاليده وتطلعات الإنسان للخروج من تلك التقاليد صوب حرية غير مؤطرة. في مطلع أكثر من فيلم، بينها فيلمه الأول «ضربة شمس» (1980) و«فارس المدينة» يلقي نظرة على المدينة من فوق. بخط مستقيم، يشبه خط قناص، يصوّب الكاميرا صوب الحياة العابقة تحته قبل أن ينتقل ببطله إلى الشوارع ذاتها.
عندما تسوح الكاميرا في شوارع المدينة، تنقل معالمها البشرية والمكانية بتلقائية ومن دون تعمد. الغاية منها هو المعايشة الواقعية عبر ربط الشخصية الرئيسية، نور الشريف في «ضربة شمس» وعايدة رياض ونجلاء فتحي في «أحلام هند وكاميليا» ومحمود حميدة في «فارس المدينة».‬

تفاصيل الحياة‬

ليس صدفة أن هذه الأفلام تحمل عناوين مزدوجة فـ«ضربة شمس» هي الضربة التي تصيب البعض حين ارتفاع الحرارة وضربة بطل الفيلم واسمه شمس. «أحلام هند وكاميليا» هو عن حلم امرأتين تعيشان في قاعة المدينة، وعندما تنجب إحداهما، تسميها أحلام وتقرر المرأتان رعايتها معًا فإذا بها تصبح أحلام المنتمية إلى هند وكامليليا. أما «فارس المدينة» فالبطل اسمه فارس، وهو فارس بحق. شهم وذو شخصية مهيبة يقبل على المخاطر وينجو منها.
لكن إذا ما كانت أعمال محمد خان (ومنها ما خرج إلى الريف مثل «خرج ولم يعد») أو إلى الساحل (كما «يوسف وزينب» الذي صوّره في جزر المالديف و«قبل زحمة الصيف»، فيلمه الأخير الذي صوّره في الإسكندرية) أو كان مشوارًا على الطريق (كما في «طائر على الطريق» الذي استوحى منه خان زاويته المفضلة في الصحف «مخرج على الطريق») دقيقة في لقطاتها التفصيلية (يد سعاد حسني في «موعد على العشاء» وهي تحاول الضغط على أحد أزرار المصعد محاطة بأبدان الرجال كما لو كانت يدها صرخة ضد القهر الذكوري) ومتشابكة الرموز (مظاهرة عابرة وراء ظهر بطلة «فتاة المصنع») إلا أن خان لم يتخل مطلقًا عن سينما فنية بسيطة إلا عندما حقق «أيام السادات» سنة 2001، ليس أنه تخلى عن الفن أو أن الفيلم لا يرتقي إلى مستوى أعماله الأخرى، لكنه نفّـذ فيلما مختلفًا من حيث أنه سيرة حياة شخصية حقيقية كان على المخرج معالجتها كعمل غير ذاتي قدر الإمكان.‬
في أعماله جميعًا (23 فيلما طويلاً) عنى بتشابك الشخصيات من دون افتعال خطوطها. دائما ما كان رقيقًا في رسم خطوطه المستقيمة أو الدائرية. تلك التي تربط ما بين شخصين يتواجهان، أو تلك التي تضع شخصيّـتين أخريين في تعامل متبادل (كشخصية الزوجة ميرڤت أمين وزوجها أحمد زكي في «زوجة رجل مهم») كما كان رقيقًا وعاطفيًا في حبه للمرأة. صور الرجل على أنه شقي وذو جوانب. أما المرأة فكانت طاهرة وجميلة وحالمة. لكن في عدد من أعماله يطفو حزن الوضع على الجميع: على كل أبطال «الحريف» (الفيلم الذي قيل عن عادل إمام بأنه ندم عليه لأنه لم يكن كوميديًا)، وعلى معظم شخصيات فيلم «مشوار عمر» (1986). في الواقع العلاقات المرسومة بين شخصيات «مشوار عمر» هي من أفضل ما رسم من علاقات في السينما المصرية، إذ تنقل كل شخصية من حال لآخر تبعًا للوضع الذي يفرضه غريمه، فالجلاد يتحوّل إلى ضحية والضحية إلى جلاد قبل العودة إلى الوضع السابق لكل منهما، وكل ذلك من دون مبالغات أو مشاهد مسرحية مفتعلة.‬
يطول الحديث في سينما محمد خان لأنها تستحق كل تفصيل يذكر فيها. أي مساحة لبحث فيها يدلف إلى عوالم وجوانب مختلفة تمتد من حرفته الفنية إلى أسلوبه السردي ومنهما إلى تعامله مع الشخصيات وموقعه من الحياة عبرها. لا يفرض الرأي بل يدع المشاهد يستخرج أكثر مما كان يعتقد ذلك المشاهد أنه سيخرج به.‬



هوليوود ترغب في صحافيين أقل بالمهرجانات

جوني دَب خلال تصوير فيلمه الجديد (مودي بيكتشرز)
جوني دَب خلال تصوير فيلمه الجديد (مودي بيكتشرز)
TT

هوليوود ترغب في صحافيين أقل بالمهرجانات

جوني دَب خلال تصوير فيلمه الجديد (مودي بيكتشرز)
جوني دَب خلال تصوير فيلمه الجديد (مودي بيكتشرز)

عاش نقادُ وصحافيو السينما المنتمون «لجمعية هوليوود للصحافة الأجنبية» (كنت من بينهم لقرابة 20 سنة) نعمة دامت لأكثر من 40 عاماً، منذ تأسيسها تحديداً في السنوات الممتدة من التسعينات وحتى بُعيد منتصف العشرية الثانية من العقد الحالي؛ خلال هذه الفترة تمتع المنتمون إليها بمزايا لم تتوفّر لأي جمعية أو مؤسسة صحافية أخرى.

لقاءات صحافية مع الممثلين والمنتجين والمخرجين طوال العام (بمعدل 3-4 مقابلات في الأسبوع).

هذه المقابلات كانت تتم بسهولة يُحسد عليها الأعضاء: شركات التوزيع والإنتاج تدعو المنتسبين إلى القيام بها. ما على الأعضاء الراغبين سوى الموافقة وتسجيل حضورهم إلكترونياً.

هذا إلى جانب دعوات لحضور تصوير الأفلام الكبيرة التي كانت متاحة أيضاً، كذلك حضور الجمعية الحفلات في أفضل وأغلى الفنادق، وحضور عروض الأفلام التي بدورها كانت توازي عدد اللقاءات.

عبر خطّة وُضعت ونُفّذت بنجاح، أُغلقت هذه الفوائد الجمّة وحُوّلت الجائزة السنوية التي كانت الجمعية تمنحها باسم «غولدن غلوبز» لمؤسسة تجارية لها مصالح مختلفة. اليوم لا تمثّل «جمعية هوليوود للصحافة الأجنبية» إلّا قدراً محدوداً من نشاطاتها السابقة بعدما فُكّكت وخلعت أضراسها.

نيكول كيدمان في لقطة من «بايبي غيرل» (24A)

مفاجأة هوليوودية

ما حدث للجمعية يبدو اليوم تمهيداً لقطع العلاقة الفعلية بين السينمائيين والإعلام على نحو شائع. بعضنا نجا من حالة اللامبالاة لتوفير المقابلات بسبب معرفة سابقة ووطيدة مع المؤسسات الإعلامية المكلّفة بإدارة هذه المقابلات، لكن معظم الآخرين باتوا يشهدون تقليداً جديداً انطلق من مهرجان «ڤينيسيا» العام الحالي وامتد ليشمل مهرجانات أخرى.

فخلال إقامة مهرجان «ڤينيسيا» في الشهر التاسع من العام الحالي، فُوجئ عدد كبير من الصحافيين برفض مَنحِهم المقابلات التي اعتادوا القيام بها في رحاب هذه المناسبة. أُبلغوا باللجوء إلى المؤتمرات الصحافية الرّسمية علماً بأن هذه لا تمنح الصحافيين أي ميزة شخصية ولا تمنح الصحافي ميزة مهنية ما. هذا ما ترك الصحافيين في حالة غضب وإحباط.

تبلور هذا الموقف عندما حضرت أنجلينا جولي المهرجان الإيطالي تبعاً لعرض أحد فيلمين جديدين لها العام الحالي، هو «ماريا» والآخر هو («Without Blood» الذي أخرجته وأنتجته وشهد عرضه الأول في مهرجان «تورونتو» هذه السنة). غالبية طلبات الصحافة لمقابلاتها رُفضت بالمطلق ومن دون الكشف عن سبب حقيقي واحد (قيل لبعضهم إن الممثلة ممتنعة لكن لاحقاً تبيّن أن ذلك ليس صحيحاً).

دانيال غريغ في «كوير» (24A)

الأمر نفسه حدث مع دانيال كريغ الذي طار من مهرجان لآخر هذا العام دعماً لفيلمه الجديد «Queer». بدءاً بـ«ڤينيسيا»، حيث أقيم العرض العالمي الأول لهذا الفيلم. وجد الراغبون في مقابلة كريغ الباب موصداً أمامهم من دون سبب مقبول. كما تكرر الوضع نفسه عند عرض فيلم «Babygirl» من بطولة نيكول كيدمان حيث اضطر معظم الصحافيين للاكتفاء بنقل ما صرّحت به في الندوة التي أقيمت لها.

لكن الحقيقة في هذه المسألة هي أن شركات الإنتاج والتوزيع هي التي طلبت من مندوبيها المسؤولين عن تنظيم العلاقة مع الإعلاميين ورفض منح غالبية الصحافيين أي مقابلات مع نجوم أفلامهم في موقف غير واضح بعد، ولو أن مسألة تحديد النفقات قد تكون أحد الأسباب.

نتيجة ذلك وجّه نحو 50 صحافياً رسالة احتجاج لمدير مهرجان «ڤينيسيا» ألبرتو باربيرا الذي أصدر بياناً قال فيه إنه على اتصال مع شركات هوليوود لحلّ هذه الأزمة. وكذلك كانت ردّة فعل عدد آخر من مديري المهرجانات الأوروبية الذين يَرون أن حصول الصحافيين على المقابلات حقٌ مكتسب وضروري للمهرجان نفسه.

لا تمثّل «جمعية هوليوود للصحافة الأجنبية» إلّا قدراً محدوداً من نشاطاتها السابقة

امتعاض

ما بدأ في «ڤينيسيا» تكرّر، بعد نحو شهر، في مهرجان «سان سيباستيان» عندما حضر الممثل جوني دَب المهرجان الإسباني لترويج فيلمه الجديد (Modi‪:‬ Three Days on the Wings of Madness) «مودي: ثلاثة أيام على جناح الجنون»، حيث حُدّد عدد الصحافيين الذين يستطيعون إجراء مقابلات منفردة، كما قُلّصت مدّة المقابلة بحدود 10 دقائق كحد أقصى هي بالكاد تكفي للخروج بحديث يستحق النشر.

نتيجة القرار هذه دفعت عدداً من الصحافيين للخروج من قاعة المؤتمرات الصحافية حال دخول جوني دَب في رسالة واضحة للشركة المنتجة. بعض الأنباء التي وردت من هناك أن الممثل تساءل ممتعضاً عن السبب في وقت هو في حاجة ماسة لترويج فيلمه الذي أخرجه.

مديرو المهرجانات يَنفون مسؤولياتهم عن هذا الوضع ويتواصلون حالياً مع هوليوود لحل المسألة. الاختبار المقبل هو مهرجان «برلين» الذي سيُقام في الشهر الثاني من 2025.

المديرة الجديدة للمهرجان، تريشيا تاتل تؤيد الصحافيين في موقفهم. تقول في اتصال مع مجلة «سكرين» البريطانية: «الصحافيون مهمّون جداً لمهرجان برلين. هم عادة شغوفو سينما يغطون عدداً كبيراً من الأفلام».

يحدث كل ذلك في وقت تعرّضت فيه الصحافة الورقية شرقاً وغرباً، التي كانت المساحة المفضّلة للنشاطات الثقافية كافة، إلى حالة غريبة مفادها كثرة المواقع الإلكترونية وقلّة عدد تلك ذات الاهتمامات الثقافية ومن يعمل على تغطيتها. في السابق، على سبيل المثال، كان الصحافيون السّاعون لإجراء المقابلات أقل عدداً من صحافيي المواقع السريعة الحاليين الذين يجرون وراء المقابلات نفسها في مواقع أغلبها ليس ذا قيمة.

الحل المناسب، كما يرى بعض مسؤولي هوليوود اليوم، هو في تحديد عدد الصحافيين المشتركين في المهرجانات. أمر لن ترضى به تلك المهرجانات لاعتمادها عليهم لترويج نشاطاتها المختلفة.