في الوقت الذي صدر فيه التقرير الختامي عن منتدى بطرسبورغ الاقتصادي الدولي، متضمنًا عدد وقيمة الصفقات التي تم توقيعها خلاله، يبقى موضوع العقوبات الاقتصادية الغربية ضد روسيا، والعقوبات الروسية «العكسية» ضد الغرب موضوعًا رئيسيا ضمن اهتمامات المسؤولين الروس، الذين يجمعون على ضرورة إلغاء أوروبا تلك العقوبات، ويحرصون على تطبيع العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، وتجاوز الأزمة بين الجانبين التي نشبت على خلفية التوتر في أوكرانيا وضم القرم إلى قوام روسيا الاتحادية.
وفي خلفية شبه إجماع في الأوساط الاقتصادية والسياسية الروسية على أن العقوبات ألحقت ضررًا بالاقتصاد الروسي، لا سيما القطاع المالي الذي حُرم نتيجة العقوبات من إمكانية الاستفادة من الموارد المالية الخارجية والتمويل والقروض طويلة الأمد، تبرز أصوات من الأوساط نفسها تدعو إلى التريث في إلغاء العقوبات، وترى فيها محفزا لتنمية الصناعة وللاقتصاد الوطنيين على المدى البعيد.
وكان سيرغي إيفانوف، مدير الديوان الرئاسي الروسي، قد أعرب عن قناعته بأنه من الأفضل بقاء العقوبات الأميركية والأوروبية ضد روسيا، التي يرى فيها كبير المسؤولين في إدارة الكرملين محفزًا يدفع قدمًا عجلة تطور الصناعة الوطنية، وفي حديث تلفزيوني له قال إيفانوف إنه شخصيًا يريد لو أن يستمر العمل بالعقوبات ضد روسيا، معيدًا إلى الأذهان أن روسيا تتحدث دوما حول «التنوع الاقتصادي»، وضمن رؤيته لهذا الأمر يصف إيفانوف العقوبات بالمثل القائل «رب ضارة نافعة»، ويقصد بالطبع أن العقوبات التي يظنها البعض «ضارة» ستكون «نافعة» للصناعة الوطنية، ويقول بهذا الصدد إن «العقوبات قد تسببت في أضرار جسيمة لروسيا بالطبع، إلا أن المرحلة الأسوأ قد مضت وأصبحت خلفنا». وكمثال من الواقع أشار إيفانوف إلى قطاع الصناعات الكيميائية الذي سجل نموا سنويا يقدر بين 30 و35 في المائة، حسب قول إيفانوف، الذي يرى أنه «يجب الاعتزاز بهذه النتيجة، وهذا كله بفضل العقوبات».
وتوقف إيفانوف عند وضع مدخرات روسيا وبصورة رئيسية صندوقي الاحتياطي والرفاه، وكان لافتًا أنه وفي الوقت الذي يحذر فيه غالبية رجالات الاقتصاد في الدولة من احتمال إنفاق روسيا تلك المدخرات، إن لم يتغير الوضع، أعلن إيفانوف أنه «وبفضل سياسة البنك المركزي، فإن مستوى التضخم يتراجع، بينما تنمو احتياطات روسيا من الذهب والعملات الصعبة، وصندوق الاحتياطي وصندوق الرفاه لم تتراجع مدخراتهما». وبهذا الشكل فإن مدخرات روسيا لم تتأثر بالعقوبات الاقتصادية الغربية، وفق ما يرى إيفانوف.
وبالنسبة لأوروبا فإن مدير الديوان الرئاسي الروسي يصف الوضع الاقتصادي فيها بأنه ليس على ما يرام، لافتًا إلى أن «ثلاث سنوات من الحظر على الصادرات الأوروبية التقليدية إلى روسيا تضرب بمصالح قطاع الأعمال الأوروبي وليس الروسي، ويوما بعد يوم تصبح الضربة أكثر ألمًا»، حسب إيفانوف الذي يوضح أن «الأوروبيين قد أدركوا أن روسيا صمدت بوجه العقوبات، وأظهر اقتصادها حالة من الاستقرار وقدرة على التكيف، بينما يتراجع حجم الضرر الناجم عن تلك العقوبات»، ليستنتج بعد ذلك أن الأوروبيين قد أدركوا أن عقوباتهم غير مجدية، وأن روسيا لم تعان من أي عزلة، نظرًا لأن «هناك في العالم آخرين غير أوروبا وأميركا»، وعلى الرغم من هذا لم يخف إيفانوف آماله بأن تلغي أوروبا عقوباتها، حتى إنه عرض توقعاته بهذا الصدد، مرجحًا أن الأوروبيين «لن يعلنوا إلغاء العقوبات خلال هذا العام»، لكن قد يفعلون ذلك في نهايته.
تجدر الإشارة إلى أن العقوبات الغربية ضد روسيا كانت موضوعًا رئيسيًا هيمن على أجواء عمل منتدى بطرسبورغ الاقتصادي، حيث أمل كثيرون أن يتمكن الجانبان من تجاوز الأزمة والوقوف على بداية درب التطبيع مجددًا، إلا أن رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكو وضع النقاط على الحروف بهذا الصدد في اليوم الأول من أيام منتدى بطرسبورغ، حين شدد على أن إلغاء العقوبات ممكن، لكن بعد تطبيق اتفاقيات مينسك الخاصة بتسوية الأزمة الأوكرانية، وكان قد اتهم روسيا، في موضوع شبه جزيرة القرم، بأنها «سلخت» أراضي الغير بالقوة، وقد ردت روسيا على تصريحات يونكر موضحة أن الطرف الذي تجب مطالبته بتنفيذ اتفاقيات مينسك هو السلطات الأوكرانية وليس روسيا.
رغم ذلك فقد حمل منتدى بطرسبورغ مؤشرات إيجابية حول إمكانية تحول نوعي في العلاقات قريبا بين روسيا والاتحاد الأوروبي، وإلغاء العقوبات بين الجانبين، ومن تلك المؤشرات مشاركة جان كلود يونكر التي قال فلاديمير تشيجوف، مندوب روسيا الدائم لدى الاتحاد الأوروبي، في تعليقه عليها، إن «واقعة مشاركة يونكر بحد ذاتها ومحادثاته مع بوتين تشكل خطوة نحو الأمام في تطبيع العلاقات بيننا»، لا سيما أن رئيس المفوضية الأوروبية أعرب بوضوح عن رغبته في إعادة العلاقات إلى سابق عهدها.
من جانب آخر، دعا الرئيس الفرنسي السابق نيكولاي ساركوزي روسيا إلى أن تبادر أولاً في التطبيع وتلغي العقوبات «العكسية» التي اعتمدتها ضد المنتجات الغذائية الأوروبية، وهو ما رد عليه بوتين، مبديًا استعداده لاتخاذ الخطوة الأولى، لكنه شكك بأن ترد أوروبا بالمثل.
أما العامل الأهم الذي قد يترك أثرًا واضحًا على محاولات إعادة العلاقات الروسية - الأوروبية إلى سابق عهدها فهو رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينتسي، الذي وصل إلى بطرسبورغ يرافقه وفد كبير من الشخصيات الرسمية ورجال الأعمال، الذين كانت لهم مشاركة واضحة في المنتدى، بينما أجرى رينتسي محادثات ودية جدا مع بوتين، وقع الجانبان في ختامها اتفاقيات وصفقات بقيمة 1.3 مليار دولار، شملت قطاعات البناء والطاقة وتكنولوجيا الكهرباء والبنى التحتية وتمويل المشاريع.
وإلى جانب الدور الذي ستلعبه تلك الصفقات في إعادة المياه إلى مجاريها بين موسكو وبروكسل، أعرب رينتسي عن نيته الدفع لجعل موضوع العقوبات الأوروبية ضد روسيا ضمن أولويات الاتحاد الأوروبي في الوقت القريب، في إشارة منه إلى نيته الضغط لإلغائها.
أخيرًا يمكن القول: إن منتدى بطرسبورغ الاقتصادي الدولي حقق نتائج جيدة بالنظر إلى الأزمة التي تعصف بالاقتصاد الروسي حاليًا، إضافة إلى توتر العلاقات مع الغرب، وأكد أنطون كوبياكوف، مستشار الرئيس الروسي ومدير المنتدى، أنه تم توقيع 332 اتفاقية بقيمة 1.024 تريليون روبل، أي ما يعادل 15.5 مليار دولار أميركي، موضحًا أن «العدد الإجمالي للاتفاقيات الرسمية التي تم توقيعها خلال المنتدى وصلت إلى 332 اتفاقية، بقيمة إجمالية زهاء 1.024 تريليون روبل، وهذه الاتفاقيات هي التي تم تسجيلها رسميا».
مدير الديوان الرئاسي في موسكو يرى فائدة في العقوبات الأوروبية
على عكس إجماع الأوساط الاقتصادية والسياسية الروسية
مدير الديوان الرئاسي في موسكو يرى فائدة في العقوبات الأوروبية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة