هل محركات العلم الدقيق ذاتية أي نظرية خالصة؟ أم هي نتاج الظروف المحيطة به: دينية واقتصادية وسياسية واجتماعية؟
هذه إشكالية لقضية شائكة، الحسم صعب فيها. ينتمي عمل الذين يركزون على العوامل الخارجية المؤثرة في العلم، إلى ما يسمى سوسيولوجيا العلم. وهو يهدف إلى دراسة التطورات السوسيوتاريخية-اقتصادية، وعلاقتها بتطور العلم، أي دراسة العلاقة القائمة بين العلم والمجتمع تأثرا وتأثيرا. فمثلا عندما نسأل ما علاقة نيوتن بالرأسمالية؟ لماذا ترتفع نسبة العلماء في تخصص معين في زمن ما؟ لماذا تنمو أو تضمحل بعض التخصصات العلمية؟ ما علاقة العلم بالمؤسسات والمنح والجوائز والترقية، أو منع كل ذلك؟ فهذه القضايا كلها تدخل في إطار سوسيولوجيا العلم، وإجمالا فإن سوسيولوجيا العلم تأخذ بثلاثة مستويات وهي:
* النظر للعلم في إطار الثقافة السائدة (قوانين ومؤسسات دينية واجتماعية وغيرها)، فهي إما مسرعة أو مبطئة.
* البحث في مؤسسة العلم، باعتبارها نواة تتشكل من شبكة علاقات وقيم معرفية وثقافية، تتحكم في سلوكات ومنجزات المجتمع العلمي. وهو ما يصطلح عليه المتحد العلمي. فمؤسسة العلم هي جماعة كاملة الأركان.
* أما المستوى الثالث، فيقف عند وظيفة العلم في المجتمع، وتفاعل المؤسسة العلمية مع المؤسسات الأخرى المشكلة للبنية الاجتماعية ككل. وهنا نذكر بعلاقة المسجد كمؤسسة دينية إسلامية، بالمراصد كمؤسسات علمية فلكية.
سنتوقف هنا، عند الجانب الديني أساسا، لنرى كيف أن تأويله قد يلعب دور المحرك ودور الكابح في الوقت نفسه. وسنضرب لذلك مثلين: الأول، يتعلق بعلم الهيئة العربي وتأثير الرادع الشرعي فيه سلبا وإيجابا. والثاني اقتران المسجد بالفلك.
1 - الرادع الشرعي والفصل بين التنجيم وعلم الهيئة: حينما يكون الدين محفزا إبستمولوجيا.
عند ظهور الإسلام، سيعمل الرادع الشرعي على تحويل علم الفلك الفطري إلى علم أصيل، خاصة أن الإسلام يرفض أن يعطي للسماء بنجومها وكواكبها أي مضامين تنبؤية، بمعنى أن الغيب وتسيير شأن العالم والناس، هو رباني خالص وليست هناك وسائط. ولقد جاء في القرآن الكريم: «قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله». وهذا الأمر سرع عند الفلكيين المسلمين، عملية فصل التنجيم وعزله عن علم الهيئة وكانا دائمين مترابطين. والتقسيم كالآتي:
* علم الفلك الخالص، أو ما سماه المسلمون بعلم الهيئة، وهي تسمية ذكية جدا، إذ يهتم فقط، بالحسابات والبحث عن صور هندسية لتحديد مواقع النجوم، ومن ثم الحصول على جداول فلكية أكثر دقة تسمى الأزياج. ولعل أحسن تعريف لعلم الهيئة، هو ذلك الذي قدمه الشيخ الرئيس ابن سينا (متوفى عام 1037م)، إذ يحصر علم الهيئة في معرفة «حال أجزاء العالم وحال الحركات التي للأفلاك وتلك التي للكواكب، وتقدير الكرات والقطوع والدوائر التي تتم بها الحركات، وعمل الزيجات والتقاويم». وكما يبدو بوضوح، أن التعريف خال من أي إشارة إلى «أحكام النجوم» أي التنجيم.
* علم أحكام النجوم، أي التنجيم أو النجامة. بمعنى استغلال الفلك لأغراض تنبؤية، ومعرفة طالع الناس. فالتنجيم ينطلق من أن السماء بكواكبها، تؤثر في تفاصيل حياة الناس. وهو ما كان مرفوضا قطعا في الإسلام. لكن هذا، لا يعني أن التنجيم توقف. بل بالعكس، استمر وبطلب الخلفاء أنفسهم أحيانا. فها هو الخليفة العباسي المنصور، يحيط نفسه بالمنجمين. بل طلب ترجمة الفلك أحيانا، ليس لأغراض علمية صرفة، بل للتنبؤ بمستقبله.
ولمزيد من معرفة مستوى النضج الذي وصل إليه علم الفلك، والفرق بينه وبين التنجيم، نذكّر بما قاله ابن خلدون في الموضوع: إن علم الهيئة ينظر في حركات الكواكب الثابتة والمتحركة والمتحيرة، ويستدل بكيفية تلك الحركات على أشكال وأوضاع للأفلاك، لزمت عنها هذه الحركات المحسوسة بطرق هندسية. أما التنجيم، وقد كان يسميه صناعة النجوم، ويزعم أصحابها أنهم يعرفون الكائنات في عالم العناصر، ويقصد عالم الكون والفساد، أي العالم الأرضي، قبل حدوثها، من قبل قوى الكواكب وتأثيرها في المولدات العنصرية مفردة ومجتمعة، قدمت هذا التقسيم الذي اتخذ شكلا واضحا في التربة الإسلامية، إذ جرى رسم حدود دقيقة بين علم الهيئة، أي الفلك خالصا، وعلم أحكام النجوم، لكي أبين كيف أن العامل الديني هنا، كان محفزا إبستمولوجيا، أو لنقل محركا أو مسرعا.. لم لا؟
2 - اقتران الفلك بالمسجد
عندما جاء الإسلام، شرع الكثير من الأحكام التي لها ارتباط بالظواهر الفلكية. ويكفي الإشارة إلى أن المراصد الفلكية كانت تبنى تحت مظلة قانون الأوقاف، لأن الفلك كان من العلوم الخادمة للدين. فنجد القرآن الكريم مثلا، فرض على المسلمين أن يولوا وجوههم شطر الكعبة أثناء الصلاة. فقد جاء في سورة البقرة: «فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره». والكعبة كما نعلم موجه فلكي.
أما حديثنا عن أوقات الصلوات الخمس، فهي تختلف من بلد لآخر ومن يوم لآخر. وهو ما يتطلب معرفة دقيقة بالفلك. فمثلا على الميقاتي أن يكون على دراية بخط عرض البلد، وحركة الشمس في فلك البروج، وموقع الكعبة، وسمت القبلة، ناهيك بأن أحكام الشريعة في الصوم، حملت الفلكيين على البحث عن المسائل العويصة المرتبطة بشروط رؤية الهلال. فعلم الميقات الذي تشكل في التربة الإسلامية، هو في حقيقته، علم القياس الفلكي للوقت بواسطة الشمس والنجوم، من أجل تحديد مواقيت الصلوات الخمس.
لا شك أن فائدة علم الفلك كموطئ للدين، قد حظيت بإقرار شامل في الإسلام. فالمساجد بالضرورة، لا يمكن أن تخلو من بعض المعطيات الفلكية لرعاية المواقيت. وهنا نذكر بالعالم ابن الشاطر (توفي سنة 1375م). فقد كان نموذجا للعالم الفلكي ذي التكوين العالي، ويشتغل كميقاتي الجامع الأموي. فالفلك والمسجد، كانا مقترنين في الإسلام.
وما دفع علماء الدين إلى الاهتمام بعلم الهيئة، هو ما جاء في الذكر الكريم، من الآيات التي تبرز أهمية الأجرام السماوية وحركاتها ومنافعها الكبيرة. يقول تعالى: «إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب». وقوله أيضا: «تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا».
إذا كان من الثابت في العلم الدقيق، أنه يتحرك بالأساس، انطلاقا من الإشكالات النظرية المحضة، وسبب حركته الأساس في ذاته، فالإشكالات العلمية هي هي، منطقها خاص، سواء أكانت عند ناطق باليونانية، أو السوريانية، أو الهندية، أو الفارسية، أو العربية، أو اللاتينية. فما طرحه فيثاغورس وإقليدس بالإغريقية، من قضايا في الرياضيات، بقي هو هو عند الرياضيين العرب. وما أنجزه بطلميوس الإغريقي في الفلك، بقي هو هو عند الفلكيين العرب. وما طرحه أبقراط أو غالينوس في الطب، لم يتأثر بنقله إلى العربية. والشيء نفسه يقال عن الانتماء العقدي. فالعلم لا يبالي بذلك. والعلماء يتواصلون فيما بينهم، مهما اختلفت انتماءاتهم الدينية. وهو ما يجعلنا نفهم لماذا مثلا، كان يلقب بطلميوس من طرف الفلكيين العرب بالفاضل، ورئيس الفن الفلكي على الدوام، على الرغم من الاختلاف الجذري معه لغة وعقيدة.
لكن، وعلى الرغم من هذا الأمر الثابت في العلم، فهناك متغيرات هي بمثابة العوامل التي تلعب دورين متناقضين: دور إيجابي دافع ودور سلبي كابح، ويتمثلان في الاقتصاد والسياسية والدين. فكلما تم تخصيص هوامش للعمل العلمي، وتشجيع العلماء على العطاء، وتوفير جو العمل بتنافس لا يهدد الحياة، فإن هذا يؤدي إلى استقطاب الباحثين من كل أنحاء المعمورة، للانخراط في المشكلات العلمية التي لا انتماء لها. فهي عقلية، والعقل أعدل قسمة بين البشر كما يقول ديكارت.
وهذا بالضبط ما حدث في بيت الحكمة العباسي. فهو كان عاملا مدعما للانخراط في أكبر ورش علمية عرفتها القرون الوسطى. فالسياق السوسيو اقتصادي العام، قد يقتل همة العلماء ويثبط مجهودهم، فينكمش العلم إلى حين. فغياب الدعم السياسي والتمويل المالي، وخنق حرية العلماء، هي أمور سنقول عنها إنها مبطئ إبستمولوجي. وهو ما حصل أيضا، عندما تم تعطيل الآيات القرآنية التي تدعو إلى البحث والتأمل. ومن أمثلة الآيات القرآنية الداعية للتدبر والتفكر في الكون نجد قوله تعالى: (قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). وقوله: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ). وقوله: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلّا بِالحَق). وجرى حصر النص القرآني في العلوم الشرعية فقط. بل تمت مهاجمة العلوم الحقة، وتسميتها بأسماء ٳقصائية من قبيل: علوم دخيلة، علوم العجم، وغير ذلك. وكأن الكون ليس كتاب الله المنظور إلى جانب كتابه المسطور. فأصبح البحث عن مراد الشارع وقصده، يتركز على الشرعيات مهملين أن البحث عن مراده وقصده، يمكن أن يكتشف من ثنايا كتابه الأكبر، وهو كتاب العالم. فهذه كانت مثلا كوابح توقف العلم الدقيق وتجمد فاعليته.
في الختام نقول، بمجرد أن ظهرت المسرعات في جغرافية الغرب، انتقل العلم الدقيق إلى هناك. فالعلم البحت محركه في ذاته. وهذا هو الأصل فيه، ولكنه يحتاج إلى المهماز والمحفزات التي هي عوامل مساعدة.
العوامل المسرعة للعلم.. وتلك الكابحة له
حينما يكون الدين محفزًا إبستمولوجيًا ويدعو للبحث والتأمل
العوامل المسرعة للعلم.. وتلك الكابحة له
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة