خبز المعروك وخبز الناعم و»النهش» والقطائف بجوز والقطايف بقشطة والمربيات وكافة أنواع الحلويات الشامية الخاصة بشهر رمضان، خرجت من خلف زجاج فاترينات العرض لتأخد مكانها على البسطات في الشوارع الى جانب أنواع مما لذ وطاب في اسواق دمشق من أطعمة وعصائر رمضانية؛ جلاب، عرقسوس، تمر هندي، قمر الدين، لتشكل معا لوحة تعكس هوية العادات والاسواق الدمشقية العريقة، كسوق الشيخ محي الدين بن عربي على سفح قاسيون وسوق باب سريجة في المدينة القديمة، وسوق الجزماتية في حي الميدان، وسوق الشعلان في الصالحية وسط دمشق. كل شيء في دمشق يتلون بألوان الشهر الفضيل ويتحرك وفق إيقاعه، ويجري الآن كما جرت العادة مع فارق أنه بلا روح.
وصار من الاعتيادي ان تشاهد في الأسواق الشعبية التي اشتهر بوفرة ورخص بضائعها عبارة «لاتصفر عند قراءة السعر» الى جانب لوحة الاسعار. ويكفي أن يقرأ المرء أن سعر ثلاثة قطع ناعم يعادل 600 ليرة، حتى يصفر أو يشهق. الناعم نوع من الخبز المقلي والمقرمش مرشوش بدبس العنب وهو ارخص انواع الحلويات ويباع على الارصفة في شهر رمضان حصرا وينادون باعته «وقعت ولا الهوا رماك يا ناعم» وقعت أم ان الهوا رمى بك يا ناعم». ويذكر هذا النداء السوريين بحالهم بعد ان اوقعهم هوا الحرية بالثورة على نظام شن عليهم حربا لا تبقي ولا تذر. وهاهو شهر البركة يهل عليهم للمرة السادسة بينما هم غرقى بدمائهم وهمومهم، فيبدو كل شيء بائس وحزين.
السيدة لمياء تتجول في سوق الشعلان ممارسة احدى عاداتها المحببة وهي الفرجة على الخضار والفواكه المصفوفة بعناية على البسطات في هذا السوق الذي يؤمه الميسورن نظرا لجودة بضائعه وشدة تنوعها وارتفاع ثمنها، وهو السوق الذي يقال أنه يوجد فيه لبن لعصفور، كناية عن العثور فيه على كل ما ترغب فيه النفس. تقول لمياء: «كنا ننتظر رمضان لنتسوق من الشعلان ما كنا لا نتسوقه في الأيام العادية، كاللوز المنقوع بالماء والجوز الأخضر والبقلاوة، والشراء كان بكميات تكفي لولائم افطار نتعازم عليها مع الأهل والأصدقاء، لكن الآن ننظر وبالكاد نشتري عينات صغيرة مما نشتهي. قبل سنوات كنت قبل حلول رمضان بأسبوع اشتري عشرة كيلو موالح مشكلة، بخمسة آلاف ليرة، اليوم اشتريت أوقية بزر قرع وأوقية فستق ثمنها 1200 ليرة سورية. أما الحلويات العربي لم اقربها فالكيلو جودة متوسطة ثمنه 11 الف ليرة.
وبينما اكتظت اسواق العاصمة قبل يوم من بدء شهر رمضان المبارك، فإن الشوارع كادت أن تخلو خلال اليومين الأول والثاني من بدء الشهر، حيث تراجعت الحركة لتبدو في منتصف الاسبوع الذي يشهد عادة اختناقات مرورية لاسيما عند الحواجز، اشبه بيوم الجمعة العطلة الاسبوعية، وحواجز مثل حاجزي الميسات وابو رمانة الذين يستغرق اجتيازهما ما بين ساعة الى نصف ساعة، كان عبورهما باقل من عشر دقائق، حسب ما قال ابو تمام بياع العرقسوس، الذي ينتظر موسم رمضان بفارغ الصبر ليبيع هذا المشروب الرمضاني الشهير. ويتابع «الناس جفلانة في بيوتها. الجميع يشعر بالقرف والملل. وأيام البؤس طالت علينا»، متأملا في تحسن حركة الأسواق منصف رمضان.
من جهتها تفسر عليا (كوافير نسائي) تراجع الحركة لا سيما في صالونات التجميل في الايام الأولى من الشهر الفضيل الى الوضع المعيشي، وتقول ان صالونها في الأيام العادية يستقبل ما بين 10 الى 20 زبونة يوميا، اما هذه السنة فلم يطرق بابه نهائيا، مشيرة الى أنه «قبل خمس سنوات كان اهل دمشق ينشطون بالدعوات الى حفلات افطار عائلية أو نسائية في البيوت أو المطاعم، ومعظم السيدات كن يأتين الى الصالونات خلال ساعات الصيام للتزين والتجميل، لتبلغ ذروة الحركة في الاسبوع الأخير قبيل العيد بحيث تستمر الصالونات في العمل 24 ساعة. لكن هذه العادات تراجعت كثيرا مع انعدام الأمان وهجرة الأبناء وارتفاع الاسعار، فالغالبية باتت تتناول الافطار في منزلها. كذلك نادرا ما تجد اليوم عائلة سورية مجتمعة، فقد تشتت افرادها كل في بلد، واذا ما اجتمعوا فيكون افتراضيا عبر الانترنت.
الصيدلانية ندى حكت عن فوضى الأسعار التي سبقت شهر رمضان ومن ثم ما اعلنته الحكومة عن تخفيض في مؤسساتها الاستهلاكية في أسعار بعض المواد الغذائية الأساسية الى ما يعادل سعر التكلفة، واجبار التجار على تخفيض اسعارهم. وقالت: «سرعان ما اكتشف الناس أن هناك لعبة تذاكي من الحكومة والتجار، فالأسعار لم تتراجع، والعرض الذي قدمته الحكومة في مؤسساتها بسعر الكلفة عبارة عن سلة غذائية فيها العديد من المواد بقيمة عشرة آلاف ليرة ، ولكي يحصل المواطن على خمسة كيلو سكر بسعر 225 ليرة للكيلو، عليه ان يشتري عددا من المواد الأخرى غير اللازمة، كالحلاوة والمربى والعصير والمرقة المجففة!» وتحكي ندى نكتة رائجة بين السوريين «أن كثرة الناس في الأسواق لا تعني بالضرورة وجود حركة بيع، فأغلبهم يخرج الى السوق لوضع لايك على البضائع».
وكانت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك قد أعلنت عن وضعها خطط تموينية جديدة في رمضان لضبط الأسعار، تعتمد على تقسيم مدينة دمشق إلى أربعة قطاعات رئيسية لمراقبتها. وتسهيل مراقبة الريف وإغلاق جميع المحلات التي تتم مخالفتها والتي تتعلق بالمواد الاساسية الغذائية والقيام بجولات ميدانية للتأكد من حسن تطبيق الاجراءات المتخذة والتشدد بتطبيق القوانين والقرارات النافذة بالإعلان عن الأسعار وتداول الفواتير».
وطلب وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك جمال شاهين، من التجار خلال لقاء عقده معهم، تخفيض اسعارهم بحدود 20%، مهددا باتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة لضبط هذه المخالفات.
وفي جولة على الأسواق، يتضح ان التخفيض لم يتجاوز العشرة بالمائة، والسبب ان التجار اشتروا بضائعهم وكان سعر صرف الدولار مرتفعا. كل دولار واحد يعادل 640 ليرة، وعندما انخفض الى 450 ليرة قبل يوم من بدء رمضان لم تنخفض الاسعار.ويعلق سامر (تاجر في سوق الكهرباء) على اجراءات الحكومة السورية، بأنها «اجراءات وهمية لذر الرماد في العيون، فالمراقبون يجولون في الاسواق على صغار التجار أو الموزعين ويتقاضون منهم رشاوى كي لا ينظموا ضبوطا بحقهم. المراقبون يعرفون أن تحديد الاسعار ليس بيد تجار المفرق بل بيد كبار تجار الجملة في سوق الهال، هؤلاء لا احد يجرؤ على مراقبتهم والزامهم بتخفيض الاسعار».
رمضان في دمشق.. الناس تلزم منازلها والأسواق بلا روح
المراقبون يعرفون أن تحديد الأسعار ليس بيد تجار المفرق بل بيد كبار تجار الجملة
رمضان في دمشق.. الناس تلزم منازلها والأسواق بلا روح
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة