بالانتقادات والاعتراضات تمت مواجهة «المتحف الفلسطيني» في بعض الصحف الغربية. وإن كان هذا طبيعيًا حين يتعلق الأمر بذاكرة شعب يتمنى له البعض لو يختفي أثره من الوجود، فإن المستغرب هو أن تشارك أصوات فلسطينية في حملة غير مبررة، لا حجة لها سوى الاعتراض على افتتاح المتحف قبل أن يصبح زاخرًا بالمقتنيات أو يتمكن من تنظيم معرض ما.
يستغرب رئيس فريق عمل المتحف عمر القطان من «حملة مغرضة وظالمة، لا تقدر الجهود التي بذلت، لإقامة هذا المتحف، وسط ظروف صعبة واستثنائية. فمجرد بناء متحف لفلسطين هو إنجاز، فما بالك حين يكون قطعة فنية في هندسته، على أرض، تعيش تحديات خاصة جدًا منذ أكثر من ستة عقود». لم يأت الافتتاح مصادفة ولا ضرب عشواء «قررنا أن نفتتحه في الوقت الحالي، لأن الظروف صعبة. ثمة إحباط ويأس، خصوصًا عند الشباب. هناك عدم ثقة بالأفق السياسي، مع انقسام عميق وحروب أهلية وتشرذم وتدمير ذاتي. ارتأينا، أن وجود مشروع جميل أمر يبعث على الأمل والتفاؤل». ويضيف القطان: «تفاجأنا بالهجوم وشراسته. نيويورك تايمز، مثلاً، رأت أننا، من خلال المتحف، نعكس الفشل العام الموجود في السلطة. هذا أمر غريب. إنه مشروع خاص لا علاقة للسلطة فيه. وقد تأخرنا في العمل بسبب عدم وجود مختصين، ولأن الشخص المسؤول لم يكن يقدم ما طلب منه، وما يرضي تطلعاتنا، وليس عيبًا أن نقول إننا أخطأنا في خيارنا، وعلينا أن نصحح الخطأ، وقمنا بتعيين مسؤول جديد هو محمود هواري، والعمل تتم متابعته، والمعارض ستأتي في الشهور المقبلة».
في الثامن عشر من مايو (أيار) الماضي، صار لفلسطين متحفها على أرضها، بالقرب من جامعة بيرزيت، على تلة مرتفعة مشرفة، تحيط به حدائق لا تقل أهمية في مهمتها التوثيقية للنباتات عن الغاية التي من أجلها أنشئ المتحف نفسه.
فكرة المتحف قديمة، تعود إلى عام 1997، يوم كان أعضاء مؤسسة «التعاون» يتشاورون حول الطريقة التي يمكن من خلالها إحياء ذكرى النكسة الـ98، وطرح إبراهيم أبو اللغد اقتراحًا بإنشاء نصب تذكاري، مما طرح نقاشات طويلة، وارتأى البعض يومها، أن يتم العمل على فكرة لا تعود إلى الماضي وتتوقف عند البكاء على الأطلال، وإنما تعيش الحاضر، وتضيء على المستقبل. وحين تبلورت فكرة المتحف، دبت الحيرة، حول المكان الأفضل لإقامته، هل في القدس؟ حيث يستحيل على أهل الضفة والشتات أن يزوروه؟ خصوصًا أن إسرائيل من المحال أن تسمح بإقامته على أراضي 48، كما أن دخول فلسطينيي 67 إلى تلك المناطق أصبح معقدًا جدًا إن لم يكن مستحيلاً بعد أوسلو، وتكاثف عدد الحواجز التي قطعت أوصال فلسطين. العمل فعليًا لم يبدأ إلا من ثلاث سنوات ونصف السنة، حيث تم استئجار أرض بالقرب من جامعة بيرزيت لمدة 99 سنة، وأطلقت مسابقة دولية لاختيار التصميم، فاز بها مكتب آيرلندي هو «هينفان بينغ».
«التكنولوجيا ساعدتنا، وانطلقنا من فكرة لها علاقة بالخيال العلمي» يقول عمر القطان، الذي يتحدث عن المتحف بحماسة من يرى فيه حلمًا تحقق، «قررنا في النهاية أن نقيم سفينة ترسو في مكان معين ولها أقمار وشراكات وفروع حول العالم. ففي سنتياغو مثلاً يوجد 400 ألف فلسطيني، هؤلاء يجب أن نصل إليهم، وأن نلم الشتات عبر فكرة المتحف الذي يخص كل فلسطيني في العالم». ويكمل القطان شرحه بالقول إن «المتحف الذي افتتح على بعد 25 كيلومترًا من القدس هو السفينة الأم، والأقمار الاصطناعية هي المعارض التي سنقيمها عبر شركائنا حول العالم، باسم المتحف، كان أولها هو الذي يقام حاليًا في بيروت للتطريز الفلسطيني، مع دار نمر». المتحف على شفا إتمام اتفاق مع مؤسسة «طراز» التي تملك أكثر من 20 في المائة من مجموعة الأثواب التراثية العربية لسوريا ولبنان وفلسطين والعراق. و«وداد قعوار كانت لديها الرغبة في إعطائنا المجموعة، لكن نقل أي معروضات إلى الأراضي الفلسطينية، أمر يجب أن ندرسه في كل مرة بعناية. نحن نريد أن نحافظ على مقتنياتنا، ونجد لها المكان الأكثر أمنًا». على أي حال، نقل أي مجموعات من الخارج هو أمر صعب، ودونه تعقيدات. في فلسطين مجموعات شبه جاهزة للمتحف، منها صور إميل حبيبي التي حصل عليها، ومجموعة ملصقات من السبعينات إلى يومنا هذا. ويتم العمل على جمع أرشيف، في مواضيع كثيرة. فقد تم البدء بجمع ألبومات العائلات للصور الفوتوغرافية، بحيث يطلب من الناس، أن يزودوا المتحف بما لديهم بدل أن يرموها. هناك أيضًا فكرة جمع لفيديوهات الأعراس التي هي مهمة جدًا للتاريخ والتوثيق وبعض الدراسات، وأرشفة التسجيلات الصوتية، هذا عدا الوثائق المطبوعة وتلك التي بخط اليد، وهناك الصحف التي لا يهتم أحد بها.
يحدثك عمر القطان عن مشاريع تدرك أنها تحتاج عملاً تراكميًا لسنوات كثيرة مقبلة، ومساحة جغرافية تتجاوز 3500 متر التي تشكل سعة المتحف الحالي. ولذلك فالاتفاق مع جامعة بيرزيت يسمح بإقامة مبنى ثانٍ يلحق بالمتحف بمجرد أن تستدعي الحاجة وتسنح الفرصة. الرؤيا المرسومة، ليست رهن زمن محدد وقصير، التطلع هو لإقامة قاعدة معرفية توثيقية، عليها تبني أجيال مقبلة. هناك مشروع أطلق عليه اسم المسرد الزمني، سيتم إنجازه مع «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» يقوم على بناء رحلات فلسطينية عبر الزمن، للتعرف على المحطات المهمة، بطريقة «الفيزيو ليرنينغ»، وذلك منذ عام 1936 إلى اليوم، بشكل سلس ومتعمق. بحيث يتمكن الزائر إذا ما أراد التمعن في محطة ما أن يتوقف عندها ويسافر في أحداثها، وعندما ينتهي يعود إلى الخط الزمني ليكمل رحلته. لا يراد لهذا المتحف أن يكون مجرد مكان لعرض بعض المحتويات ورفع العتب، إنه نقطة مركزية لحركة نشطة تسعى لفهم وقراءة فلسطين حاضرًا وماضيًا، وكيف يمكنها أن تكون مستقبلاً. عمر القطان بالجهد الذي يبذله، وهو يسافر من مكان إلى آخر، مؤمن بأن «البلاد المكسورة تستطيع أن تقاوم بأنماط جديدة شديدة الحداثة، بعيدًا عن المبارزة المتواصلة والعقيمة مع خطاب صهيوني، لا تؤدي إلى شيء سوى المراوحة في الدائرة نفسها». «محطات تاريخية كثيرة لا تزال ضبابية مثل الفتح الإسلامي لفلسطين» يقول القطان، «نحن بحاجة لعمل كثير كي نجلي الغموض عن أحداث طويلة مرت بها المنطقة العربية».
يعمل المتحف وفق سياسة أفقية، أي التمدد جغرافيًا إلى كل أرض فيها فلسطيني. يصف عمر القطان هذه الاستراتيجية بأنها «تحدٍ للحدود السياسية المفروضة على الناس داخل فلسطين وخارجها، يكون المركز هو المتحف، لكنه يجد اكتماله في المعارض والنشاطات المرتبطة به التي ستقام في دول كثيرة أخرى».
الحدائق مهمة، بل تكاد توازي المتحف في أهميتها، فقد صممت لتقدم رواية للتاريخ النباتي في فلسطين، صممتها لارا زريقات، بحيث يبدأ الزائر زيارته من أسفل التلة صعودًا إلى المتحف، ليبدأ بالنباتات الأصيلة التي وجدت في فلسطين تاريخيًا، يقرأ حكايتها، ويتدرج في التعرف إليها ليصل إلى تلك التي تم استيرادها بمرور الوقت، وأصبحت جزءًا من المزروعات الفلسطينية.
المتحف افتتح، الاعتراضات لن تقف في وجه العاملين عليه، المهمة بالكاد بدأت والعمل لا يزال طويلاً ومضنيًا، ويحتاج مثابرة وكدًا.
«المتحف الفلسطيني» يواجه الاعتراضات ويمضي قدمًا
عمر القطان: افتتحناه الآن لنواجه الإحباط ونبث الأمل في قلوب الشباب
«المتحف الفلسطيني» يواجه الاعتراضات ويمضي قدمًا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة