حفلت الأشهر الماضية - ولا تزال حتى اليوم - بزيارات متبادلة عدة بين الرياض وعواصم دول أخرى في محيط آسيا الوسطى، التي تحتل الذاكرة العامة عنها تفكك الاتحاد السوفياتي، بينما نأت أغلب الدول عن المحيط الأوسط في القارة، في وقت أصبحت دول فاعلة في المجتمع الدولي على أهبة الرحيل عن مواقع في آسيا نتيجة تغييرات في سياسات الإدارة خاصة واشنطن، وكذلك موسكو التي لا تزال تحتفظ ببعض من الوجود العسكري.
خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز، في إطار جهود بلاده، التقى عددا من زعماء ومسؤولي دول في آسيا الوسطى ورئيس جمهورية أذربيجان، واتجهت الزيارات التي قصدت الرياض خلال الأشهر الماضية، إلى استشراف تعميق علاقات أسرع في خطاها من التحالفات الغربية في طريق الدبلوماسية والاقتصاد والتنمية، إضافة إلى تحقيق التقارب من أجل مكافحة الإرهاب.
وعلى الخطى ذاتها، وقع الأمير محمد بن نايف، ولي العهد وزير الداخلية السعودي، مع وزير الداخلية في جمهورية قيرغيزستان الجنرال، ميليس غانبايف، اتفاقية تعاون شاملة بين حكومتي المملكة وقيرغيزستان في مجال مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة والاتجار غير المشروع بالمخدرات والمؤثرات العقلية ومكافحة الفساد والجرائم المعلوماتية.
السعودية كانت سباقة إلى الاعتراف الرسمي بجمهوريات آسيا الوسطى، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، وتربطها العلاقات الجيدة معها منذ استقلالها، وافتتحت سفاراتها في عواصم تلك البلدان ذات الأغلبية المسلمة، على الرغم من الظروف المحيطة آنذاك التي تلت حرب تحرير الكويت في العام 1991؛ مما يعكس لدى المحللين أنها نظرة بعيدة المدى؛ حيث تعزز قوتها في تحقيق التنمية في البلدان كافة من خلال استعادة الاستقرار وليس فقط توفيره عبر أجنحة مؤقتة.
وتملك الدول الآسيوية - الواثبة بعد انكسار الستار الحديدي للاتحاد السوفياتي إلى تحقيق استقرار أصبح واضح الرؤية اليوم - موارد طبيعية وبنى اقتصادية، أهلت بعض هذه الجمهوريات إلى أن تصل إلى عضوية منظمة التجارة العالمية، ورصيدها الشعبي في معظمه يشكله المسلمون، وتعايش سلمي مثالي مع مكونات اجتماعية مختلفة، ويضم الإقليم السياسي الخاص بمنطقة آسيا الوسطى خمس دول: كازاخستان، تركمانستان، أوزبكستان، طاجيكستان، قيرغيزستان، وتركض أذربيجان بسنوات سابقة عن الجمهوريات الخمس، بعد استقلالها عن الجمهورية القوقازية قبل أكثر من مائة عام.
* لماذا دول وسط آسيا؟
تعد دول آسيا الوسطى ذات غالبية مسلمة، بموقع جغرافي مهم ومميز، وبثروات معدنية ونفطية كبيرة، باتت تستقطب دول العالم الكبرى، وتجتذب الاستثمارات الأجنبية لتمويل مشاريع استثمار ثرواتها الباطنية الهائلة إضافة إلى وقوعها على إحدى أهم طرق تصدير منابع الطاقة البترولية إلى أوروبا وشرق آسيا. كما تتمتع تلك الدول، باحتياطيات نفطية تعادل في كميتها تلك الموجودة في منطقة الخليج، وثروات طبيعية كبيرة من الذهب والفضة واليورانيوم والنحاس والزنك، فضلا عن الغاز الطبيعي والفحم وغيرها، ولدى بعضها القدرة على تخصيب اليورانيوم، ودول أيضا تحمل تحت عباءتها كميات كبرى من الذهب.
وإن كانت جامعة الدول العربية في مجلسها الوزاري أوصت في العام 2006 بالاستمرار في جهودها من أجل تطوير العلاقات وتكثيف الصلات مع عدد من دول العالم والتركيز على جمهوريات آسيا الوسطى؛لكنَّ فراغا ظل طوال تلك الأعوام، تلك التوصية العربية جاءت بعد أن تكشفت على مسرح الواقع أن الدول الخمس ومحيطها أقوى من تداول لعبة كانت تتناقلها الركبان الإعلامية أن مخططات غربية تتهيأ لإدخالها ضمن «شرق أوسط جديد»، وكانت بتماسك شعوبها وتماهي التطورات دورا في تحقيق البناء الذاتي بتراكم السنوات.
وقال أستاذ العلاقات الدولية، الدكتور عبد اللطيف السالمي، إن دول آسيا الوسطى وكذلك أذربيجان، تمتد في علاقاتهم مع العالم العربي بعلاقات تاريخية تحملها الشعوب التي تحترم الدول الإسلامية عامة والسعودية لريادتها الإسلامية، مشيدا خلال اتصال مع «الشرق الأوسط» بالخطوات السعودية نحو وحدة إسلامية مع تلك الدول، التي يرى أنها جاءت في وقت مناسب رغم التأخر عن تحقيق الأماني لدى شعوب جمهوريات وسط آسيا وتدعيمها بالتفاهمات السياسية، وسيحقق التحالف الإسلامي العسكري وكذلك استثمار الروابط الدينية مع التفعيل الثقافي مزيدا من القوة ويدعم المواقف السياسية الداخلية والخارجية بين البلدان، عادا أن السياسة السعودية على عمق كبير بمقدرة الأفعال على وضع سياستها بالتماشي مع المستجدات، لا السير مجبرة فقط على المسارات الراهنة التي تعاد فيها خريطة التحالفات بين دول الشرق والغرب.
وعلى الرغم من معظم تلك الدول لا تشرف على واجهة بحرية عدا أذربيجان، وقربها من مواقع مضطربة لتيارات متطرفة في أفغانستان وباكستان، ظلت دول آسيا الوسطى، بعيدة عن انتقال تلك النيران إليها؛ حيث كانت آخر موجة تهديدية في منطقة آسيا الوسطى حدثت خلال العام 1999 عندما نفذت ما يعرف بتنظيم «الحركة الإسلامية في أوزباكستان» هجمات في طاجيكستان وأوزباكستان وقيرغيزستان، لكن التنظيم انتهى بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) والتحق بركب التنظيمات الأخرى في أفغانستان.
وحتى الولايات المتحدة، لم يعد لديها ذلك الارتباط الكبير العملياتي في المنطقة الوسطى من آسيا، باستثناء حتما أفغانستان التي تحتفظ بمئات فقط، إضافة إلى بعض العمليات الأمنية التدريبية مع قيرغيزستان، وعن ذلك أشار الدكتور السالمي إلى أن الدول الغربية ظلت تنتهج مع دول آسيا الوسطى «عدم التفعيل» لأن المسرح الفاعل كان في أفغانستان وباكستان لأبعاد أمنية وسياسية، وإلى الصين لأبعاد اقتصادية، لكن الأزمات الاقتصادية لأميركا وروسيا على وجه التحديد، إضافة إلى التعاطي مع أزمات بلدان إسلامية، وتر العلاقة الأميركية مع شعوب المنطقة، فتبدلت مفاهيمها الاستراتيجية.
* رسائل التوافق بين الرياض وعواصم وسط آسيا
تعد الرياض، من أول وأكثر الدول العربية إقامة لعلاقات دبلوماسية تامة في مجمل دول آسيا الوسطى، مقارنة بدول عربية وخليجية تعتمد على السفراء غير المقيمين في التمثيل الدبلوماسي، وخلال أعوام ماضية، أيدت السعودية مبادرة أوزبكستان الخاصة ببناء ممر النقل الدولي أوزبكستان - تركمانستان وحتى قطر، الهادف إلى تنشيط التعاون الاقتصادي بين بلدان آسيا الوسطى والدول الخليجية؛ حيث تم الاتفاق على تنشيط التعاون في إطار هذا المشروع.
واعتبر الدكتور يحيى الزهراني، أستاذ العلوم الاستراتيجية بجامعة نايف العربية، أن انفتاح المملكة نحو أذربيجان ودول آسيا الوسطى استكمال لمساعي المملكة دائما لتدعيم أواصر التعاون بينها وبين الدول الإسلامية ودول العالم أجمع، وأضاف الزهراني أن الأبعاد التي توجه السياسة الخارجية أهمها هو «فتح آفاق جديدة للتعاون الاقتصادي بين الدول الإسلامية تهدف إلى دعم قدراتها ومواردها على مختلف المستويات».
وفي مجالات التعاون المتاحة يرى الدكتور يحيى الزهراني في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، أنه مع التغيرات التي تشهدها المنطقة على المستوى الإقليمي في موازين القوى وكذلك التغيرات في القوى الدولية، يعتبر ذلك الانفتاح مهما وذا أبعاد استراتيجية؛ إذ يعتبر الموقع الجغرافي مهما جدا لأذربيجان ودول آسيا الوسطى؛ نظرا إلى توجه العالم نحو آسيا، ونظرا إلى الموقع الجغرافي المهم لتلك الدول لأن لها حدودا مع كل من تركيا وروسيا، وكل من تلك الدول أصبح لها دور متزايد بالمنطقة، علاوة على ذلك، يشكل إطارا نفوذا دبلوماسيا متجددا للملكة في تعزيز علاقتها مع تلك الدول.
* مع أذربيجان
دولة ذات أغلبية مسلمة شيعية، لكنها تعاني كثيرا من التدخلات الإيرانية في شؤونها، كثيرا ما يقلق طهران التقارب السعودي الأذربيجاني، وظهرت بوادر التنسيق الاستراتيجي في زيارات رئيس الجمهورية إلهام علييف، إلى السعودية، إضافة إلى زيارات ثقافية خلال الفترة القصيرة الماضية، وتعد أذربيجان من الدول الداعمة للمواقف السعودية، وهو ذات الأمر الذي ينطبق في دعم السعودية لقضايا أذربيجان.
ومنذ ما يزيد عن خمسة عشر عاما، تم تأسيس لجنة سعودية أذربيجانية، عقدت الجلسة الأولى للجنة في العاصمة باكو وعقدت الجلسة الثانية في الرياض العام 2004. ويرتبط البلدان بتعاون شامل في مجالات استثمار الاقتصاد والتجارة والتكنولوجيا والثقافة والرياضة والشباب، فيما وتعمل حاليا في أذربيجان ست شركات سعودية في مجالات التجارة والصناعة والخدمات والصيرفة والتأمين.
* مع كازاخستان
تعتبر كازاخستان من أكبر دول آسيا الوسطى من حيث المساحة وتحتل المرتبة التاسعة على مستوى العالم من حيث المساحة الجغرافية، وتملك حجما كبيرا للثروات الطبيعية التي تجذب الاستثمار بفضل الاستقرار السياسي للجمهورية، وأبرمت السعودية وكازاخستان اتفاقيات عدة تنص على توسيع العلاقات الاقتصادية والاستثمارية بينهما، كذلك تعاون يشمل عدة مستويات وفي مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
وتشيد كازاخستان بمواقف المملكة العربية السعودية التي تراها من أوائل الدول الداعمة للجمهورية ماديا ومعنويا من خلال إقامة المشروعات بمدن جمهورية كازاخستان، وخاصة في بناء وإنشاء مشروع عمارة مجلس الشيوخ لبرلمان جمهورية كازاخستان على نفقة المملكة بلغت تكلفتها الإجمالية نحو 15 مليون دولار، ومشاريع طبية أخرى.
* مع قيرغيزستان
العلاقة الدبلوماسية بين البلدين آخذة في التطور، ووجود جمهورية قرغيزستان في المحيط الأوسط بآسيا يعجل بمثل هذه الخطوات، وتتجه السعودية إلى تفعيل ملفات عدة، ولعل أهمها الملف الأمني الذي تم توقيعه في جدة بين وزير الداخلية في البلدين، إضافة إلى تدعيم الرسائل الاقتصادية؛ إذ تعد الجمهورية إحدى أكبر البلدان ذات الطبيعة الزراعية التي تفتح أبوابها للاستثمار المعزز بالاستتباب الأمني، في ظل وجود البلدين كعضوين في منظمة التجارة العالمية، ويملكان الفرص الكبرى في المستقبل، وكذلك المواقف السياسية المتطابقة حيال بعض القضايا، التي يجب دعمها شعبيا.
* مع تركمانستان
لتركمانستان مزايا لا تختلف عن باقي دول المحيط الأوسط في آسيا، فمع امتلاكها لموارد طبيعية فريدة، فهي تمتاز بالاستقرار الأمني، ودعمها لمواقف السعودية الحازمة تجاه عدد من القضايا، وترتبط المملكة وتركمانستان باتفاقية تعاون عامة تشمل المجالات الثقافية؛ حيث تم التوقيع عليها في مايو (أيار) 2008.
وفي أوائل الشهر الحالي، وقعت الرياض وعشق آباد، بحضور خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، والرئيس التركمانستاني قربان محمدوف، عددا من الاتفاقيات، ومنها اتفاقية للتعاون في المجال الأمني، ومجال الرياضة والخدمات الجوية، ومذكرات تفاهم بشأن تمويل مشاريع في تركمانستان، بين حكومة عشق آباد والصندوق السعودي للتنمية، وفي مجال التجارة والصناعة والتعليمي، إضافة إلى مذكرة تفاهم تُعنى بالمشاورات السياسية.
الدبلوماسية السعودية على «طريق الحرير» الممتد نحو المستقبل
اتفاقيات سياسية واقتصادية ووحدة إسلامية وتبادل ثقافي وتنموي
الدبلوماسية السعودية على «طريق الحرير» الممتد نحو المستقبل
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة