في إطار دراسته الإبداعية للترجمة التي حملت عنوان «ماوس أور رات؟»، طرح العالم اللغوي والروائي الإيطالي أمبرتو إيكو رأيا مناهضا للحكمة اللاتينية الشائعة حول أن ترجمة نص أدبي عمل يرقى لمستوى الخيانة، بل وطرح احتمالية أن يكون قرار حواء بالتهام ثمرة الشجرة المحرمة ناجم عن ترجمة غير مناسبة للأمر الناهي عن القيام بذلك.
من ناحية أخرى، فإنه على مستوى حياتنا اليومية، يمكن أن تسبب الترجمة توترا، بل وتعارضا بالكثير من مناحي الحياة، حتى بين اللغات المنتمية لأسرة واحدة. على سبيل المثال، فإن فعل «تو تيبل» في الإنجليزية البريطانية يعني «طرح نص أو قرار»، بينما في الإنجليزية الأميركية يعني «سحب نص» كما أشار إيكو، إلى أن لفظ «ماوس» الإنجليزي ويعني فأرا، يشير إلى مخلوق محبوب يجري استئناسه، بينما يشير «رات» وهو لفظ إنجليزي آخر للإشارة إلى «الفأر»، إلى حيوان مثير للاشمئزاز.
وفي روايته المنتمية لأدب الكوميديا السوداء: «بنبن»، صور الروائي الروسي - الأميركي فلاديمير نابوكوف كيف أن سوء فهم بخصوص جدول مواعيد القطارات يدفع البطل، وهو روسي يعيش بالمنفي في أميركا، إلى أن يستقل قطارا مغايرا وينتهي به الحال بمكان لم يكن يرغب في الذهاب إليه.
وإذا كانت ترجمة حتى أكثر النصوص بساطة، مثل كتيب إرشادات كيفية تشغيل غسالة مصنوعة في الصين، لا تخلو من صعوبة، لك أن تتخيل مدى صعوبة ترجمة الشعر. ولا بد أن تكون بطلا مغوارا أو مجنونا متهورا لتقدم على مثل هذه المهمة. أنا شخصيا كنت على هذا المستوى من التهور في سنوات المراهقة، وعملت حينها لحساب «أشنا»، مجلة أدبية تصدر في طهران تولى رئاسة تحريرها أحمد شاملو. وخلال عملي هناك، ترجمت عشرات القصائد، معظمها لشعراء ألمان وفرنسيين من المدرسة الحديثة حتى وصلت إلى قصيدة إديث سيتويل الشهيرة بعنوان «ما يزال المطر يتساقط» التي استغرقت مني ترجمتها أسبوعا كاملا، وتسببت لي في متاعب صحية ووضعت النهاية لأحلامي في أن أصبح مترجما.
لذا؛ يمكنك تخيل كيف كان شعوري عندما واجهت هذا العمل الرائع المتمثل في تجميع لترجمة 250 قصيدة من مدرستي الحداثة وما بعدها لأكثر من عشر لغات.
وجرى اختيار هذه القصائد من بين الأعداد الكثيرة الصادرة من مجلة «مودرن بوتري إن ترانسليشن» (الشعر الحديث مترجما) التي أسسها الراحل تيد هيوز، أحد أعظم شعراء إنجلترا، الذي حاز لقب «شاعر البلاط الملكي»، عام 1965. ويعود الفضل وراء استمرار المجلة على مدار هذه الفترة الطويلة إلى حقيقة أن إنجلترا واحدة من دولتين أو ثلاث بالعالم لا يزال الشعر بها محل اهتمام عميق، بل وربما محل تبجيل.
اللافت أن هذا المزيج الساحر والضخم من قصائد مترجمة لا يتبع نظاما محددا، وإنما يشكل ثمرة أذواق المترجمين الشخصية. وقد رغب المترجمون، والكثير منهم شعراء، في التشارك مع آخرين فيما راق لهم من قصائد. وكما هو متوقع، تنتمي الغالبية العظمى من القصائد الواردة هنا إلى لغات أوروبية، بينها لغات تخص مجتمعات شديدة الصغر من حيث الحجم، مثل الآيرلندية والألمانية الفرانكونية.
أيضا، من الأمور اللافتة في كتاب مقتطفات الشعر هذا عدم وجود ترتيب زمني، ربما لأن الشعر، أو على الأقل الشعر الجيد، لا يعترف بحدود الزمن. بدلا من ذلك، حاول محررو المقتطفات تشييد هيكل يتعلق أساسا بالموضوعات. ومن جديد نجد أن موضوعات الأعمال الشعرية المختارة تعكس في الجزء الأكبر منها الواقع الوجودي للقرن الماضي، عصر الثورات والحروب والإبادات الجماعية والقمع، وكذلك النضال والأمل وانتصار الخير على الشر.
والمؤكد أن عاشقي الشعر سيسعدون بحقيقة عدم قصر الأعمال الشعرية المختارة على الشعراء المعروفين، أمثال الروسي أوسيب ماندلستام، والألماني بيرتلوت بريخت، والإسباني فريدريكو غارسيا لوركا، والإيطالي سيزاري بافيسي، والإيطالية فرزغ فرخزاد.
ويتيح لكتاب المقتطفات الشعرية للقارئ التعرف إلى شعراء لم يسمع بهم من قبل، ومن بين الأمثلة على ذلك البلغاري جيورجي غوسبودينوف وقصيدته الرائعة «أمي تقرأ الشعر»، والأرميني زاهراد وقصيدته القصيرة «عبارة»، والصيني يو جيان وقصيدته الطويلة «الحفر في المواقف». وتتضمن المفاجآت الأخرى قصائد «التسلية» و«الحرية» لهوتشي مينه، الملقب بأبو الاستقلال الفيتنامي، واللتين كتبهما الشاعر داخل السجن.
ويضم الكتاب كذلك أعمال خمسة من الشعراء العرب، وهم العراقي فوزي كريم وقصيدته الساخرة «القصة المعتادة»، والسوداني صادق الراضي وقصيدته الغنائية القصيرة «لا شيء»، والعراقي فاضل السلطاني وقصيدته «شجرة»، وكذلك الفلسطيني سميح القاسم الذي ظهر في الكتاب بمقتطف من قصيدته «استجواب»، ومحمود درويش باثنتين من أطول قصائده.
أيضا، ضم الكتاب بعض الشعراء من أصول عربية الذين نظموا الشعر بلغات أوروبية، وعلى رأسهم المغربي طاهر بن جلون، الروائي الشهير برواياته الفرنسية، وكذلك الشاعر رضا زيلي الذي نظم الشعر بالفرنسية ويضم الكتاب اثنتين من قصائده القصيرة.
على جانب آخر، يتضمن كتاب المقتطفات بعض القصائد الإيرانية المفضلة لدي، والتي حظيت بشهرة في الخارج أكثر من الداخل الإيراني، وبخاصة ميمي خالفاتي وزيبا كارباسي. وهناك أيضا ترجمة لقصيدة فارسية «عزيزتي فهيمة»، موجهة لشابة أعدمها آية الله الخوميني، إلا أن الكتاب يشير إلى القصيدة بوصفها «مجهولة المؤلف»، ربما خوفا من وجود المؤلف داخل إيران، وبالتالي يواجه خطر التعرض للإعدام على أيدي الملالي.
ومن بين الشعراء الإيرانيين المتأخرين المثيرين للإعجاب هاشم شعباني، الذي أعدم في الأحواز في عهد الرئيس حسن روحاني، أو فاطمة اختساري، لكن لم يتم ضم أعمال لهما بالمقتطفات؛ لأنها ظهرت في الغرب بعد الانتهاء من تجميع كتاب المقتطفات الشعرية بالفعل.
اللافت أن القصائد المختارة تتنوع أحجامها، فمثلا تتألف قصيدة إرنست غانديل الألمانية «الوقت يسرع» من كلمة واحدة فحسب، مكتوبة مرات عدة لبناء هرم بصري. أما قصيدة الشاعر الصربي فاسكو بوبا «رأس الرجاء الصالح» فتضم 49 كلمة فقط. في المقابل، نجد أن قصيدة الشاعر باسكال بتيت المعنونة «على أبواب الأسرار» تتجاوز كلماتها الألف كلمة.
والملاحظ أن بعض أهم الشعراء في العصر الحديث، من وجهة نظري على الأقل، غير حاضرين بالكتاب أو تقتصر مشاركتهم على قصيدة وحيدة، ومن بين هؤلاء البولندية الرائعة فيسلافا سزيمبروسكا بقصيدتها القصيرة «براءة»، في الوقت الذي يغيب يوجينو مونتالي وكذلك يورغ لويس بورغيس. ونظرا لأن القصائد جرى ترجمتها من قبل الكثيرين، وتولى ترجمة البعض شعراؤها أنفسهم، فإن كتاب المقتطفات يعكس ثراءً في الأساليب والنبرات، ليقدم بذلك في الواقع، فإن دار نشر «بلودأكس» ذاتها أشبه بمعجزة فازت بها إنجلترا؛ لكونها واحدة من بضع دور نشر داخل أوروبا لا تزال قائمة وعاملة بالاعتماد فقط على الأعمال الشعرية. في الحقيقة أن هذا الكتاب من المقتطفات الشعرية أشبه بقوس قزح، قال عنه إرنست جاندل «إن قلبك سيقفز من مكانه جذلا لدى رؤيته».
مراكز المحن: الاحتفال بخمسين عامًا من الشعر الحديث المترجم
تحرير: ساشا دودغيل، ديفيد وهيلين كونستانتين
دار نشر: بلودأكس بكس، لندن، 2016
كنز حقيقي لعاشقي الشعر في كل مكان
خمسون عامًا من الشعر الحديث المترجم للإنجليزية

تيد هيوز «شاعر البلاط الملكي».. وفي الاطار غلاف المختارات
كنز حقيقي لعاشقي الشعر في كل مكان

تيد هيوز «شاعر البلاط الملكي».. وفي الاطار غلاف المختارات
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة