لم يكن غائبًا عن بال من صمم وأخرج حفلة تسليم الجوائز يوم أول من أمس، ذاك الذي يقرر، بالنيابة أو بالاشتراك مع الإدارة العليا، من سيسلم الجائزة لمن، ومن سيقف خلف أو إلى جانب من، التضاد الذي يمكن أن يحدث إذا ما وقف المخرج الإيراني أصغر فارهادي على المنصّة ذاتها التي وقف عليها المخرج المجري لازلو نيميس، لكن هذا التضاد كان المقصد تمامًا.
أصغر فارهادي فاز بجائزة أفضل سيناريو عن فيلمه «البائع» (وهو بالفعل سيناريو محبوك يطرح حكاية جوهرية تؤدي، كما فعل فيلمه الأسبق «انفصال» لعرض التصدّع الحاصل في المجتمع الإيراني من الداخل)، والذي وقف لجانبه حين إلقاء فارهادي كلمته للمناسبة هو المخرج الذي نال جائزة لجنة التحكيم الكبرى في العام الماضي عن فيلمه الشهير «ابن شاوول». والصورة الناتجة لا تفوت المراقب المتمعن: المخرج الإيراني القادم من تحت براثن السلطة والمخرج المجري الذي قدّم عرضًا قويًا عن الهولوكوست في فيلمه يتجاوران من فوق منصّة «كان».
بالتأكيد، كل منهما يعرف من هو الآخر، لكن كليهما يتصرّف تبعًا للأصول المتبعة. بالنسبة لفارهادي فإنه يكفيه أن عمله لم يمر من دون تقدير. بالنسبة لنيميس فإن المسألة لا بد «بروتوكولية» لا علاقة لها بالرأي المسبق حول نظام ما أو موقف ما.
* ثلاثة بتاريخ مشترك
هذه الصورة السياسية تناقض الصورة السياسية الأحادية التي أنجبتها جوائز الدورة السابقة عندما نال نيميس جائزته عن «ابن شاوول» من حيث إنها كانت تأييدًا للصورة كما لموضوعها وكلاهما ملتصق، تقبلهما معًا وترفضهما معًا أيضًا. وهي ليست الصورة الوحيدة هذا العام.
وقوف المخرج البريطاني كن لوتش منددًا باليمين وبالطبقة الثرية وبحال ما وصلت إليه الخدمات الاجتماعية تحت حكم حزب المحافظين، لم يغب عن رئيس لجنة التحكيم جورج ميلر الذي إذا ما نزع المرء قشور الترفيه عن معظم أعماله، وجد رسالات إنسانية وسياسية تلتقي مع تلك التي يتبناها لوتش ولو بمقادير واتجاهات مختلفة.
طبعًا كان لفيلم كن لوتش «أنا، دانيال بلايك» حسنات مطلقة كفيلة باستحقاقه السعفة الذهبية دون سواه، وبالتأكيد هذا ما اتفق عليه، ولو بتفاوت، أعضاء لجنة التحكيم، لكن رئيسها هو من يملك توجه البوصلة في نهاية المطاف.
وهو كان على صلة في اختيار الممثل الأميركي مل غيبسون لكي يعلن الفائز بالسعفة الذهبية. ما ليس محض صدفة على الإطلاق أن مل غيبسون هو بطل أشهر ثلاثة أفلام لجورج ميلر (سلسلة «ماد ماكس»)، وهي الأفلام التي تشكل الأجزاء الثلاثة من الرباعية التي تم عرض آخرها في دور «كان» الماضي.
أفلام ماد ماكس تتحدث عن عالم انتهى مفعول حضارته وتحوّل إلى عصابات إبادة وأخيار قليلين. هذا هو مضمونه منذ البداية وهو مضمون يتناقض، لا مع نظرة اليمين إلى المستقبل فقط، بل مع عدم مبالاته التي انتقدها لوتش في فيلمه وفي كلمته.
غيبسون، الذي عبّر عن نقمة عنصرية ضد اليهود قبل سنوات، وأظهر تمسكًا بالمسيحية كحل، وقف لجانب ميلر ولوتش في بلورة مواقف على المسرح مثيرة للاهتمام.
* ألوان سياسية
كان من السهل، في مطلع الفيلم، أن يكتب الناقد شيئًا، مثل أن السياسة لا مكان لها في أفلام المهرجان في هذه الدورة. لم تكن هذه هي المرّة الأولى التي يصل بعضنا إلى هذا الاستنتاج، وليست هي المرّة الأولى التي تبرهن الأفلام المشتركة على أن السياسة كانت مجبولة في داخل كثير منها أيضًا.
من بين تلك التي تم لها الفوز بجائزة أو أخرى من جوائز الدورة المنتهية فيلمان لا علاقة لهما بمشكلات الأرض التي نعيش فوقها، هما «متبضعة شخصية» للفرنسي أوليفييه أساياس (حقق أفلامًا ذات مواضيع سياسية من قبل)، و«هي فقط نهاية العالم» للكندي إكزافييه دولان. الأول تناصف مع الروماني كرستيان مونجيو جائزة أفضل مخرج، وكلاهما يستحق الجائزة المذكورة لا ريب، وهو يبحث في احتمالية أن تكون بطلة فيلمه (كرستن ستيوارت) على تواصل مع روح أخيها التوأم ما يحمله بعيدًا عن الواقع. أما الثاني (خرج بجائزة غير مستحقة هي «الجائزة الكبرى») (الثانية في الأهمية بعد السعفة) فيبحث في فكرة كاتب مثلي يريد البرهنة على أن القرار ما زال بيده بما يتعلق بحياته الخاصة كما بعلاقته مع أهله وبفكرة موته المحتملة تبعًا لمرض عضال أصابه.
لكن باقي الأفلام التي فازت تتعامل ولون سياسي، اجتماعي أو آخر.
هناك شرخ كبير في جدار المنزل الآيل للسقوط في فيلم أصغر فارهادي «البائع» الذي كانت السلطات الإيرانية أعلنت عن عدم إعجابها بفيلمه الأسبق «انفصال». هذا الشرخ البيّن هو رمز لما لا يستطيع المخرج التأكيد عليه مباشرة. شرخ اجتماعي، في الصدى الأول، وفي الثاني نظامي لأن المجتمع هو وليد نظام.
سنرى في «البائع» حكاية تمر عبر أزمات فردية تحكمها تقاليد يوجه إليها المخرج نقده. ليس النقد الذي يحكم على الأمور أخلاقيًا فقط، بل ذلك الذي لا يذكر شأنًا إلا وأوحى بمسبباته الأخرى. فقط الأطفال (كما في أحد المشاهد) لا يفقهون ما يحدث لأن العلاقات المعروضة هنا تنص على شفرات، لا المخرج يستطيع الإفصاح عنها ولا شخصياته في الفيلم، كونهم جميعًا تحت الضغط.
* انهيارات أخلاقية
«بكالوريا» للروماني كرستيان مونجيو (النصف الثاني من الفائزين بجائزة أفضل إخراج) يتعامل ومعطيات الواقع الاجتماعي في بلاده. حكاية ذلك الأب الذي يحرص على مستقبل ابنه، لكنه قد لا يرى أن المشكلة هي في المحيط والبيئة وليست فيما عليه القيام به لدرء الخطر عن ولده. هناك الفساد وهناك الانحطاط العام وأسباب كثيرة للشكوى. يرى المخرج من دون تردد أن المجتمع في رومانيا ينهار أخلاقيًا، وهو ليس الوحيد في هذا الرأي، بل تشاركه فيه أفلام كثيرة مقبلة من الشرق الأوروبي، كما من محطات إنتاج أخرى حول العالم.
الفيلم الروماني الآخر الذي شارك في المسابقة، «سييرانيفادا» لكريستي بييو يوازي مثل هذه الأوضاع، لكنه يقوقع نفسه داخل ثلاث حجرات على مدى يقارب ثلاث ساعات. ما طمح لتحقيقه من إدارة فيلم داخلي الحدث والتصوير لإيصال رسالة تتجاوز جدران المكان، تحوّل إلى حاجز أضعف الفيلم. على ذلك يطرح قضايا تدور حول الوضع الاجتماعي في رومانيا، بل تتناول كارثة سبتمبر (أيلول) 2001 في نيويورك، على اعتبار أن هناك ستارًا كثيفًا ما زال يحجب حقيقة ما حدث.
حتى فيلم أندريا أرنولد الذي يشبه فائضًا من الماء خرج عن جدوله، «عسل أميركي» يتعامل والسياسة من خلال شخصياته العابثة التي نوالي مشاهدتها (مرغمين) وعلى مدى أقل من ثلاث ساعات بقليل.
هذا الفيلم الذي خرج بجائزة تحكيم أولى يبدو من الخارج والداخل معًا عملاً هائمًا بلا خطّة أو منهج. هذا ليس لأن الخطّة منفّذة على هذا النحو، بل لأنها ليست خطّة ناجحة وما تثمر عنه هو مجرد متابعة غير محبوكة لا دراميًا ولا كفعل فني يحمل أي قيمة جوهرية.
رغم ذلك فإن فيما يعرضه رسالة طفيفة الأثر حول كيف يعيش الجيل الحاضر أيامه على نحو خارج عن كل أخلاقيات اجتماعية موروثة. الجيل الذي ينتمي إلى «الأنا» والمنهمك بمسراته والمتلقي لسوء اختياراته.
طبعًا ليس كل فيلم التفت سياسيًا إلى موضوعه نال جائزة، بل هناك من بين الأفلام الكثيرة التي غابت عن الفوز بعض من تلك الاهتمامات، وفي مقدّمتها فيلم الأخوين جان - بيير ولوك دارادين «فتاة مجهولة».
العنوان يرمز إلى امرأة سوداء وُجدت مقتولة على شاطئ نهر واهتمام طبيبة شابّة بالحادثة، لأنها لم تفتح الباب حين جاءت تلك المرأة تطرقه طلبًا للنجاة. في طيّات الفيلم ذلك الإعلان الصارخ عن السقوط الواضح للقيم المبثوثة في المجتمع. اللامبالاة، والقتل خوفًا من الفضيحة، والخداع ومحاولة أفراد التستر على أفراد آخرين، لأن المجتمع لم يؤهلهم لتحمل المسؤولية.
«كان» 2016.. أفلام فائزة تبحث في حاضر العالم الذي نعيش فيه
مع نهاية دورة سياسية للمهرجان حتى ولو لم تبد كذلك
«كان» 2016.. أفلام فائزة تبحث في حاضر العالم الذي نعيش فيه
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة