«سايكس ـ بيكو».. حفل الختام

100 سنة على المعاهدة التي قسَّمت الشرق الأدنى

«سايكس ـ بيكو».. حفل الختام
TT

«سايكس ـ بيكو».. حفل الختام

«سايكس ـ بيكو».. حفل الختام

لماذا اعترضت القيادات اليهودية الصهيونية على معاهدة «سايكس - بيكو» البريطانية الفرنسية واعترضت كذلك على «إعلان بلفور»، الشهير بـ«وعد بلفور»؟ وكيف استطاعت تحقيق رغبتها وسط رضوخ بريطانيا لإرادتها؟
ثم كيف ترى هذه القيادات خرائط «سايكس - بيكو» المستقبلية، التي تتبلور بفعل الأوضاع الداخلية المضطربة في كل من سوريا والعراق واليمن وليبيا، التي نجت منها - حتى الآن - مصر؟ وهل ستؤدي «سايكس – بيكو» المستقبلية إلى ظفر إسرائيل بالاعتراف الدولي بها كـ«دولة يهودية» بصورة طبيعية كردة فعل على قيام دول - أو دويلات - سنية وشيعية وكردية وعلوية؟!

ما أشبه اليوم بالبارحة! قبل مائة سنة، ولدت ما باتت تُعرف بـ«معاهدة سايكس - بيكو» بين بريطانيا وفرنسا، بمعرفة ومشاركة إيطاليا وروسيا، هادفة إلى تقاسم السيطرة والنفوذ على الشرق العربي في أعقاب هزيمة الدولة العثمانية بنهاية الحرب العالمية الأولى. وها نحن اليوم نرى دول «الهلال الخصيب» تتفكك وتتفتت ممهدة الطريق أمام نشوء عدة كيانات جديدة.
في كلتا الحالتين، عملت القيادات اليهودية ثم الإسرائيلية (منذ 1948) وتعمل على طلب حصتها من الغنائم. وكما في الأمس، تدور اليوم أيضا نقاشات وحوارات كثيرة في أوساط القيادات الإسرائيلية، سواء على مستوى الساسة أو الخبراء الاستراتيجيين والمثقفين، حول ماهية الصراع القائم في العالم العربي، ودور دول الغرب الكبرى في هذا الصراع وأهدافها منه.
وفي الآونة الأخيرة، في سياق حضور بعض هذه النقاشات التي من خلالها جرى الكشف عن مزيد من الأسرار، أو تأكيد أسرار كانت قد كُشفت وطمست سريعا.
كمثال، يتبين أن أبرز رموز القيادة اليهودية، ممثلة بحاييم وايزمن، الذي أصبح لاحقا أول رئيس للدولة العبرية، أدارت حوارات مثابرة مع دول الغرب إبان الحرب العالمية الأولى، كي يصار إلى تحديد حصتها. ويروي المؤرخ موشيه طلانسكي أن قيادة الحركة الصهيونية في مطلع القرن العشرين «لم تحسم رأيها بسهولة إزاء أطراف الصراع في تلك الحرب. فكما كان هناك مَن أراد اتخاذ موقف لصالح بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية، طالب البعض باتخاذ موقف لصالح ألمانيا وحلفائها في النمسا وتركيا. ولقد طلبت الجالية اليهودية في دول المحور الألماني، وفي فلسطين (التي كانت خاضعة لحكم العثمانيين الأتراك)، تأييد ألمانيا بحجة أن الوقوف ضد هذا المحور سيكلف اليهود الألمان ثمنا باهظا من الملاحقة. وفي المقابل، سعى بقية القادة اليهود، وفي مقدمتهم وايزمن، لتأييد بريطانيا وحلفائها؛ لأن اتجاه الحرب واضح لصالحها، ويمكن أن تكون نتيجة موقف كهذا إتاحة الفرصة بإنشاء دولة يهودية.
ويوضح طلانسكي أن القرار الذي اتخذ في البداية كان وقوف اليهود على الحياد، باعتباره الأفضل لمستقبل العلاقات مع الطرف المنتصر. غير أن موقف الحياد هذا لم يصمد طويلا؛ إذ إن وايزمن أدار حوارات سرية مع البريطانيين، وتمكن من التوصل إلى عدة اتفاقيات معهم، في صلبها دعم بريطانيا وفرنسا مقابل موافقتيهما على تسليم فلسطين للحركة الصهيونية وإنشاء دولة يهودية.
وبالفعل، تمكن وايزمن من التوصل إلى اتفاق كهذا، مقابل إرسال وحدات قتالية يهودية إلى الجبهة خلال الحرب، وتشكيل شبكة جواسيس كبيرة من اليهود في فلسطين تجمع المعلومات للبريطانيين. ولقد استغرقت المفاوضات بينهما ثلاث سنوات، انتهت بـ«إعلان بلفور» الشهير باسم صاحبه، آرثر جيمس بلفور، الذي صاغه في رسالة موجهة بتاريخ 2 نوفمبر (تشرين الثاني) 1917 إلى الزعيم اليهودي اللورد ليونيل والتر دي روتشيلد، ويعلن فيها تأييد الحكومة البريطانية إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين تقوده الحركة الصهيونية «على أن لا تُمس فيها حقوق أبناء الطوائف الأخرى».
ويضيف طلانسكي أن قادة الحركة الصهيونية ما كانوا راضين عن هذه الصياغة، ذلك أنهم طالبوا بإنشاء دولة يهودية، وأرادوا أن يتضمن الوعد ترسيمًا للحدود تشمل كامل فلسطين. ويومذاك زعموا أن الشعب الذي يعيش في فلسطين ليس فلسطينيا، ولا عربيا كذلك، كما هو الانطباع العام، إنما هم مجموعات من المهاجرين الذين قدموا إلى البلاد من دول حوض البحر المتوسط والجزيرة العربية لأغراض مؤقتة.
لكن معارضة اليهود تفاقمت أكثر عند الكشف عن «معاهدة سايكس - بيكو»؛ إذ إن هذه المعاهدة، التي وقعت يوم 16 مايو (أيار) 1916 كانت كما أشرنا آنفا سرية، وكشف عن مضمونها فلاديمير لينين، قائد الثورة الشيوعية في روسيا، في مطلع العام 1918، أي بعد «إعلان بلفور». وتبين منها أن بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية وإيطاليا، لم تتطرق إلى الدولة اليهودية، بل منحت العرب دولة شرقي نهر الأردن (الذي اعتبرته الصهيونية جزءا من أرض إسرائيل)، وقسمت فلسطين إلى ثلاث مناطق: الشمال (الجليل حتى حيفا) تحت سلطة فرنسا، والجنوب والوسط تحت حكم بريطانيا، ومدينة القدس ومحيطها تحت إدارة دولية.
هذا ما اعتبره الصهاينة اليهود خدعة بريطانية وطعنة في الظهر، ومن ثم أعلنت بعض التنظيمات اليهودية الحرب على بريطانيا حينما تولت الانتداب على فلسطين عام 1922، وعندما وقف العرب أيضا ضد المعاهدة، حاول بعض القادة اليهود إقامة اتصال مع بعض القادة العرب للتنسيق ضد بريطانيا.
* بعد 100 سنة
اليوم، مع بلوغ «سايكس – بيكو» الـ100 سنة، يتفق القادة الإسرائيليون بإجماع تام على أننا نشهد «حفل الختام» لتلك المعاهدة. ويقولون: «إن المعاهدة أصلا لم تطبَّق بحذافيرها، بل جرى تعديل حدودها عدة مرات عبر التاريخ الحديث، حتى رأينا شكلها الأخير خلال سبعينات القرن الماضي في العراق وسوريا والأردن ودول الخليج». ولكن الأحداث المأساوية في العالم العربي تدل على أن خريطة العالم العربي ما بعد «سايكس – بيكو» لن تعود كما كانت أبدا.
خلال حوار بين البروفسور شاؤول مشعال، وهو من مواليد العراق ويعمل باحثا في أكاديمية متعددة المجالات في مدينة هرتسليا ومستشارا استراتيجيا لعدة مؤسسات، والبروفسور يوآف غلبار، وهو ابن عائلة عسكرية ويعمل باحثا في جامعة حيفا، قال الأخير: «إن ما يجري في العالم العربي اليوم هو نتاج الصراع التاريخي بين حضارات الشرق والغرب، ولا علاقة له بالقضية الفلسطينية أو بالصراع بين إسرائيل والعرب. وأردف أن هذا الصراع ممتد في عمق التاريخ.. منذ آلاف السنين والعالم يعيش صدامات بين الحضارتين الغربية والشرقية، تشتد وترتخي حسب الظروف، لكنها لم تتوقف أبدًا.. بين اليونان والفرس، ثم بين الإسكندر المقدوني والفرس، ثم بين البيزنطيين والعرب، ثم بين الأتراك والسلاجقة، ثم بين العثمانيين والأوروبيين. واليوم وبعد 250 سنة من سيطرة الحداثة في عالمنا، يشعر البشر خصوصا في الشرق بخيبة أمل شديدة، وهم يعودون إلى الدين بشكل واسع، ثم يثورون عليه لكي يعيدوا عهد الخلافة الإسلامية في المنطقة». ويقتبس غلبار تصريحات للشيخ يوسف القرضاوي، الذي دعا إلى «دولة إسلامية تحت قيادة السلطان رجب طيب إردوغان (الرئيس التركي) تشمل العالم العربي كله». كما يقتبس «أبو بكر البغدادي» زعيم تنظيم داعش المتطرف الذي يسعى، كما يزعم، إلى إقامة «حكم الدولة الإسلامية وشرائعها».
ويرد مشعال بأن العالم العربي «يسير وراء خطط الغرب ومصالحه، ولكن من مصائبه الكبرى أنه لم يتعلم من تجربة الغرب». ويضيف: «إنهم مثلنا نحن اليهود، لا توجد لديهم مؤسسة واحدة تعد مرجعية دينية كحال الفاتيكان في روما؛ ولذلك تجد انفلاتا في الرؤية الدينية. والعرب والمسلمون، كل منهما على حدة وكليهما معا، يتغنون بأمجاد الأندلس. ويتمنون أن يكون هناك كيان واحد يمثلهم ويعبر عن قوتهم العددية والاقتصادية في العالم، وبعدما فشلت حركات القومية العربية في تحقيق ذلك، تحاول اليوم الحركات الإسلامية صنع ذلك».
ويتابع مشعال: «إنهم (أي العرب) لا يفهمون أن هذا غير ممكن لأسباب موضوعية ودولية، لكن المتطرفين الإسلاميين يصرون على ذلك وهم يحاولون فعله بطرق بدائية عنيفة مثلما فعلت وتفعل (القاعدة) ومثلما تفعل (داعش)، وما زلت أذكر شريط الفيديو الذي يظهر فيه شاب من مقاتلي (داعش) يحمل علم التنظيم ويعبر خط الحدود ما بين العراق وسوريا وهو يصيح: (باي.. باي.. سايكس – بيكو). إنهم يعتبرون معركتهم اليوم ضد (سايكس – بيكو)، ولكنهم بأيديهم، يستعيضون اليوم عن (سايكس – بيكو) القديمة التي تحدثت عن ثلاث دول عربية في الشرق العربي، التي أصبحت تؤلف بمرور الزمن نحو عشر دول، بعشرات الدول؛ فسوريا ستصبح ثلاث أو أربع دول، وكذلك العراق واليمن. هذا التفتت هو النقيض من (سايكس – بيكو)».
* مكانة إسرائيل
إذا كان مشعال وغلبار يتحدثان عن هذا الوضع كتصوير خرائط جيو سياسية، فإن هناك من يرى في إسرائيل أنه يحتاج إلى خطوات عملية تحفظ لإسرائيل مكانة وحصة. بعض هذه القوى تريد أن يكون الدور الإسرائيلي إيجابيا، بمعنى اكتشاف فرصة تقلب المعادلات في الشرق الأوسط وتجعل من إسرائيل حليفة للقوى التي تحارب ضد الإرهاب وتسعى إلى تثبيت الدول العربية وتعيد لها الاستقرار. وأصحاب هذه الفكرة هم من الوسط السياسي، وخصوصا من اليساريين المعارضين للحكومة، وأيضا من قادة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بغالبيتها.
هؤلاء يطالبون الحكومة الإسرائيلية بالخروج بمبادرة سياسية تبدي فيها الاستعداد لتسوية القضية الفلسطينية، مؤكدين أنه من دون هذه التسوية لن توافق أي دولة عربية على بناء علاقات طبيعية مع إسرائيل.
ولكن في المقابل، ثمة من ينظر إلى الأمر على أنه فرصة للعربدة الإسرائيلية وتصفية القضية الفلسطينية، مثل أحزاب اليمين المتطرف الممثلة في الحكومة وفي مقدمتها حزب «البيت اليهودي». هذا الحزب المتطرف يمثله اليوم في الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) ثمانية نواب، لكن استطلاعات الرأي العام تعطيه 15 نائبا في الانتخابات المقبلة، ما يمنحه تأثيرا كبيرا في سياسة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو. أضف إلى ذلك أن نتنياهو نفسه يفتقر إلى رؤية واضحة في الموضوع، وهو منشغل في تثبيت حكمه وانتظار التطورات.
* حلف إقليمي؟
في هذه الأثناء، أجرى معهد أبحاث الأمن القومي في تل أبيب، عدة بحوث في الموضوع، بمشاركة كادر كبير من الباحثين الاستراتيجيين والجنرالات السابقين. وخرج كل مرة بما يشبه الاستغاثة «تعالوا ننتهز الفرصة للمساهمة في إحداث التغيير الإقليمي». صاغ هذا الموقف رئيس المعهد، الجنرال عاموس يدلين، الذي رشحه حزب العمل في الانتخابات الأخيرة (عام 2015) ليكون وزير الدفاع في الحكومة؛ إذ دعا يدلين إلى أن تكون البداية من الحرب السورية قائلا: «إسرائيل محتارة منذ خمس سنوات، لا موقف محددا مما يحدث في سوريا. وهناك من يبرر هذه السياسة، لكن حان وقت إعادة التفكير. بات واجبا تحديد موقف، وهو الوقوف ضد بشار الأسد ونظامه، أولا بسبب الجانب الأخلاقي، فهو ما زال يستخدم السلاح الكيماوي، وهذا يذكرنا بواجب الاستيعاب بأن الأسد قاتل تسبب بكارثة إنسانية بشعة.. نحو 400 ألف قتيل (غالبيتهم بأيدي الجيش) ونحو مليوني جريح و11 مليون لاجئ. وثانيًا، كبشر، وخاصة كيهود، بفعل الوزن الاستراتيجي، فإن طرد الأسد مصلحة إسرائيلية. والمسار الراديكالي، الذي تقوده طهران ويمر عبر الأسد إلى حزب الله، يشكل التهديد الملموس الأكبر على أمننا». ويستطرد يدلين: «هناك من سيقول: إن التهديد الناجم عن (داعش) ليس أقل خطورة، ولذلك يجب الاستعداد له أولا. طبعا لا يجوز الاستخفاف بهذه المسألة، ولكن معالجة مسار (طهران - بغداد - دمشق - بيروت) يجب أن يحظى بالأولوية الاستراتيجية، وذلك لسبب بسيط هو أن المجتمع الدولي تجند لمواجهة ظاهرة (داعش)، بل إنه ينجح حاليا في وقف تقدمها. أضف إلى ذلك أن نهاية نظام الأسد ستضعف، على الأرجح، جاذبية (داعش)؛ لأنه سيكون للغالبية السنية في سوريا؛ إذ ذاك بديل سني معتدل. في المقابل، ستبقى إسرائيل وحيدة تقريبا أمام تهديد المسار الإيراني، وليس لديها من تعتمد عليه باستثناء نفسها؛ لذا عليها العمل بأولوية مطلقة إزاء تعزز مسار (طهران - الأسد – نصر الله). إن إيران وحليفاتها أخطر على إسرائيل عشرات الأضعاف من (داعش). وعلى إسرائيل بلورة استراتيجية تتركب من عدة أمور. وشرط أساسي هو إقامة تحالف إقليمي، حتى لو لم يكن معلنا، مع جهات في العالم السني، وذلك بالشراكة مع الولايات المتحدة، وربما كذلك التوصل إلى تفاهمات هادئة مع روسيا، التي خلافا لإيران، لا ترى في الأسد عاملا ضروريا في الاتفاق المستقبلي في سوريا».
عمليا، يقول يدلين، ما يقوله قادة الجيش، إن إسرائيل لن تحقق شيئا من «سياسة الانتظار»، التي يتبعها نتنياهو. وهؤلاء يحذرون من انفجار الأوضاع أيضًا ضد إسرائيل؛ بسبب الجمود في عملية السلام. ويسخرون منه كيف توجه إلى الولايات المتحدة ودول الغرب طالبا «الحصة الإسرائيلية» من التسوية السياسية في سوريا؛ إذ أعلن الشهر الماضي أن «الجولان ستبقى جزءا لا يتجزأ من إسرائيل». لكن المقربين من نتنياهو يزعمون أنه «في الواقع يفتش عما هو أكبر من الجولان، ألا وهو الاعتراف العربي بإسرائيل كدولة يهودية»، ففي إسرائيل يتوقعون أن تنتهي الحرب في سوريا والعراق وليبيا واليمن، بعد وقت طويل، بتمزق شديد وتشكيل دول جديدة على أسس طائفية أو فئوية: علوية وشيعية وسنية وكردية ودرزية. وفي هذا الوضع سيكون المطلب الإسرائيلي من العرب بالاعتراف بها «دولة يهودية» مطلبا شرعيا.
الخبير العسكري، أليكس فيشمان، يقول: «إن السبيل الذي اختاره نتنياهو لصد الضغوط التي يمارسها الجيش وبقية أجهزة الأمن الإسرائيلية عليه، هو ضربهم بأفيغدور ليبرمان. فهذه القيادات بالإجماع تطلب منه تغيير سياسة الجمود، وانتظار المجهول، وإطلاق مبادرة سياسية مع الفلسطينيين، وإيجاد صيغة للتفاهم مع الدول العربية للتعاون في مكافحة الإرهاب. وحسب فيشمان «يعاني نتنياهو معاناة شديدة من جراء هذا الموقف، وقراره ضم ليبرمان إلى حكومته وتسليمه وزارة الدفاع مكان موشيه يعلون، جاء في إطار الرد على هذه المعاناة».
وبغض النظر عن كيفية انتهاء النقاش الداخلي في إسرائيل، خصوصا مع بدء مرحلة حكومة اليمين المتطرف المدعومة من ليبرمان، فإن «حفل الختام» لـ«معاهدة سايكس – بيكو» بعد مرور 100 سنة عليها، يؤهل إسرائيل لبدء عملية حوار جديدة حول شكل آخر من أشكال «سايكس - بيكو» آتية.
وهنا يتخيل أحد آيديولوجيي اليمين المتطرف، الدكتور شيمعون غيلر، المرحلة على أنها «فرصة لليمين لإقناع الغرب بأن إسرائيل هي القوة الوحيدة المضمونة في المنطقة لخدمة مصالحهم. وأن الصراع الإسرائيلي - العربي لن ينتهي - كما يتوهمون - بإعادة أراضي 1967 وحل قضية اللاجئين؛ لأن العرب لم يقبلوا إسرائيل في الماضي، ولن يقبلوها في أي ظرف قادم». ويتابع غيلر أن «جذور هذا الصراع بدأت إبان الحرب العالمية الأولى، حين لم يكن هناك احتلال إسرائيلي، ولا لاجئون فلسطينيون. إنهم (العرب) يريدون إعادة الدولة الإسلامية الكبرى، وما على إسرائيل إلا أن تبني لنفسها القوة والتحالفات الغربية المناسبة لضمان وجودها وتطورها؛ حتى تهزم هذه الفكرة».



حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.