بن رودس.. الأديب الذي بات أهم صانع للسياسة الخارجية لأوباما

لعب دورًا كبيرًا في صفقة «النووي» الإيراني والتفاوض بشأن استئناف العلاقات الأميركية ـ الكوبية * تقاربه في التفكير مع الرئيس جعل منه صاحب نفوذ هائل

بن رودس مع جوش إرنست السكرتير الإعلامي للبيت الأبيض يستمعان إلى الرئيس أوباما ({نيويورك تايمز})
بن رودس مع جوش إرنست السكرتير الإعلامي للبيت الأبيض يستمعان إلى الرئيس أوباما ({نيويورك تايمز})
TT

بن رودس.. الأديب الذي بات أهم صانع للسياسة الخارجية لأوباما

بن رودس مع جوش إرنست السكرتير الإعلامي للبيت الأبيض يستمعان إلى الرئيس أوباما ({نيويورك تايمز})
بن رودس مع جوش إرنست السكرتير الإعلامي للبيت الأبيض يستمعان إلى الرئيس أوباما ({نيويورك تايمز})

تخيله كرجل شاب، يقف بمواجهة الشاطئ في شمال ويليامسبرغ، عند مركز اقتراع في 11 سبتمبر (أيلول) 2001، الذي كان يصادف يوم الانتخابات في مدينة نيويورك. رأى الطائرات تصطدم بالأبراج، وهي لحظة لا تُنسى من عدم التصديق، المتبوع بالهلع والصدمة، والرعب الدائم، ومشهد ذكره بشكل مخيف، في أعقاب الهجوم، بغلاف رواية دون ديليلو: «العالم السفلي».
تغير كل شيء منذ ذلك اليوم. لكن الطريقة التي غير بها ذلك اليوم حياة بن رودس ما زالت فريدة، وربما غير قابلة للتصديق كشيء من الخيال. كان في عامه الثاني من أطروحته لنيل درجة الماجستير في الآداب في جامعة نيويورك، يسكن الأدوار الأرضية، ويكتب القصص القصيرة عن الخاسرين، ويتخيل أن نشر أعماله قريبا في المجلات الأدبية، وأن يكون له وكيل أعمال ويصدر عملا روائيا عندما يصل عامه الـ26، رأى أول برج يسقط، وبعد ذلك ركض نحو سيدة يعرفها، وعادا إلى شقتها المشتركة في ويليامسبرغ وحاولا العثور على جهاز تلفزيون يعمل، وعندما عادا إلى الخارج، كان الجميع يتحدث عن صور البرجين اللذين تتصاعد منهما ألسنة اللهب. رأى رجلا عربيا يبكي داخل محطة لقطار الأنفاق. يقول: «لقد ظلت هذه الصورة ترافقني على الدوام. لأنني كنت أعتقد أنه كان يعرف أكثر مما نعرفه عما يحدث». وفجأة باتت فكرة كتابته أعمالا تحاكي فريدريك بارثيليم مضيعة للوقت.
أوضح: «تكونت لدي سريعا هذه الفكرة عن أنني ربما أريد أن أكتب عن الشؤون الدولية. وبشكل رجعي، لم تكن لدي أي فكرة عما يعنيه هذا». كانت صديقة مقربة لوالدته منذ أيام الطفولة تدير مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، التي كانت تنشر آنذاك موضوعات تتعلق بالسياسة الخارجية. أرسل إليها برسالة وتضمنت ما صار أول عمل أدبي منشور له، وهي قصة قصيرة ظهرت في «مجلة بلويت الأدبية». كانت بعنوان «السمكة الذهبية تضحك وأنت تضحك لها». يقول إن القصة ما زالت تطارده، لأنها «تنبأت بحياتي بالكامل».
إنه يوم خطاب الرئيس باراك أوباما الأخير عن حالة الاتحاد، في 12 يناير (كانون الثاني)، ولم تكن الأخبار الواردة من داخل البيت الأبيض تبشر بخير. ولحسن الحظ، فإن الصحافيين الجالسين في غرفة الانتظار بالجناح الغربي لم يكونوا قد عرفوا بشأن هذه الأخبار بعد. كانت الخلاصة هنا في هذا الغداء الودي الخاص في وقت مبكر من المساء مع الرئيس الذي سيراجع كلمته السنوية إلى الكونغرس على وجبة يقال إنها ستكون من أفضل ما في جعبة طاهي البيت الأبيض.
ينادي رجل قائلا: «بليتزر!». يستدير رجل يرتدي معطفا طويلا، في دهشة ساخرة.
يرد وولف بليتزر، مذيع «سي إن إن»: «لا تكتب، لا تناد».
يرد زميله السابق رولاند مارتن: «حسنا يمكنك أن تنادي». تنتهي محادثتهما القصيرة، ثم ينتقلان لموضوع الزحام المروي في واشنطن. يقول مارتن: «اعتدت على الوصول إلى سي إن إن عند الساعة 9:30، كان المكتب يبعد 8.2 ميل عن منزلي. كان يستغرق مني 45 دقيقة للوصول». ويحكي سكوت بيلي، مذيع الأخبار في «سي بي إس» حكاية عن كيف أن الصحافيين دمروا الأرضية العشبية خلال فضيحة مونيكا لوينسكي وقيل لهم إنه سيتم السماح لهم بالعودة بمجرد إصلاح العشب. أعادت هيئة الحدائق الوطنية زراعة العشب خارج البيت الأبيض، لكن لم يتم السماح بعودة الصحافيين للمنطقة العشبية.
من دون أن ينته إليه المراسلون، يمشي بين رودس خلال القاعة، خطوة خطوة وراء سيدة ترتدي حذاء بلون فراء النمر. يمسك بهاتف قرب أذنه، ويردد لازمته: «أنا لست شخصا مهما، أنت ذلك الشخص المهم».
يبلغ الولد المعجزة في بيت أوباما الأبيض من العمر 38 عاما الآن. يتجه إلى الطابق الأسفل نحو مكتبه الذي من دون نوافذ في الطابق الأرضي، والمقسم إلى جزأين. في المكتب الأمامي، تجلس مساعدته رومانا أحمد ونائبه نيد برايس، الغارقان وراء مكتبيهما الواقعين في مواجهة شاشة تلفزيونية ضخمة، مضبوطة باستمرار على قناة «سي إن إن». تزين صور كبيرة لأوباما الجدران. هنا يعدل الرئيس رابطة عنق رودس؛ ويهدي ابنته الصغيرة المحببة إيلا، زهرة؛ ويبتسم ابتسامة عريضة بينما يلعب مع إيلا على بساط عملاق يحمل العبارة: «من بين الكثيرين، واحد».
على مدار الكثير من الأسابيع الخمسة الماضية، كان رودس ينقل ما يشعر به الرئيس إلى ما تم تخيله كخطاب حالة اتحاد مغلف بالتفاؤل وبعد النظر. الآن، من هذه الشاشات المسطحة، يبرز تحد للخطاب: استولت إيران على زورقين صغيرين يحملان 10 بحارة أميركيين. عرف رودس بأمر التحرك الإيراني في وقت سابق من ذلك الصباح، لكنه كان يحاول التغطية عليه حتى ينتهي الرئيس من خطابه. يقول رودس: «إنهم لا يستطيعون الحفاظ على سر لساعتين».
باعتباره نائب مستشار الأمن القومي للاتصالات الاستراتيجية، يكتب رودس خطابات الرئيس، ويضع خطط رحلاته الخارجية ويدير استراتيجية الاتصالات عبر البيت الأبيض، وكل منها في حد ذاته تعد مهام تعطي إحساسا بأهمية دوره.
وهو بحسب إجماع أكثر من عشرين من موظفي البيت الأبيض السابقين والحاليين الذين تحدثت إليهم، أهم صوت مؤثر في صياغة السياسة الخارجية الأميركية، بخلاف رئيس الولايات المتحدة نفسه. يتواصل الرئيس ورودس «بانتظام عدة مرات في اليوم»، وفقا لـدينيس ماكدونو، رئيس موظفي البيت الأبيض، المعروف عنه أنه يدير البيت الأبيض بطريقة منظمة. ويقول ماكدونو: «أرى هذا شخصيا على مدار اليوم»، مضيفا أنه متأكد من أنه بالإضافة إلى الساعتين إلى 3 ساعات التي ربما يقضيها رودس مع الرئيس، فإن الرجلين يتواصلان عن بعد على مدار اليوم عن طريق البريد الإلكتروني والمكالمات الهاتفية. وضع رودس استراتيجية حملة التواصل بشأن الاتفاق مع إيران، وأدارها بنجاح، وساهم في التفاوض على بدء علاقات أميركا مع كوبا بعد توقف دام لأكثر من 50 عاما، وكان مشاركا في كتابة كل خطابات أوباما الكبرى حول السياسة الخارجية.
قال لي تيري سوبلات، وهو أطول من عمل ضمن فريق كتابة الخطابات في مجلس الأمن القومي: «يقوم (رودس) بـ12 مهمة كل يوم، وهو يقوم بها جميعا أفضل من الأشخاص الموكلين بهذه المهمات بالأساس». وفي كل القضايا، الكبرى والصغرى، يكون الصوت الذي تتحدث به أميركا إلى العالم، وهو صوت بين رودس.
وشأن أوباما، فإن رودس قاص يستخدم أدوات الكاتب لتعزيز أجندة مغلفة بشكل سياسي لكنها شخصية للغاية في كثير من الأحيان. وهو متمرس على بناء حبكة شاملة تشمل الأبطال والأوغاد، الذين يدعم صراعاتهم ودوافعهم بمجموعة من الصفات والاقتباسات والتسريبات المنتقاة بعناية، من مسؤولين كبار، سواء بذكر أسمائهم أو حجبها.
ومن بين ما يستند عليه نفوذ رودس هو «التقارب في التفكير» مع الرئيس. استخدم تقريبا كل من تحدثت إليهم عبارة «التقارب الفكري» حرفيا، حيث كان بعضهم يستخدمها بثقة عفوية، فيما كان بعضهم الآخر يقولها بنبرة مكتومة عادة ما تنم عن رؤى خاصة.
هو لا يفكر للرئيس، لكنه يعرف ما يفكر فيه الرئيس، وهو مصدر نفوذ هائل. في يوم من الأيام، عندما كنت أنا ورودس جالسين في غرفة اجتماعاته، اعترف بقدر من الحيرة: «لم أعد أعرف من أين أبدأ وأين ينتهي أوباما».
أثناء وقوفه أمام مكتبه قبل خطاب حالة الاتحاد، يحسب رودس سريعا الحسابات السياسية للخبر العاجل عن التحرك الإيراني. يقول متوقعا وهو ينظر إلى شاشة التلفزيون: «الآن سيعرضون صورا مخيفة لأشخاص يتوسلون إلى المرشد الأعلى». وبعد برهة يقوده تفكيره إلى رواية لوقف النزيف السياسي بسبب هذا الخبر. يلتفت إلى نائبه، برايس ويقول: «نحن نعمل على التوصل لحل لهذه المسألة، لأن لدينا علاقات».
عندما أشاهد رودس وهو يعمل، أتذكر أنه لا يزال روائيا بالأساس، إذ يستخدم مجموعة جديدة من الأدوات - إلى جانب فنون الحكاية والحبكة التقليدية - لخلق قصص عن العواقب الرائعة بأوسع نطاق يمكن تخيله. السياق الذي يرسم معالمه، أصوات المسؤولين الكبار، وكتاب الرأي، والمراسلين الذين يشكل عملهم ويتحكم بأصواتهم بمهارة، وحتى خطابات الرئيس ونقاط الحديث، هي مجرد نقاط ملونة في رؤية أوسع بكثير عن من هم الأميركيون والمسار الذين نتجه إليه، وكل ذلك أمر عمل رودس والرئيس على صياغته معا على مدار السنوات الـ7 الماضية.
عندما سألت جون فافرو، كاتب خطابات أوباما الأول في حملة 2008، وهو صديق مقرب لـرودس، عما إذا كان هو أو رودس أو الرئيس، قد فكروا في خطاباتهم الفردية، واتخاذهم للقراءات، كجزء من عملية أكبر لإعادة هيكلة الخطاب الأميركي، أجاب: «كنا نرى هذا باعتباره مهمتنا الكاملة».
كان من النادر أن تجد اسم بين رودس في القصص الإخبارية عن الأحداث الكبرى في السنوات الـ7 الماضية، ما لم تكن تبحث عن تصريح منقول عن مسؤول كبير لم يتم ذكر اسمه، في الفقرة رقم 9، هو غير مرئي لأنه ليس من نوع الشخص المحب لذاته، ولأنه يكرس نفسه من أجل الرئيس. لكن ما إن تصبح معتادا على الصفات المميزة لصوت رودس - المغلف دائما باحتقار عدائي لأي شخص وأي شيء يقف في طريق الرئيس - حتى تستطيع أن تسمع صوته في كل مكان.
والد ووالدة رودس ليسا مهتمين بالحديث عن ابنهما. وكذلك شقيقه الأكبر، ديفيد، الذي يرأس «سي بي سي نيوز»، وهي مؤسسة إعلامية أحيت مؤخرا جهود الكشف عن محتوى الصفحات الـ28 المنقحة من تقرير 11 سبتمبر (أيلول) غداة زيارة أوباما إلى المملكة العربية السعودية، التي رافق رودس الرئيس خلالها، كالمعتاد.
تربط الشقيقين علاقة وثيقة، لكن في كثير من الأحيان تمر شهور من دون أن يقابلا بعضهما البعض. يقول رودس عن شقيقه الذي عمل في «فوكس نيوز» و«بلومبيرغ» قبل الانتقال إلى «سي بي سي»: «كان من نوع الولد الحريص على دراسته. أما أنا فلم أكن متفوقا بهذه الدرجة في المدرسة العليا، لأنني كنت أشرب وأدخن وأخرج في الحديقة المركزية».
ينبغ مزاج رودس المتقد، وإن كان كئيبا، الذي استشعرته من تصريحاته الشاردة ومن غرابة قراره بأن يسمح لي بالتجول في البيت الأبيض، ينبع جزئيا من إحساسه بأنه مثقل بالضغوط؛ فهو يتمنى لو كان لديه وقت أكبر للتفكير والكتابة. والدته يهودية من ضاحية «أبر إيست سايد»، وتعشق الروائي الأميركي جون أبدايك، وتقرأ صحيفة «ذا نيويوركر».
أما والده فهو محام من تكساس، كان يعتاد اصطحاب والديه إلى كنيسة سانت توماس الأسقفية مرة كل شهر، حيث كان رودس يشعر كطفل يهودي في كنيسة، وهو نفس شعوره، عندما كان يحس بأنه «مسيحي يهودي» في عيد الفصح.
تصلح القصة التي نشرها رودس في مجلة «بيلويت الخيالية» أن تكون مبتدأ جيدا ننطلق منه.
فلقد كانت فكرة رواية السمكة الذهبية، كما قيل لي، هي فكرة السيدة ويلبيرغ.
«لماذا؟»، كما سألت. لأنها ذات شعر أشقر، ونحيفة، وصغيرة، وجذابة.
وكان المحرر في دورية السياسة الخارجية الذي قرأ رواية السمكة الذهبية، التي أرفقها رودس بخطابه للاستعلام، قال إن الموظف الصغير في وزارة الخارجية سوف يصاب بالملل من التدقيق في الحقائق. بدلا من ذلك، فإنه اقترح أن يتقدم لطلب الوظيفة لدى لي هاميلتون، عضو الكونغرس لمرة واحدة عن ولاية إنديانا، والذي كان يبحث عن موظف لكتابة الخطابات الرسمية.
يتذكر هاميلتون الأمر فيقول: «لقد فوجئت تماما. لأي شيء جاءني ذلك الشاب الذي يهتم بكتابة الروايات الخيالية؟» ولكنه دائما ما كان يجد فائدة ما في المؤلفين والكتاب، وكانت عينة رودس من الكتابة أفضل العينات في ذلك الاختبار. ومن ثم منحه الوظيفة في مركز ويلسون، وهي مؤسسة بحثية غير حزبية. ورغم أن رودس لم ينبس ببنت شفة خلال الاجتماعات، كما يقول هاميلتون، فإنه كان لديه فهم عميق لما يجري حوله، والموهبة الكافية لوضع مواقف المشاركين الحالية على الورق. وأوضح هاميلتون الأمر بقوله «سرعان ما أدركت أنها من أهم الصفات قاطبة في الموظف، وهي أن يحضر الاجتماع ويصل بمفرده إلى نفس القرارات التي يصل إليها الجميع». وأشرت إلى أن عبارة «يقرر ما قرره الجميع» تحمل قدرا هائلا من القوة التي يمكن أن تتحقق لشخص يملك مواهب رودس. ولقد أومأ هاميلتون موافقا إذ قال: «بكل تأكيد».
خدم رودس كموظف لدى هاميلتون في لجنة هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وهناك التقى مع دنيس ماكدونو، وهو من موظفي هاميلتون الآخرين، والذي انتقل للعمل لدى توم داشل في مجلس الشيوخ. ثم أصبح رودس بعد ذلك كبير مدوني الملاحظات لمجموعة الدراسات العراقية، وهي اللجنة المؤلفة من الحزبين الكبيرين والتي انتقدت حرب جورج بوش المعلنة في العراق. ولقد ترافق مع هاميلتون ونظيره الجمهوري في المجموعة، وزير الخارجية الأسبق والصديق المقرب من عائلة بوش، جيمس بيكر، إلى الاجتماعات مع كولن باول، وكوندوليزا رايس، وستيفن هادلي، وديفيد بترايوس، وغيرهم الكثير (ولقد التقى نائب الرئيس ديك تشيني غير أنه لم ينطق بكلمة). وفقا لكل من هاميلتون وإدوارد جرجيان، رجل بيكر الثاني في مجموعة الدراسات العراقية، ولقد كانت آراء رودس مهمة من زاوية صياغة استنتاجات المجموعة - وهي لائحة اتهام لاذعة بحق صناع السياسة المسؤولين عن غزو العراق. وبالنسبة إلى رودس، والذي كتب بنفسه أكثر محتويات تقرير مجموعة الدراسات العراقية، كانت حرب العراق دليلا بالأسود والأبيض، وليست تعقيدا للعلاقات الدولية أو ما يصاحب ذلك من الكثير من المخاطر على صناعة القرار السياسي ولكن من واقع حقيقة أن صناع القرار السياسي وقتئذ كانوا مجموعة من البلهاء.
وإحدى نتائج هذه التجربة أنه عندما انضم رودس إلى حملة أوباما الانتخابية في عام 2007، كان يعلم الكثير عن حرب العراق من المرشح الرئاسي نفسه، أو أي من مستشاريه. ولقد تكون لديه ازدراء صحي حيال مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية، بما في ذلك المحررين والمراسلين في صحيفة «نيويورك تايمز»، و«واشنطن بوست»، و«نيويوركر»، وغيرها من الصحف، التي أشادت في بادئ الأمر بالحرب على العراق ثم تحولت إلى إلحاق اللوم الكامل بالسيد بوش وفرقته المرحة من المحافظين الجدد عندما ساءت الأوضاع على الأرض لمستويات غير مسبوقة. وإذا كان هناك أي شيء، فلقد ازدادت حدة وشراسة هذا الغضب لدى رودس داخل البيت الأبيض. فلقد أشار إلى مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية باسم «الفقاعة». ووفقا إلى رودس، فإن تلك الفقاعة ضمت السيدة هيلاري كلينتون، وروبرت غيتس، وغيرهم من المروجين للحرب على العراق من كلا الحزبين الكبيرين، الذين يتألمون بأنين شديد على انهيار النظام الأمني الأميركي في أوروبا والشرق الأوسط.
شعر جون فافرو، كبير كتاب الخطب الرئاسية، بأنه قد يستخدم أحد خبراء الشؤون الخارجية والذي يمكنه كتابة الخطب الرئاسية. ويتذكر ذلك الأمر فيقول: «داوم مستشارو السياسة الخارجية على تغيير اللغة الرئاسية التي جعلت أوباما يبدو وكأنه ليس جزءا أصيلا من مؤسسة السياسة الخارجية الديمقراطية. وفكرة تعيين شخصية تحمل درجة الماجستير في أدب الروايات وشارك كذلك في صياغة تقرير الحرب على العراق وتقرير لجنة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) كانت فكرة مثالية للمرشح الرئاسي الذي يضع الكثير من التركيز على رواية الأقاصيص على الجماهير». ووجد كاتبا الخطابات الشابان نفسيهما في وضع متزامن، «قد كان يجرد أغلب الناس في واشنطن من قيمة أفكارهم تماما»، كما يقول فافرو بإعجاب شديد حول رودس. وأضاف يقول: «أعتقد أنه دائما ما كان يعتبر الوقت الذي يقضيه هناك وقتا موجزا، ولن يعبأ إن لم يدعه أحد مرة أخرى إلى حفل استقبال رسمي، أو يطلب منه أحد الظهور في برنامج (جو الصباحي)، أو وضع اسمه على قائمة المشاهير في مجلس العلاقات الخارجية، أو أيا ما كان يفعلونه هناك».
وتتذكر سامانثا باور وصول رودس إلى حملة أوباما الانتخابية في عام 2007 حيث تقول: «كان يقلل من شأن الجميع بصورة ملحوظة». وهي نفسها كانت كاتبة، وحاز مؤلفها بعنوان «مشكلة من الجحيم» ويدور حول تاريخ الاستجابة الأميركية لعمليات الإبادة الجماعية، على جائزة بوليتزر الأدبية الأميركية، ثم انطلقت للعمل في مكتب مجلس الشيوخ للسيناتور أوباما في عام 2005، والسيدة باور الآن هي سفيرة الولايات المتحدة لدى منظمة الأمم المتحدة.
وفي وقت مبكر، ما الذي لفت انتباهها حول رودس كانت النزعة الاستراتيجية في شخصيته. وقالت عن ذلك: «كان يقود في هدوء وصمت، في البداية وبالأساس من خلال متابعة التغييرات، مثالا بما يمكن قبوله أو رفضه».
وفي أول يوم له في الجناح الغربي، يتذكر رودس التفكير في مدى صخر حجم الفضاء الفعلي، ولاحظ أن نفس الفئة من الأشخاص الذين عمل معهم في مقر الحملة الانتخابية في شيكاغو صاروا الآن يرتدون السترات الرسمية بدلا من سراويل الجينز. وغرقت ضخامة المساعي المبذولة في اليوم الأول من العمل، ثم أدرك أنه بالنسبة لكافة الأعمال التحضيرية هنا، لم يكن هناك دليل واحد يرشدك لكيفية أن تكون موظفا في طاقم الموظفين التابعين للرجل الذي يدير شؤون البلاد، ولا سيما في الوقت الذي كان الاقتصاد العالمي فيه على شفا السقوط الحر، وهناك 180 ألف جندي أميركي يقاتلون في العراق وأفغانستان. ثم أدرك أمرين مهمين في آن واحد: قيمة القضايا التي تواجه الرئيس، والاهتمام العالمي الكبير حتى بأدنى درجات الاتصالات الرئاسية الآسيوية.
وكانت الوظيفة التي تعاقد عليها هي مساعدة رئيس الولايات المتحدة على التواصل مع الجمهور، تتغير بأساليب مهمة على حد سواء، وذلك يرجع إلى تأثير التكنولوجيا الرقمية التي كان الناس في العاصمة واشنطن يبدأون في إدراكها والتعامل معها. وكان من الصعب على الكثيرين استيعاب الحجم الحقيقي للتغيير في عالم الأخبار - 40 في المائة من المحترفين في صناعة الصحف فقدوا وظائفهم خلال العشر سنوات الماضية - ويرجع ذلك في جزء منه إلى أن القراء يمكنهم استيعاب كافة الأخبار التي يريدونها من منصات التواصل الاجتماعي مثل «فيسبوك»، والتي تبلغ قيمتها السوقية بعشرات بل ومئات البلايين من الدولارات ولا تدفع شيئا قط في مقابل المحتوى الذي توفره للقراء. عليك تغيير جلدك لتتمكن من المواصلة والمنافسة - حتى تكون في عالم الأخبار، أو الاعتماد بأسلوب الحياة أو الموت على المنتجات الإخبارية - ولتتفهم الأساليب الراديكالية والنوعية التي تتغير بها الكلمات التي تظهر على أطقم الحروف المطبعية. ولقد ضرب رودس مثالا في أحد الأيام، حيث كان الازدراء الشديد هو السمة المميزة لحديثه الخاص. ولقد قال: «اعتادت كافة هذه الصحف أن يكون لديها مكاتب خارجية. ولم تعد تستخدمها الآن. وأصبحوا ستصلون بنا لنوضح لهم ما الذي يجري في موسكو وفي القاهرة. وأغلب هذه المنافذ الصحافية تخرج بتقاريرها حول الأحداث العالمية من واشنطن. ومتوسط عمر المراسل الصحافي الذي نستقبله لا يتجاوز 27 عاما، ولا تتألف خبراتهم الصحافية من أكثر من تغطية الحملات الانتخابية العامة. هذا تغيير كبير فعلا. إنهم لا يعرفون شيئا على الإطلاق».
في هكذا بيئة، أصبح رودس بارعا في ازدراء الكثير من الناس في آن واحد. ولقد منحني نيد برايس، مساعد رودس، مثالا صادقا حول كيفية القيام بذلك. كانت أسرع طريقة للبيت الأبيض في صياغة الأخبار، كما أوضح لي، كانت من المنابر الإعلامية، ولكل منها مجموعته الصحافية الخاصة. ولكن كان هناك نوع من مضاعفات القوة، ولدينا كذلك أصدقاؤنا المقربون، وكل ما علي فعله هو التواصل مع مجموعة معينة من الأشخاص وأن بكل تأكيد تدرك أنني لا أريد أن أذكر أسمائهم إليك.
قلت: «أستطيع أن أذكر أسماءهم»، واستعرضت أمامه بعض الأسماء من صحافيي واشنطن البارزين وكتاب الأعمدة الصحافية الثابتة الذين يغردون في غالب الأمر بالتزامن مع رسائل البيت الأبيض.
فضحك برايس بشدة وقال: «انظر، إن بعض الناس يلوون عنق الكلام ويقولون إن هذا من علامات الضعف الأميركية. ولكن، في واقع الأمر، إنها إشارة من إشارات القوة». واستمر برايس يقول: «ولسوف أعطيهم بعض الألوان. والأمر التالي الذي أعلمه، أن الكثير من هؤلاء الناس يعملون في مجال الصحافة الإلكترونية، ولديهم متابعون كثيرون على تويتر، ولسوف يقتبسون كلماتي هذه وينشرونها في عبارات من صياغتهم».
من المرجح لحملة رودس المبتكرة لبيع الاتفاق الإيراني أن تكون أنموذجا للكيفية التي تفسر بها الإدارات الأميركية القادمة قضايا السياسة الخارجية أمام الكونغرس وأمام الناس. والطريقة التي سمع بها معظم الشعب الأميركي عن قصة الاتفاق الإيراني تجسد - أن إدارة الرئيس أوباما بدأت التفاعل وبجدية مع المسؤولين الإيرانيين منذ عام 2013 حتى يتسنى لها الاستفادة من الواقع السياسي الجديد في طهران، الذي جاء إثر الانتخابات التي دفعت بالمعتدلين إلى صدارة السلطة هناك - وأن قصة الاتفاق الإيراني قد صيغت بالكامل من أجل بيع الاتفاق إلى الكونغرس والجمهور. وحتى مع العلم بأن تفاصيل هذه القصة فعلا صحيحة، فإن الآثار التي استمدها القراء والمشاهدون من تلك التفاصيل كانت في غالب الأمر مضللة أو كاذبة. أدرك أقرب مستشاري الرئيس أوباما أنه شديد الحرص بصورة شخصية على التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران بقدر ما يعود الأمر لعام 2012، وحتى منذ بداية أولى فتراته الرئاسية في البيت الأبيض. وأوضح رودس الأمر بعد يومين من إبرام الاتفاق حيث قال: «إن ذلك الاتفاق هو مركز الاهتمام والتركيز»، وهو المعروف رسميا باسم خطة العمل الشاملة المشتركة، التي نفذت حرفيا. ثم عمد رودس إلى التحقق من الأساليب التي تمكنت بها أهداف وأولويات السياسة الخارجية الأميركية من الالتئام في إيران. وقال رودس عن ذلك «لا يجب علينا أن نستمر في دورات الصراع الفارغة إذا ما كنا نستطيع البحث عن طرق أخرى لتسوية هذه القضايا. يمكننا فعل أشياء تصارع أو تتحدى أساليب التفكير التقليدية التي، كما تعرف، أن لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (آيباك) لا تفضل هذا، أو أن الحكومة الإسرائيلية الحالية لا تفضل ذاك، أو أن دول الخليج العربي لا تفضل الأمر برمته». إنها إمكانية تحسين العلاقات مع الخصوم. إنها تتعلق بحظر انتشار الأسلحة النووية. ومن ثم فإن كافة تلك الفقرات التي كان يتابعها السيد الرئيس - وأعني تلك التي ليست بالمعني الصحافي للكلمة - ولمدة عشر سنوات تقريبا، قد تجمعت كلها في وقت واحد حول إيران.
* خدمة {نيويورك تايمز}



المرتزقة في ليبيا... عصف الحرب المأكول

TT

المرتزقة في ليبيا... عصف الحرب المأكول

بعد 9 أشهر من الحرب التي شنها قائد «الجيش الوطني الليبي»، المشير خليفة حفتر، على العاصمة الليبية طرابلس، في 4 أبريل (نيسان) 2019، مدعوماً بمقاتلين من مجموعة «فاغنر» الروسية، دفعت أنقرة بمرتزقة ينتمون لمجموعات سورية معارضة، أبرزها فصيل «السلطان مراد»، الذي غالبية عناصره من تركمان سوريا، إلى ليبيا. وبعد اقتتال دام 14 شهراً، نجحت القوات التابعة لحكومة فايز السراج، في إجبار قوات «الجيش الوطني» على التراجع خارج الحدود الإدارية لطرابلس.

وفي تحقيق لـ«الشرق الأوسط» تجري أحداثه بين ليبيا وسوريا والسودان وتشاد ومصر، تكشف شهادات موثقة، كيف انخرط مقاتلون من تلك البلدان في حرب ليست حربهم، لأسباب تتراوح بين «آيديولوجية قتالية»، أو «ترغيب مالي»، وكيف انتهى بعضهم محتجزين في قواعد عسكرية بليبيا، وأضحوا الحلقة الأضعف بعدما كان دورهم محورياً في بداية الصراع.

وفي يناير (كانون الثاني) 2024، قال المرصد السوري لحقوق الإنسان، إن عدد عناصر «المرتزقة السوريين» في طرابلس تجاوز 7 آلاف سابقاً، لكن فرّ منهم نحو 3 آلاف وتحولوا إلى لاجئين في شمال أفريقيا وأوروبا.

مرتزقة الحرب الليبية.. وقود المعارك وعبء الانتصارات والهزائم