الفن، بمعناه الشامل الممتد من الأدب إلى التشكيل إلى الموسيقى إلى الرقص إلى غير ذلك من ألوان الفن، ليس في جوهره سوى نظام، نظام يكتشفه الذهن المبدع في مظاهر الفوضى أو يفرضه عليها. حتى حين يكون الفن فوضويًا، فإن فوضاه تكون مفتعلة، مصطنعة، فوضى تحاكي فوضى لا فوضى ناتجة عن فوضى.
تنبهت إلى هذه السمة، التي ترقى في تقديري إلى مرتبة الحقائق، وأنا أتأمل ملاحظة للشاعر والناقد الأنغلو أميركي ت. س. إليوت في مقالة له حول رواية الآيرلندي جيمس جويس «يوليسيس» عنوانها «يوليسيس.. النظام والأسطورة». يقول إليوت إن من الممكن للكتّاب أن يتبعوا جويس في «اصطناع توازٍ مستمر بين المعاصرة والقدم.. إنها ببساطة طريقة للسيطرة وفرض النظام على بانوراما اللاجدوى والعدم الهائلة المتمثلة في التاريخ المعاصر ومنحها شكلاً ومغزى.. إنها، كما أرى جادًا، خطوة إلى الأمام نحو جعل العالم الحديث ممكنًا في الفن».
قصيدة إليوت الشهيرة «الأرض اليباب» (1922) تتمثل ذلك الأسلوب الذي دشنه جويس في الأدب الحديث، وهو أسلوب يتلخص في توظيف أسطورة يوليسيس أو أوديسيوس، الملك اليوناني في ملحمة هوميروس الأوديسة، بوصفها موازية في أحداثها لأحداث حياة أفراد معاصرين، بحيث إن الأسطورة المعروفة تتحول إلى سياق مفسر على نحو ما لما يحدث في مطلع القرن العشرين أو العكس. وهذا يتبين في قصيدة إليوت من خلال توظيفه مجموعة من الأساطير التي تساير الأحداث المعاصرة في القصيدة. تلك الأساطير على كثرتها وتعدد مصادرها، من أوروبية إلى هندية إلى يهودية - مسيحية، تؤدي دورًا شبيهًا بما تؤديه منظومة الأساطير المتمثلة في يوليسيس في رواية جويس. المهم لدى إليوت هو أن ذلك يحقق الهدف الأساسي، وهو السيطرة على فوضى العالم ومشاهد اللاجدوى والعدم، حسب تعبيره.
من الأمثلة الكثيرة التي يمكن استعادتها هنا من قصيدة إليوت «الأرض اليباب»، مشهد العراف تايريزياس الذي عرف من خلال مسرحية سوفوكليس «أوديب ملكًا»، فهو العراف، أو النبي، الذي تنبأ بقتل أوديب أباه وزواجه من أمه (دون أن يعلم طبعًا). يحضر تايريزياس إلى قصيدة إليوت في مشهد «الراقمة»، أو السكرتيرة التي تطبع على الآلة حين يأتيها صديق لها، فيمارسان الجنس بطريقة خاطفة وخالية من العاطفة، ليؤكدا بذلك انهيار القيم الأخلاقية في أرض غدت يبابًا روحيًا، أرض ليست سوى أوروبا المعاصرة بعد الحرب العالمية الأولى. يقول تايريزياس إنه رأى ذلك المشهد أو تنبأ به قبل حدوثه بآلاف السنين، مما يكسب المشهد بعدًا أسطوريًا دلاليًا من ناحية، ويعمق دلالات الانهيار الأخلاقي بمنحها أبعادًا تتجاوز الزمان والمكان، لتصبح إنسانية كونية، ويظهر الانهيار بوصفه قابلاً للحدوث في أزمنة وأمكنة مختلفة.
الأدب العربي الحديث يزخر بالأمثلة التي وظفت فيها الأسطورة توظيفًا قريبًا مما يشير إليه إليوت. غير أن حضور الأساطير في الأدب العربي قديمًا وحديثًا يختلف نوعًا ودرجة عنه في الآداب الغربية، فليس في الثقافة العربية ذلك الكم الهائل من الأساطير التي ورثها الغرب المعاصر عن الثقافتين اليونانية والرومانية أو عن الموروثات الشعبية المحلية، كما أن طبيعة أو نوع الأساطير في الثقافة العربية ليس مماثلاً لما لدى اليونان أو الرومان. هناك أساطير كثيرة بالطبع في الثقافة العربية، لكن الفرق يكمن في كثافة الحضور وألوان التوظيف. فالأساطير البابلية والفرعونية (عشتار، وإيزيس.. إلخ) حاضرة لدى الكتاب العرب، وكذلك هي الأساطير العربية مثل العنقاء أو الفينيق وزرقاء اليمامة وحكايات العفاريت وما إليها. كل تلك حاضرة في مختلف الأنواع الأدبية، وتوظيفها يمكن أن ينظر إليه من الزاوية التي يتحدث عنها إليوت، لكني أشك في أننا سنجد توظيفًا مكثفًا لتلك يماثل ما في الآداب الأوروبية. كما أن عناية الباحثين العرب بتلك الأساطير لا يماثل أو يوازي ما في الغرب. فلست أعرف في الثقافة العربية، مثلاً، ما يشبه كتاب فريزر «الغصن الذهبي» بمجلداته الضخمة التي تجمع وتحلل عددًا ضخمًا من الأساطير والرموز الأسطورية. ومن هنا نجد أن بعض الكتاب العرب كثيرًا ما ركنوا إلى التراث الأوروبي نفسه بوصفه مصدرًا ثريًا للأساطير، لا سيما في مرحلة الحداثة الأدبية منتصف القرن الماضي (سيزيف، وبروميثيوس، وأبولّو.. إلخ).
المهم هنا ليس توظيف الأسطورة بحد ذاتها، وإنما مواجهة الفن للفوضى، سواء كانت في الحاضر أم الماضي، وسواء أكان ذلك من خلال الأسطورة أم غيرها. والفوضى، بكل ألم، هي سمة الوضع العربي المعاصر، فوضى الدمار وفوضى الحقوق الضائعة والآمال المنتهكة، الفوضى التي تخلفها الحروب، ويرثها الناس من بعد أنظمة الحكم المستبدة أو غزو الغزاة. الأدب العربي المعاصر يزخر بأساليب التعامل مع تلك الفوضى، سواء في الشعر أم السرد أم المسرح، فما الفن، كما قال إليوت، سوى محاولة للسيطرة على فوضى العالم بالتعبير عنها بأدوات منها الأسطورة، ومنها العودة إلى التاريخ سواء القريب أم البعيد ومنها تصور المستقبل مختلفًا عنه في الحاضر.
تلك الأساليب شائعة في الرواية العربية المعاصرة، وأظنها تتنامى وتتنوع بتنوع أساليب الدمار والفوضى، سواء في العراق قبل الاحتلال وبعده أو في بلاد الربيع العربي الذي سرعان ما تحول إلى شيء أبعد ما يكون عن الربيع. وتحضر إلى الذاكرة في هذا السياق روايات حديثة الصدور مثل «فرانكشتاين في بغداد» للعراقي أحمد السعداوي، و«لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» للسوري خالد خليفة، فكلتا الروايتين تتناول ثيمة الدمار والفوضى الناشئة عن الحرب من خلال تقنيات متفاوتة، لكنهما تلتقيان عند السعي للتحكم بفوضى المشهد وما فيه من مآسٍ تذهل التفكير. لكن الروايتين تتفاوتان في كيفية التحكم في المشهد فنيًا، ففي حين توظف رواية السعداوي أسطورة فرانكنشتاين الأوروبية (بعد أن غيرتها إلى فرانكشتاين)، بوصفها تختزل الكارثة العراقية، وكأن الرواية بذلك تحقق رؤية إليوت، ينزع خليفة إلى أسلوب بين الواقعي والسوريالي من خلال أسرة تعيش الخراب الذي أحدثه النظام السوري بتشظيها وانهياراتها. وتلفت النظر في رواية خليفة جثة الأم في البيت التي تذكر بمقطع دفن الموتى في «الأرض اليباب»، حيث يصبح دفن الجثة مشكلة لأهل تلك الأرض القاحلة.
إن تحدي الكتابة بل الفن عمومًا هو دائمًا هنا: العثور على المجاز، والرمز، والحكاية، والأسطورة، التي تجعل الفن ممكنًا، كما قال إليوت، وتفاوت الكتاب والأعمال إنما يكمن فيما يعثرون عليه ويختارونه ثم كيف يوظفونه.
مواجهات الفن.. والفوضى

غلاف «فرانكشتاين في بغداد» - غلاف «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة»
مواجهات الفن.. والفوضى

غلاف «فرانكشتاين في بغداد» - غلاف «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة