خلال الشهر الماضي تعرضت عملية إنتاج الغاز الطبيعي في شرق البحر المتوسط لضربات إدارية وسياسية عدة، لكن جاذبية المنطقة ما زالت عالية، وما زالت اكتشافات الغاز الضخمة هي المكون الأساسي لخطط الطاقة في الدول المطلة على تريليونات الأقدام من الغاز الطبيعي.
في منتصف الشهر الماضي كشفت شركة إيني الإيطالية عن نيتها خفض استثمارات وبيع حصص في حقول نفط وغاز بما يساعدها على زيادة توزيعات الأرباح، والتحول إلى لاعب أصغر حجما في قطاع التنقيب مع التركيز على الغاز، وذكرت الشركة في خطة أعمالها للفترة من 2016 إلى 2019 أنها ستخفض إجمالي إنفاقها الرأسمالي 21 في المائة وميزانيات التنقيب 18 في المائة، بينما ستجمع سبعة مليارات يورو (7.9 مليار دولار) من بيع أصول.
وقال الرئيس التنفيذي، كلاوديو ديسكالزي: إن عمليات البيع «ستكون في الأساس من خلال تقليص حصصنا في اكتشافات... منها اكتشافات تحققت في الآونة الأخيرة»، مشيرا إلى أن حقول الغاز الكبرى التي تعمل بها الشركة في مصر على رأس القائمة.
جدير بالذكر، أن هذا الاكتشاف سيوفر لمصر احتياطات عملاقة من الغاز، وأن المعلومات الأولية توضح أن الاكتشاف يحتوي على «احتياطات أصلية تُقدر بنحو 30 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، بما يعادل نحو 5.5 مليار برميل».
ويغطي الاكتشاف الذي أطلق عليه اسم حقل «ظهر» مساحة 100 كيلومتر مربع في عمق 4757 قدما (1450 مترا)، ويصل عمقه الأقصى إلى نحو 13553 قدما (4131 مترا).
بعدها بأيام وجهت المحكمة العليا الإسرائيلية ضربة لرئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، حيث رفضت الاتفاق الموقع بين الحكومة وكونسورتيوم، إسرائيلي أميركي، لاستثمار احتياطي الغاز في المتوسط. ومن شأن هذا الرفض أن يعرقل طموحات نتنياهو في تحويل إسرائيل إلى مصدر للغاز الطبيعي.
ورفضت المحكمة الإسرائيلية العليا الاتفاق، وعزت قرارها إلى وجود بند «غير مقبول» في الاتفاق، كونه يحول دون تغيير نص الاتفاق لعشر سنوات.
وقال نتنياهو أمام المحكمة «الاتفاق الحالي لا بديل عنه، وعدم الموافقة عليه سيؤدي إلى تداعيات سلبية على البلاد».
وتزامن قرار المحكمة الإسرائيلية مع تأكيد وزارة الخارجية التركية بأن أنقرة لن تسمح للشركات الأجنبية بالتنقيب عن النفط والغاز قبالة قبرص، وأنها ستتخذ التدابير كافة التي من شأنها حماية حقوقها في تلك المياه، وهذا ردا على اعتزام حكومة «القبارصة اليونانيين» إجراء مناقصة جديدة لمنح تراخيص للتنقيب عن النفط والغاز قبالة قبرص.
وقال بيان الخارجية التركية: إن «قرار قبرص الرومية في ما يتعلق بالمناقصة المذكورة يعد انتهاكا لحقوق تركيا النابعة عن الجرف القاري للمنطقة من جهة، وتجاهلا لمصالح وحقوق الطرف التركي من الموارد الطبيعية للجزيرة من جهة أخرى».
ودعت الوزارة «الدول والشركات التي قد تنوي القيام بأعمال التنقيب عن الهيدروكربونات، استنادا إلى رخص باطلة قد تحاول منحها إدارة جنوب قبرص الرومية إلى التصرف بحكمة، والوضع في الحسبان إرادة القبارصة الأتراك المكون الآخر للجزيرة».
ورغم هذه العراقيل الموضوعة تباعا أمام حركة استخراج الغاز الطبيعي من واحدة من أكثر المناطق غنى بالغاز الطبيعي، فإن تنمية المنطقة المهمة واستفادة الدول المطلة من الثروات أمر غير قابل للتوقف.
فبخصوص مصر، فقد صرحت وزارة البترول بأن «خطة تنمية الكشف تم اعتمادها بالفعل والشركة ملتزمة ببرامج التنمية، وحتى لو أرادت الشركة التخارج أو البيع، فإن الشريك الجديد يكون ملتزما بكل شروط التعاقد، كما حدث في أكثر من سابقة».
وانتهت «إيني» بالفعل من حفر بئرين في منطقة الاستكشاف، وبدأت في حفر البئر الثالثة في منطقة شروق البحرية، وتقدر استثمارات المشروع بـ «12 مليار دولار».
وقال خبير بترولي مصري، رفض ذكر اسمه، لـ«الشرق الأوسط»: «إن الاستثمار في المياه العميقة في البحر المتوسط ما زال جاذبا، وأن (إيني) إذا فكرت أن تبيع هذا الاكتشاف، فسيكون لكونه جاذبا وعالي الإنتاجية وسهل التسويق، وليس لكونه عبئا على الشركة».
ولم تعلن الحكومة المصرية سعر شراء الغاز من «إيني»، ولكن العقد المبرم يلزم برد التكاليف الاستثمارية أولا للشركة قبل استفادة الحكومة من الإنتاج، كما أن الحكومة المصرية قامت برفع سعر شراء الغاز من «إيني» أكثر من 100 في المائة في يوليو (تموز) الماضي، ليصل السعر إلى 5.88 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية كحد أقصى، وعند 4 دولارات كحد أدنى، ارتفاعا من 2.65 دولار لكل مليون وحدة سابقا، وهذا بخصوص آبار أقل عمقا في مياه البحر المتوسط، ما يعني أن أسعار شراء الغاز من حقل «ظهر» الأكثر عمقا ستكون أعلى.
وتهتم الحكومة المصرية منذ منتصف 2013 بتوفير مصادر الطاقة، مع اهتمام أقل بالحصول على أسعار تفضيلية، حيث تقوم بتوفير الطاقة للمواطنين مع رفع دعم الطاقة تدريجيا، وهذا بعد أن شهدت مصر أسوأ أزمة طاقة في عقود بسبب الانخفاض المتواصل في إنتاج الغاز وزيادة الاستهلاك من الطاقة المدعومة.
وبخصوص قرار المحكمة الإسرائيلية، فإن المحكمة أعطت البرلمان الإسرائيلي مهلة عام لتعديل الاتفاق، ما يسمح بإنقاذ الصفقة التي تم التفاوض عليها لأشهر.
ويقول أستاذ القانون في الجامعة العبرية في القدس، باراك مدينا، «في الواقع، وافقت المحكمة على معظم قرارات الحكومة».
وكانت المحكمة قالت في نص قرارها «قررنا إلغاء الاتفاق حول الغاز نتيجة هذا البند»، الذي يمنع تغيير السعر لعشرة أعوام.
وإن كانت نوبل إنرجي تخوفت من تباطؤ الاستثمار في حقل لوثيان بعد قرار المحكمة، فهي تستثمر بالفعل بالشراكة مع «ديليك غروب» منذ العام 2013 في حقل تمار الواقع على بعد نحو 80 كلم قبالة سواحل حيفا، كما تتعاونان في تطوير حقل ليفياثان الشاسع، الواقع أيضا قبالة المدينة، الذي يتوقع أن يبدأ استثماره عندما يبدأ الاحتياطي في تمار بالنضوب.
وتعهد نتنياهو بإيجاد طرق أخرى «للتغلب على الضرر الشديد الذي سيتسبب به هذا القرار الغريب للاقتصاد الإسرائيلي».
ويوضح أستاذ القانون، أن رد فعل نتنياهو قد يكون مرتبطا بالسياسة أكثر منه بالقرار نفسه، وينتقد خصوم نتنياهو الاتفاق الذي يقولون إنه «يعطي الأفضلية للشركتين المعنيتين على حساب المستهلكين».
وقال الرئيس التنفيذي للشركة، ديفيد ستوفر، في بيان: إن «قرار المحكمة مخيب للآمال»، ولو أنه اعترف بأن تطوير الغاز الطبيعي في الوقت المناسب مسألة ذات أهمية وطنية استراتيجية لإسرائيل.
وأضاف «الأمر الآن متروك للحكومة الإسرائيلية لإيجاد حل يلبي، على الأقل، شروط اتفاق الإطار، وعليها القيام بذلك بسرعة».
ومن شأن هذه الحقول، أن تغير وضع الطاقة في إسرائيل، ليس لأنها تتيح استقلالا في قطاع الطاقة لبلد يعتمد إلى حد كبير على الخارج في هذا المجال فحسب، بل لأنها تفتح أيضا للدولة فرص تصدير طاقتها وإقامة علاقات استراتيجية جديدة في المنطقة.
ولكن بحسب مدينا، فإن قرار المحكمة العليا قد يسمح له بتنفيذ التغييرات اللازمة من دون اللجوء إلى البرلمان.
ويشير أستاذ القانون إلى أن إحدى الوسائل لحل المسألة تكمن في تضمين الاتفاق دفع تعويض للشركات المعنية في حال حصول تغيير في القانون أو الاتفاق، ويعاد الاتفاق بعد التعديل إلى المحكمة العليا لمراجعته.
ومع أن تجنب الذهاب إلى البرلمان قد يكون الطريقة الأسرع، إلا أن الشركات المعنية ستكون في وضع أفضل في حال تمرير مشروع قانون على البرلمان، بحسب ما تقول بريندا شافير، التي شغلت منصب مستشارة للحكومة الإسرائيلية في قضايا الطاقة.
وتقول شافير، وهي أستاذة زائرة في جامعة جورج تاون في الولايات المتحدة: "إن إقرار القانون في البرلمان سيكون أكثر متانة من قرار حكومي".
ويملك نتنياهو 61 مقعدا في البرلمان في إطار مقاعد الائتلاف الحكومي اليميني الهش الذي يقوده.
وتتابع شافير «قد يكون ذلك أفضل للشركات لأن (الاتفاق) ليس ثابتا جدا من دون موافقة البرلمان، ولهذا أعتقد أنه على الرغم من أن الشركات غير سعيدة اليوم، فإن الأمر يصب في مصلحتها على المدى الطويل».
ولا يُعد تطوير حقل لوثيان مهما لإسرائيل فقط، حيث أعلن مطورو حقل لوثيان في العام الماضي توقيع اتفاق أولي لضخ الغاز إلى مصر عبر خط أنابيب بحري قائم لمدة تصل إلى 15 عاما.
وقالت الشركات: "إن لوثيان، المتوقع أن يبدأ إنتاجه في 2019 أو 2020، سيزود دولفينوس القابضة المصرية بما يصل إلى أربعة مليارات متر مكعب من الغاز سنويا لمدة عشر سنوات إلى 15 سنة».
وقالوا: «إن سعر الغاز مماثل للعقود الأخرى ويرتبط بتكلفة خام برنت ويتضمن حدا أدنى».
وقتها، قالت وزارة البترول المصرية: إن قطاع البترول «ليس لديه مانع للسماح لشركات القطاع الخاص الراغبة في استيراد الغاز مقابل تعريفة يتم الاتفاق عليها».
وقال يوسي أبو، الرئيس التنفيذي لشركة ديليك للحفر الإسرائيلية، «السوق المصرية متعطشة للغاز، سواء للاستخدام المحلي أو لمنشآت التصدير، يوجد مجال كبير للتعاون هناك».
وسيضخ الغاز عبر خط أنابيب بحري أنشأته شركة غاز شرق المتوسط قبل عشر سنوات تقريبا.
هذا، إضافة إلى المفاوضات بين شركاء لوثيان ومجموعة بي.جي البريطانية بخصوص صفقة محتملة لإمداد محطة بي.جي للغاز الطبيعي المسال في «إدكو» بمصر.
وقالت مصر: إنها «ما زالت ترغب في استيراد الغاز الإسرائيلي، رغم اكتشاف (إيني) الإيطالية حقل ظُهر العملاق».
وفي وقت سابق هذا العام، أبرمت دولفينوس اتفاقا مدته سبع سنوات لشراء ما لا تقل قيمته عن 1.2 مليار دولار من الغاز من حقل تمار الإسرائيلي القريب من لوثيان، هذا كما تسعى الأردن أيضا إلى استيراد غاز لوثيان.
وقال أبو: «مصر تتحول إلى مركز إقليمي عن طريق التعاون مع شركاء لوثيان وتمار وإسرائيل وقبرص»، ولم تتعرض الاستثمارات الأجنبية في غاز قبرص لاضطرابات نتيجة الانتقادات التركية المستمرة، ما يرجح فرص استمرار حركة الاستثمار بوتيرة جيدة.
ووفقا للتقارير الدولية، فإن الطلب على الغاز الطبيعي ما زال يتنامى، ويستحوذ على شرائح أكبر من استهلاك العالم من الطاقة، ما يدعم تنافسية قطاع الغاز الطبيعي في المنطقة والعالم بأسره.
ونما الاستهلاك العالمي من الغاز سنويا بـ2.4% في المتوسط خلال السنوات العشر، وهو أعلى من معدل الزيادة في باقي أنواع الطاقة، ما جعل الغاز يستحوذ على نسبة أكبر من الاستهلاك العالمي، وتتوقع وكالة الطاقة العالمية أن يستحوذ الغاز الطبيعي على 25 في المائة من مكونات الطاقة في العالم بحلول 2035.
غاز البحر المتوسط يواجه عثرة عابرة في طريق تريليونات الأقدام
انسحاب في مصر.. وقضايا في إسرائيل.. وانتقادات لقبرص
غاز البحر المتوسط يواجه عثرة عابرة في طريق تريليونات الأقدام
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة