أهالي الفلوجة يحتضرون أمام أعين الحكومة العراقية وتخاذل المنظمات الدولية

الهاشمي نائب رئيس الجمهورية الأسبق لـ «الشرق الأوسط»: ما يحدث في المدينة إبادة جماعية بقصف المدنيين بالبراميل المتفجرة

طفلتان في الفلوجة تجمعان الحطب لإشعال موقد في ظل غياب أي تحرك دولي للكارثة الإنسانية  («الشرق الأوسط»)
طفلتان في الفلوجة تجمعان الحطب لإشعال موقد في ظل غياب أي تحرك دولي للكارثة الإنسانية («الشرق الأوسط»)
TT
20

أهالي الفلوجة يحتضرون أمام أعين الحكومة العراقية وتخاذل المنظمات الدولية

طفلتان في الفلوجة تجمعان الحطب لإشعال موقد في ظل غياب أي تحرك دولي للكارثة الإنسانية  («الشرق الأوسط»)
طفلتان في الفلوجة تجمعان الحطب لإشعال موقد في ظل غياب أي تحرك دولي للكارثة الإنسانية («الشرق الأوسط»)

سكان الفلوجة ما بين محتضر ومنتحر بعد أن ضاقت الدنيا عليهم من حصار دام سنتين ما بين المنظمات الإرهابية، مثل «داعش» والقوات العراقية، ليجد السكان أنفسهم ما بين فكي كماشة لا ترحم ولا تذر.
كان أهالي مدينة الفلوجة يضرب بهم المثل لكرمهم وإيوائهم النازحين من المحافظات التي كانت تتعرض للقصف المدفعي خلال سنوات الحرب العراقية الإيرانية، كون سكانها من أبناء العشائر العربية فإنهم لم يردوا أي طالب للمساعدة يومًا، إلا أنهم منذ عامين لتضيق بهم الحياة ليجدوا أنفسهم محرومين من الغذاء والدواء ولم يجدوا أمامهم سوى الأعشاب البرية، والأدهى من ذلك وضع البعض منهم حدًا للحياة بالانتحار.
ويصف الحاكم الإداري لقضاء الفلوجة المحاصرة ما يحدث لأهالي المدينة بـ«الكارثة» ووصمة عار في جبين الحكومة العراقية، في حين قال السياسي طارق الهاشمي، نائب رئيس الجمهورية الأسبق إن «جميع المؤشرات التي جمعت بناء على تقارير وبيانات رصينة صدرت عن جهات موثوقة تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن العوائل المحاصرة في الفلوجة تتعرض لإبادة جماعية».
وقال سعدون عبيد الشعلان، قائمقام قضاء الفلوجة لـ«الشرق الأوسط» إن «الفلوجة محاصرة بسورين، خارجي يتمثل بقوات الجيش العراقي، وسور داخلي مفروض من قبل مقاتلي تنظيم داعش»، مشيرًا إلى أن «الدواعش لا يسمحون بخروج أي مواطن من أهالي المدينة لاستخدامهم دروعًا بشرية، كما لا يسمحون بدخول الغذاء والدواء عقوبة للأهالي الذين لم ينظموا للتنظيم الإرهابي».
وبين الشعلان أن «القوات الأمنية المتمثلة بالفرقة الذهبية التابعة للجيش العراقي والشرطة الاتحادية فتحوا منافذ لتمكن الناس من الهروب، ومن يخرج يرفع راية بيضاء، ثم يتم التأكد من هويته للتحقق من أنه ليس من تنظيم داعش، لكن (داعش) يراقب هذه المنافذ بدقة وتحاصرها».
وأشار الحاكم المدني لمدينة الفلوجة إلى أن «عدد المحاصرين من أهالي المدينة يزيد عن 100 ألف شخص غالبيتهم من الأطفال والنساء والشيوخ من أصل 620 ألفًا هم عدد سكان قضاء الفلوجة وضواحيها، وأن الحصار مركز من قبل تنظيم داعش على مركز المدينة»، مؤكدا أن الآلاف من المحاصرين يعانون من الجوع والأمراض ويقتاتون على التمور اليابسة غير الصالحة للطعام وعلى الأعشاب البرية، وخصوصًا (الخباز) الذي انتهى موسمه، ويتعرض للجفاف، بينما يسيطر مقاتلو (داعش) وعوائلهم على مخازن الأغذية والدواء».
وذكر الشعلان بعض القصص المآساوية لما يعانيه الأهالي ليس بسبب الجوع فحسب بل بسبب القصف الجوي للمدينة، وقال إن «العشرات من الأطفال قضوا بسبب القصف الجوي والمدفعي العشوائي من قبل القوات العراقية»، مضيفًا بقوله: «بسبب الجوع قام رب أسرة تتكون من 8 أشخاص بوضع السم لهم في الماء، لعدم وجود الغذاء لكن الأطباء في مستشفى الفلوجة العام قاموا بإسعافهم وإنقاذهم، بينما لم يستطيعوا إنقاذ الأم التي ألقت بنفسها مع ثلاثة من أطفالها في النهر بسبب الجوع، بل أنقذوا أحد الأطفال فقط لتموت الأم مع اثنين من أطفالها».
وأضاف قائمقام قضاء الفلوجة: «لقد طلبنا من الحكومة العراقية إنقاذ الأهالي في الفلوجة عن طريق قوات التحالف الدولي لإلقاء الأغذية والأدوية في المدينة عن طريق الجو، لكن الحكومة رفضت بحجة أن تنظيم داعش سيسيطر على تلك الأغذية والأدوية»، منتظرين أن ثور أهالي مدينة الفلوجة على «داعش» للحصول على ما ترميه الطائرات من مؤن.
وأكد الشعلان عدم تمكن أي جهة من إيصال المساعدات الغذائية برًا للمدنيين، مطالبًا بتدخل الأمم المتحدة بشكل فوري لإنقاذ الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ الأبرياء، الذين يموتون جوعًا بسبب النقص الحاد في حليب الأطفال والغذاء والأدوية.
وأوضح الشعلان أن مقاتلي «داعش» الذين يتمركزون في الفلوجة من الأجانب مع عوائلهم، وأن هناك بعض الإيزيديات اللاتي تم اختطافهن من قبل المتطرفين الأجانب، مشيرًا إلى أن «كل من يعترض على ممارسات تنظيم داعش يتعرض للإعدام عن طريق رميه من سطح بناية عالية، وهو ما حدث أخيرا بإعدام ستة أشخاص بهذه الطريقة».
قصص الموت جوعًا ومحاولات الهروب الصعبة تروى ممن تمكن من الأهالي من الهروب من هذا الحصار القاسي للغاية، إذ التقت «الشرق الأوسط» أحد أهالي الفلوجة الذين هربوا من هذا الجحيم، ويقال له محمد فاهم فرحان (42 عامًا)، تمكن من الفرار من الحصار أخيرًا، قال إن عملية الخروج من مدينة الفلوجة تبدو شبه مستحيلة بسبب محاصرة مقاتلي «داعش» للأهالي، مشيرًا إلى أنه «لم يعد هناك سوى منفذ واحد وهو عبور النهر بواسطة الزوارق، وهو يقع تحت سيطرة تنظيم داعش بينما بقية المنافذ تم تفخيخها بالمتفجرات ووضعت هناك نقاط سيطرة على أي منفذ محتمل».
وروى فرحان قصة هروبه مع عائلته من الفلوجة، قائلاً: «قمنا بدفع مبلغ 1500 دولار للحصول على وثيقة مزورة تؤكد أننا زوار للفلوجة، ولسنا من أهلها، وهذا المبلغ يدفع لأحد مقاتلي (داعش)، والوثيقة كفلت خروجنا بواسطة المنفذ النهري مع أن هناك مخاطر قد نتعرض لها كون من يسيطر على المنفذ يتحقق بواسطة الكومبيوتر من صحة الوثائق حيث سيطر التنظيم الإرهابي على وثائق دائرة تسجيل النفوس في القضاء لدى دخولهم للفلوجة».
وأضاف فرحان قائلا: «هناك 7 نقاط تفتيش تابعة لتنظيم داعش ويدققون بهويات المارة ويراقبون تحركاتهم حتى إن الفلوجة التي هي من المدن المزدحمة تحولت اليوم إلى مدينة أشباح، وشوارعها خالية»، مشيرًا إلى أن «من حاول التسلل من بعض المنافذ تم إلقاء القبض عليه، واختفى تمامًا فمن يغيب لأكثر من أسبوعين نتأكد أنه تعرض للإعدام»، واصفًا أوضاع الأهالي بالداخل بأنها «كارثية والجميع معرضون للإبادة الجماعية بسبب فقدان الطعام والأدوية»، وأضاف: «شاهدتُ امرأة في السبعين من عمرها تتوسل أحد الدواعش للسماح لها بالخروج مع ابنتها التي تحتضر من أجل إنقاذها، لكن مقاتل (داعش) ركلها بقدمه»، واصفًا إياها بـ«الكاذبة»، أما موضوع الجوع فهناك قصص قاسية عن موت الأطفال بأحضان أمهاتهم لعدم توفر الحليب والطعام، وكم قابلت شيخًا أو امرأة تتوسل للحصول على لقمة خبز تنقذهم من الموت.
وقال إن «أهالي الفلوجة يتحدثون اليوم بحزن عن قصص موت الأطفال، إما بسبب القصف الجوي أو الجوع، فهناك مجزرة زوبع جنوب الفلوجة، التي أودت بحياة أربعة أطفال من عائلة واحدة بسبب القصف الجوي، وهي عائلة عبد القادر حامد حسين علي العبيد الزوبعي، وهم: عبد القادر وعلي وسارة وتسليم حامد، بالإضافة إلى موت الطفلة رحمة صدام حسين علي الجميلي، وهي أحد ضحايا الحصار على مدينة الفلوجة، وبسبب نقص مادة الحليب والدواء، فهناك أطفال يموتون بالعشرات هم ضحايا إما للقصف الممنهج أو الحصار من الموت».
وعلى ما يبدو فإن الخارج من حصار الموت جوعًا من الفلوجة ليس بأفضل حالاً، بل سيكون مصيره اللجوء إلى الخيام وهياكل الأبنية المهجورة القريبة من المدينة، وهذا ما تعرضت له صبيحة فتحي جابر (67 سنة) مع أبنائها وزوجاتهم وأحفادها حيث يبلغ عدد أفراد العائلة 28 شخصًا يقيمون في هيكل بناء مهجور بمنطقة الحبانية السياحية.
صبيحة قالت: «تمكنت مع أولادي وزوجاتهم وأبنائهم وابنتي من التسلل من الفلوجة قبيل تشديد (داعش) للحصار، ولجأنا إلى غرفة في هيكل بناء فارغ لا تزيد مساحته عن ستة أمتار ليؤوينا من البرد وحرارة الصيف على أمل أن تهتم الحكومة بنا، لكن للأسف لم نلقَ أي مساعدة من الحكومة أو من شيوخ العشائر أو من السياسيين الذين تاجروا وما زالوا يتاجرون بنا وبقضيتنا».
وأضافت: «أعاني من أمراض كثيرة وأبنائي لا عمل لهم ونحن بحاجة للطعام والرعاية الصحية، وقد طرقنا أبواب الحكومة والمنظمات الإنسانية والأحزاب لكن لم يهتم بنا أحد، وكان مصيرنا هو ذاته لو بقينا في الفلوجة أسوة بالآخرين الذين يموتون جوعًا».
وحال نسرين حاتم (أم لثلاثة أطفال) لا يقل مأساوية عن خالتها صبيحة التي هربت «تحت القصف الجوي»، حسبما قالت لـ«الشرق الأوسط»، مشيرة إلى أن «قصف القوات الجوية العراقية للمدينة بالبراميل المتفجرة أدى إلى مقتل عوائل بكاملها في الحي الذي كانت تقيم فيه بالفلوجة إضافة إلى النقص في الغذاء والدواء، لهذا قررت الهروب عن طريق عبور النهر مخاطرة بحياتها ومن معها».
وعبرت نسرين عن خيبة أملها بعد تحررهم من «داعش»، حيث وقعوا أسرى التهجير وعدم دعم الحكومة لهم، إذ لم تقدم لهم أي مساعدات مادية أو علاج أو طعام.
من جهته، وصف طارق الهاشمي ما يحدث بمدينة الفلوجة بأنه «إبادة جماعية بسبب الحصار المفروض عليها، وحرمانها قصدًا من الخروج من المدينة المحاصرة إلى ملاذات آمنة، بينما ما زالت تتعرض ومنذ أشهر إلى قصف متواصل طال كل شيء حتى الأماكن المحرم قصفها في زمن الحروب ونقصد المستشفيات والمساجد والمدارس ودور السكن وكل شيء يتعلق بحياة المدنيين».
وقال الهاشمي في رسالة بعث بها إلى «الشرق الأوسط» أمس «إن محنة السكان باتت مضاعفة بعد أن باتوا بين مطرقة القصف الحكومي والتحالف الدولي من جهة وسندان تنظيم داعش من جهة أخرى، الذي يرهب المدنيين ويمنعهم من الخروج ويستخدمهم دروعًا بشرية، ومهما قيل عن أغراض القصف البري والجوي بأنه يستهدف حصرا كل ما له علاقة بتنظيم داعش، فإن الحقائق على الأرض تؤكد خلاف ذلك، حيث لم يتوقف استهداف المدنيين حتى اللحظة».
وأضاف: «أما التطور المأساوي الجديد الذي فاقم الأوضاع، إضافة للقصف اليومي لهذه المدينة الصابرة، فقد حصل بفعل الحصار المضروب عليها منذ أشهر وحرمان العوائل المحاصرة من الغذاء والدواء حيث باتت بسبب ذلك على شفا الموت مرضًا، أو جوعًا، وعطشًا».
وأضاف الهاشمي قائلاً: «إن المدنيين المحاصرين في الفلوجة يتعرضون لجريمة القتل العمد، سواء بالقصف أو بالجوع أو بالمرض، وقد مات كثير من الأطفال والنساء بسبب ذلك، وهذا من شأنه أن يعقد مهمة التحالف الدولي في القضاء على تنظيم داعش، إذ إنه سيدفع المزيد من اليائسين والغاضبين للتطرف، بل وحتى الانضمام للتنظيمات الإرهابية، وعلى المجتمع الدولي أن يدرك ذلك ويعيد النظر بحساباته ولا يتأخر بالضغط على الحكومة العراقية لإيقاف القصف العشوائي فورا، وإغاثة العوائل المحاصرة جوا، وتوفير ممرات آمنة لخروجها بأسرع وقت ممكن».



دروز سوريا وعلاقة مرتبكة بالشرع... خطاب التفاهم وواقع التصادم

رجل درزي بلباس تقليدي في السويداء (أ.ب)
رجل درزي بلباس تقليدي في السويداء (أ.ب)
TT
20

دروز سوريا وعلاقة مرتبكة بالشرع... خطاب التفاهم وواقع التصادم

رجل درزي بلباس تقليدي في السويداء (أ.ب)
رجل درزي بلباس تقليدي في السويداء (أ.ب)

اصطبغت علاقة الإدارة السورية الجديدة بالقوى الفاعلة في محافظة السويداء، معقل الطائفة الدرزية، بطابع غلبت عليه حالة من الشد والجذب، والتصعيد في مقابل تصعيد مضاد بهدف توجيه رسائل تدفع عملياً لفتح حوار يجنب سوريا المزيد من الفوضى الأمنية في مقابل انتزاع مكاسب تتعلق بشكل النظام السياسي وتوزيع السلطات والحفاظ على الخصوصيات المحلية في آن واحد.

وقد وضعت الأحداث الأخيرة التي جرت في الساحل السوري، معقل الطائفة العلوية، قضية الدروز على نار حامية وإن بدا ظاهرياً على الأقل أنها هدأت بعد أحداث كثيرة ومتفرقة شهدتها الأسابيع الأخيرة محافظة السويداء وصولاً إلى منطقة جرمانا، حيث الكثافة الدرزية في محيط العاصمة دمشق.

وكان التصعيد بلغ ذروته بمنع الفصائل العسكرية «الدرزية» قوات الأمن العام التابعة لحكومة دمشق من دخول مدينة السويداء، ومنطقة جرمانا جنوب شرقي العاصمة، للقبض على «قتلة» أحد عناصر الأمن العام عند أحد مداخل المنطقة في الأول من مارس (آذار) الماضي، في أحداث سبقت مباشرة أحداث الساحل الدموية.

هذا، وتشهد السويداء بين الحين والآخر احتجاجات رافضة لسلطة أحمد الشرع اتخذ بعضها نهجاً خطراً كمثل حادثة رفع العَلم الإسرائيلي، أو طلب الحماية من إسرائيل في مقابل بيانات وتصريحات لقوى أخرى أكثر ثقلاً محلياً وإقليمياً تدعو إلى الحوار ومنع التصعيد الطائفي كما ورفض التصريحات الإسرائيلية التي عرضت تقديم الحماية للدروز.

انفتاح دونه عقبات

مصدر في حكومة الشرع قال لـ«الشرق الأوسط» إن التقدم الذي تحرزه الحكومة في مجالات عدة بدأ ينعكس على العلاقة مع الدروز. وأشار المصدر، مفضلاً عدم الكشف عن اسمه، إلى أن «الأوضاع في السويداء تسير بشكل إيجابي، وإن هناك تقدماً في أكثر من جانب»، وإن أبناء السويداء «هم جزء لا يتجزأ من سوريا». يأتي ذلك في وقت بدأت تتسرب أنباء عن «اتفاق متعجل» يتم إقراره بين الشرع وأعيان من الطائفة الدرزية على غرار اتفاقه مع الزعيم الكردي مظلوم عبدي، من دون إمكانية تأكيد ذلك بعد بشكل حاسم.

فتى درزي يرفع أعلاماً قرب ملصق كبير للشيخ حكمت الهجري في ساحة الكرامة في السويداء (أ.ب)
فتى درزي يرفع أعلاماً قرب ملصق كبير للشيخ حكمت الهجري في ساحة الكرامة في السويداء (أ.ب)

ولفت المصدر إلى «أن الحكومة منفتحة على الحوار، لكنها تواجه عقبات قد تتطلب وقتاً لحلها»، مشدداً على أن «حل أي خلافات يتم بين السوريين أنفسهم دون أي تدخل خارجي. فالحكومة السورية تدير شؤون بلدها باستقلالية تامة».

ومنذ سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وسيطرة إدارة العمليات العسكرية بقيادة «هيئة تحرير الشام» على الحكومة الانتقالية المؤقتة، ازداد المشهد تعقيداً بعد تصريحات تصعيدية لبعض رجال الدين الدروز الفاعلين ترفض الامتثال لحل الفصائل المسلحة وتسليم السلاح ودمج عناصرها أفراداً في وزارة الدفاع؛ ما يعكس واقع «الهشاشة» وغياب الثقة في العلاقة بين الطرفين.

وفي خطوة تصب باتجاه تجنب التصعيد، سارع الرئيس السوري أحمد الشرع ومنذ منتصف ديسمبر الماضي إلى استقبال وفد من كبار رجال الدين الدروز، من بينهم الشيخ سليمان عبد الباقي قائد «تجمع أحرار جبل العراق» وسلمان الهجري نجل الرئيس الروحي للطائفة الدرزية، حكمت الهجري.

وكما وكان الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط أول زائري الشرع على رأس وفد من الوجهاء والأعيان الروحيين، بما يحمل ذلك من رمزية لا تخفى عن طبيعة العلاقات التاريخية بين السلطة (أي سلطة) في دمشق والطائفة الدرزية.

ومع ذلك، ظلت القوى الدرزية الفاعلة على الأرض، سواء الدينية أو الاجتماعية أو المسلحة منقسمة في مواقفها من العهد الجديد، وحول رؤيتها لمستقبلها في كنف السلطة الوليدة.

وفي محاولة إسرائيلية لتأجيج الخلافات بين الطائفة الدرزية والحكومة الانتقالية، استغل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الاشتباكات بين قوات الأمن العام ومسلحي جرمانا للتهديد بالتدخل العسكري في حال تعرض الدروز لأي أذى. لكن الإدارة السورية وظفت علاقاتها مع بعض القوى الدرزية في السويداء لقيادة مفاوضات أسفرت عن التهدئة مع مسلحي جرمانا. كما وجاء إعلانها عن اعتقال اللواء إبراهيم حويجة، الرئيس السّابق للاستخبارات العامّة في سوريا، والمتّهم باغتيال الزعيم الدرزيّ كمال جنبلاط عام 1977 قبل أيام قليلة من الذكرى السنوية لاغتياله، بمثابة رسالة واضحة للزعامة الدرزية «الرسمية» المتمثلة بآل جنبلاط ومن ورائها عموم أبناء الطائفة.

دروز إدلب... علاقة غير ودية

في الواقع، هذه الأحداث ليست وليدة الأمس. فالوجود الدرزي لا يقتصر على معاقل محمية إلى حد بعيد كالسويداء وجرمانا، وإنما هناك أيضاً دروز إدلب وتحديداً في مناطق جبل السمّاق الذين تعرضوا لانتهاكات وعمليات قتل عشوائية في 2015 بعد سيطرة فصائل المعارضة المسلحة على المنطقة. وأبرز تلك العمليات كانت في قرية «قلب لوزة» على يد فصائل «جهادية» متحالفة مع جبهة النصرة حينذاك.

مسلحون دروز أمام آلية عسكرية ينتظرون وصول قوات الأمن العام عند مدخل ضاحية جرمانا قرب دمشق (أ.ب)
مسلحون دروز أمام آلية عسكرية ينتظرون وصول قوات الأمن العام عند مدخل ضاحية جرمانا قرب دمشق (أ.ب)

وبعد فك الارتباط بتنظيم القاعدة في يوليو (تموز) 2016، حاولت «جبهة النصرة» التي تحولت تدريجياً إلى «هيئة تحرير الشام» بقيادة أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع)، النأي بنفسها عن «التشدد» وتجنب «التصنيف» على لوائح الإرهاب، مستفيدة من تجربة حكم تنظيم الدولة وتعامله مع المجتمعات المحلية وخسارته «الحاضنة الاجتماعية». وعليه، شكلت «هيئة تحرير الشام» في مدينة إدلب «حكومة الإنقاذ» لادارة المناطق الخاضعة لسيطرتها وتسيير شؤون السكان الذين تجاوزت اعدادهم الأربعة ملايين.

ومع التحسن النسبي في الأوضاع الأمنية وخفة حدة العمليات القتالية، وفي محاولة لمنع أي تصعيد سواء بين الفصائل المسلحة، أو بين المجتمعات المحلية، ولإبراز الوجه الجديد للهيئة بصفتها سلطة «الأمر الواقع»، التقى زعيمها «أحمد الشرع» أكثر من مرة بوجهاء وأعيان المحافظة، ومن بينهم «الدروز» الذين تلقوا منه وعوداً بإرجاع حقوقهم وممتلكاتهم وتأمين الخدمات الأساسية لهم وحمايتهم. وهو ما جرى جزئياً ولكن عادت الأحداث وتسارعت واتخذت منعطفات مختلفة مع سقوط نظام بشار الأسد، حيث لا تزال ملامح العملية السياسية وشكل النظام السياسي وهويته بانتظار ما تحدده صيغة دستور المرحلة الانتقالية التي يفترض أن يتوافق عليها السوريون.

مشهد معقّد

ما يزيد المشهد تعقيداً، أن أجزاءً كبيرة من البلاد لا تزال خارج سيطرة الحكومة الحالية، كما أن السلاح لا يزال منتشراً بيد مجموعات مسلحة منظمة أو سكان محليين والدروز بطبيعة الحال ليسوا استثناء.

لذلك؛ فقد سلطت أحداث الساحل الأخيرة ثم الاتفاق مع المكون الكردي، الضوء على التحدي الأبرز أمام الإدارة الجديدة وهو الإبقاء على وحدة المجتمع السوري والحفاظ على تماسك نسيجه المتنوع وكيفية إدارة الأزمات والاحتقان الناتج من ذلك التنوع والاختلافات.

لافتة رفعها الدروز السوريون في 25 فبراير: «السويداء لن تكون خنجركم المسموم في ظهر سوريا» رداً على التوغلات الإسرائيلية في الأراضي السورية (أ.ب)
لافتة رفعها الدروز السوريون في 25 فبراير: «السويداء لن تكون خنجركم المسموم في ظهر سوريا» رداً على التوغلات الإسرائيلية في الأراضي السورية (أ.ب)

ويقول مضر هائل لـ«الشرق الأوسط»، وهو من أبناء السويداء النشاطين سياسياً وأحد أبرز منظمي تظاهرات ساحة الكرامة بين 2023 و2024: «الحكومة الحالية هي حكومة أمر واقع، ويجب أن نتجه نحو حكومة منتخبة وأن يشارك الجميع في وضع دستور لهذا البلد وأن تأتي تلك الحكومة من إرادة الشعب. في هذه الحالة، لن يبقى لأحد ذريعة برفض الاعتراف بحكومة دمشق. نحن دائماً كنا مع جميع فئات المجتمع السوري في الثورة ضد النظام، لكن يجب ألا نستبدل نظاماً بآخر فقط، بل يجب أن نبني دولة تحترم الجميع ويكون الجميع تحت قانونها».

ويضيف: «هناك من يستغل التصريحات الإسرائيلية بخصوص حماية الدروز ليثير النعرات الطائفية»، ويقول: «انظروا، هؤلاء عملاء»، وبالتالي ينفذ أجندته غير الوطنية. لا أحد يريد أن يكون مع إسرائيل، لكن بالحوار والتفاهم، وبناء دولة تشاركية، يمكننا قطع الطريق على إسرائيل وغيرها من الطامعين».

أزمة ثقة... لا تمنع المصالحة

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى الباحث السياسي اللبناني مكرم رباح الذي لفت إلى أن الثقة بين الطائفة الدرزية والإدارة السورية الجديدة لا تتعلق فقط بالمسألة الدرزية. وقال رباح: «من المعروف أن النظام السوري السابق استخدم الجماعات التكفيرية لتخويف الدروز، وهذا يشكل هاجساً دائماً لدى الدروز المتمسكين بأرضهم وسلاحهم. والمشكلة الأساسية تكمن في إصرار الرئيس أحمد الشرع على المركزية، وهذا الأمر يثير قلق الدروز، في حين أن نظام البعث نفسه كان قد منحهم نوعاً من الاستقلالية ضمن إطار تحالف الأقليات».

أحمد الشرع خلال استقباله وفداً برئاسة الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط في دمشق (رويترز)
أحمد الشرع خلال استقباله وفداً برئاسة الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط في دمشق (رويترز)

وهنا يبرز السؤال عما إذا كان الشرع سيتمسك بهذه المركزية بعد عقد اتفاق مع الأكراد وهو ما سيتحدد أكثر عندما تظهر بنود الاتفاق وشروطه.

ويؤكد الباحث أن إسرائيل تلعب دوراً في توتر العلاقة بين السويداء ودمشق، لكنه يستبعد أن يكون أحداً من دروز سوريا مستعداً للدخول في مغامرة كهذه. «فإسرائيل تستخدم هذا الملف كورقة في حربها المستمرة في المنطقة، كما تسعى للضغط على الشرع لتقديم تنازلات».

ويقول رباح: «مطالب الدروز هي نفس مطالب كل السوريين. هناك خصوصية للطائفة الدرزية، لكن الإدارة الجديدة ربما لم تحاول التعرف عليها. وفي حال أدركت حكومة الشرع هذه الخصوصية، ستتمكن من التعاطي الإيجابي مع الملف الدرزي».

واعتبر رباح أن وليد جنبلاط يلعب دوراً أساسياً في الملف الدرزي بسوريا، حيث كان أحد المبادرين لمقابلة الرئيس الشرع. لكن هناك أيضاً شخصيات درزية عدة مؤثرة، مثل الشيخ يوسف الجربوع، وحكمت الهجري، ويحيى الحناوي، وكلهم سيتعاملون مع الشرع باعتباره رئيس الجمهورية السورية، نظراً لما يتمتعون به من تأثير كبير كمشايخ عقل.

ورأى أن هناك عوامل تدفع نحو حل الملف الدرزي وتسرّع المصالحة الكاملة بين جميع الأطراف، مثل وضع خريطة واضحة للانتقال السياسي، ومشاركة الدروز في العملية السياسية، ومنح نوع من اللامركزية المحلية. كما أن بعض المبادرات الإيجابية من الرئيس الشرع قد تساهم في تحسين العلاقة بشكل أسرع.

السياسة ومرجعية المشايخ

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى الباحث السوري وائل علوان فقال: «العلاقة بين الطرفين لا تتعلق بعدم الثقة، فهناك خصوصية للمجتمع في السويداء، ليست الحكومة فقط من يراعيها، بل كل المجتمع السوري يراعي تلك الخصوصية».

ولفت علوان إلى أنه خلال الأعوام التي تلت اندلاع الثورة في 2011، كان هناك نزاع داخلي في السويداء بين المرجعية الدينية التقليدية التي كانت في بيت الهجري والحناوي وبيت الجربوع، حيث كانوا موالين للسلطة، وبين الثوار في السويداء الذين كانوا ضد النظام السوري. لكن كان الثوار يفتقدون التغطية الدينية من أحد تلك المراجع المذكورة، وبقي المرجع الديني صاحب الكلمة العليا.

اجتماع الزعيم الدرزي السوري الشيخ حكمت الهجري (وسط) مع أفراد من طائفته في السويداء يوم 20 فبراير (رويترز)
اجتماع الزعيم الدرزي السوري الشيخ حكمت الهجري (وسط) مع أفراد من طائفته في السويداء يوم 20 فبراير (رويترز)

ويضيف علوان: «في السنوات الأخيرة، كان حكمت الهجري، رجل الدين الأبرز، معارضاً للنظام، وبذلك أخذ دوراً أكبر بكثير من الحناوي والجربوع، وهما من أبرز المراجع الدينية الأساسية لدى دروز سوريا. ولعب الهجري دوراً كبيراً في السويداء، لكن لم يكن على علاقة جيدة مع البلعوس الذي يمثل التيار المعارض الثوري ضد النظام السوري. حيث كان هناك تنافس وصراع بين المراجع الدينية التقليدية وبين المكونات الجديدة الثورية، أي التي عارضت النظام السوري وخالفت رأي بعض رجال الدين».

معتبراً أن الفترة الأخيرة التي عارض فيها الهجري نظام بشار الأسد، فتحت خطاً مع علاقة مع موفق طريف، وهو أحد الزعماء الدينيين الدروز في إسرائيل. وبقي البلعوس وسليمان عبد الباقي على علاقة مع وليد جنبلاط في لبنان مع مجموعات عسكرية متحالفة مع البلعوس. وهذان خطان متباينان، خط الهجري مع طريف يقابل خط البلعوس وجنبلاط، وهما متباينان تماماً، وكلا الخطين استعان بحليف خارجي.

انقسامات داخلية

يشير علوان إلى أنه بعد سقوط الأسد، أصبح من الواضح أن هناك انقساماً في المشهد، مرجحاً أن تتحالف الحكومة السورية الجديدة مع تيار البلعوس وجماعته، وأن يصبح الهجري أكثر معارضة لها.

ويذهب الباحث إلى أن إسرائيل تخدم دور الهجري وتعدّه حليفاً؛ وهذا ما أثر سلباً على العلاقة بالمجتمع السوري الأوسع، معتبراً أن مطالب أهل السويداء لم تتغير وهي احترام خصوصية المجتمع الدرزي والهرمية الدينية وعدم دخول أحد من خارجهم ليحكمهم.

من المؤكد أن جميع التحديات التي تواجهها الحكومة الانتقالية هي ذات أبعاد إقليمية أو دولية، إلى جانب التداعيات المحتملة للأوضاع الداخلية «غير المستقرة» على مستقبل البلاد ووحدة المجتمع. وتمثل إسرائيل وتهديداتها وتعهداتها بالتدخل لحماية الدروز، التحدي الأكبر لقدرة الحكومة على التعاطي مع مثل هذه الملفات.

لكن عاملي التمسك بالمركزية و«انعدام الثقة» ولو جزئياً يجعلان ملف الطائفة الدرزية ومن خلفه ملفات بقية المكونات السورية أبرز التحديات التي تواجه «الشرع» ووحدة المجتمع السوري وسيادة البلد ووحدته الترابية.