الفنان السعودي أحمد ماطر يعيش حالة من النشاط المحموم مبعثها الاستعدادات الأخيرة لإقامة معرضه الشخصي في أميركا والذي يستضيفه متحف ساكلر التابع لمؤسسة سيمثونيان العريقة. ولا شيء يعكس الجو الذي يعيشه الفنان مثل زيارته في الاستوديو الخاص به في جدة. اختار ماطر أن يشرح لي فكرة معرضه القادم عبر عرض للأعمال المشاركة على شاشة الكومبيوتر الخاص به، وتشعب الحديث لمواضيع كثيرة ولكنه كان دائما يعود للمشروع الضخم الذي قضى ماطر سنوات في البحث والتجهيز له. وهو مشروع التغيرات المعمارية والثقافية في الحياة السعودية الحديثة والتي بدأها بما أطلق عليه «صحراء فاران» الذي رصد ووثق من خلاله التحولات الكبيرة التي تشهدها مكة المكرمة.
وخلال السنوات الأربع الماضية عرض ماطر عدد من الأعمال التي نفذها في المشروع ولكنه توقف عن المعارض الشخصية ويعود في معرض واشنطن ليقدم عرضا متكاملا.
يرصد المعرض الذي سيقام في متحف ساكلر أحد متاحف سميثونيان في واشنطن العاصمة - التي تعد المؤسسة البحثية الأكبر في العالم - كامل التجربة الفنية للفنان ماطر والتي تمتد لأكثر من 15 عاما حيث سيعرض فيه 30 عملا فنيا متنوعا بالإضافة إلى أعمال جديدة تعرض لأول مرة، تحت إشراف القيمة الخاصة بفنون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في متاحف سيمثونيان كارول هاه.
تتنوع المعروضات في عدة وسائط من التجهيز في الفراغ وفن الفيديو أرت والتصوير الفوتوغرافي وعدة وسائط تجريبية أخرى وسيصاحب المعرض الذي يستمر لستة أشهر الكثير من الفعاليات والحلقات النقاشية منها: حلقة نقاش في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، يديرها نائب رئيس معهد الشرق الأوسط في المؤسسة.
كما ستستضيف كلية الفنون والتصميم في جامعة جورج واشنطن حلقة نقاش حول تجربة ماطر الفنية وحوار مع الفنان. وستستضيف إحدى قاعات الكونغرس الأميركي حلقة نقاشية مع الفنان ماطر عن أعماله الفنية والتغييرات الاجتماعية والثقافية في المملكة العربية السعودية.
كما ستشارك مؤسسة عاصفة الصحراء الفنية الإماراتية في ليلة تقدم فيها ثقافة الأصوات والأهازيج الشعبية في شبه الجزيرة العربية وأداء موسيقى الصحراء، ومحادثة مع الفنانين.
المعرض يحمل اسم «المدن الرمزية» ويناقش التحولات في الواقع الاجتماعي والسياسي في الجزيرة العربية. يشرح ماطر أكثر مضمون المعرض ويقول: إنه «يتحدث عن فكرة المدينة المعاصرة في السعودية، ويستوحي حكايات تاريخية موازية مع حكايات متخيلة مستقبلية».
فكرة التغير وآثاره تبدو أساسية في المعرض، فهو ينطلق من لحظة في الماضي شهدت بداية التحول في المدن السعودية مدفوعة بتطورات اقتصادية ضخمة لتصبح مدنا معاصرة تريد أن تنافس المدن الغربية. من خلال سيناريو التحول يلتقط ماطر ثلاثة خيوط لتصبح هي أساس العرض، يقول: «أول الخيوط هو حالة فقدان للهوية، ثم ضياع المساحة العامة في المدن وظهور المباني العالية التي عزلت الناس عن بعضهم».
يركز ماطر على تصويره للمناظر الطبيعية كوسيلة لاستكشاف التوتر الحاصل بين العالم التقليدي وواقع الحياة السعودية المعاصرة. ويلقي الضوء من خلال ثلاث رحلات في المملكة العربية السعودية على تأثير الحياة المدنية، وفي المعرض تقدم تلك الرحلات في أقسام منفصلة هي: «الأرض الفارغة» و«صحراء فاران» و«السراب الخادع». وعبر سلسلة متكاملة من أفلام الفيديو والصور ابتداء من الصور الجوية التي التقطها لمواقع صحراوية مهجورة وصولا إلى إعادة بناء مكة المكرمة، نجد أنفسنا أمام سرد تجريبي لمراحل التطور والتغيرات. ويختتم المعرض بجانب من المشروع القادم لماطر والذي يستعرض فيه تطور منطقة نجد والرياض تحديدا.
المعرض يبدأ بعمل «أنتينا» الشهير، والذي يرمز من خلاله ماطر للبحث عن الجديد حولنا، فكرة الأنتينا استوحيت من فترة ما قبل الأطباق التلفزيونية حيث اعتاد سكان بعض المدن في شرق وجنوب المملكة على ضبط أريال التلفزيون ليلتقط إرسال تلفزيونات الدول المجاورة مثل اليمن والسودان ومصر. العمل الذي يتميز ببساطة متناهية يحمل عمقا ويختزل مرحلة من حياة أجيال السبعينات والثمانينات، و«حكاية البحث عن الحياة عند الآخرين» كما يعلق الفنان.
من ذلك المدخل ننطلق للجزء الثاني من المعرض: «الأرض الخالية»، والذي يعرض فكرة التطور المعماري في المملكة في الستينات والسبعينات، يشرح لنا ماطر، أن المدن السعودية شهدت تغيرات كبيرة في النسيج الاجتماعي خاصة مع الهجرة الداخلية للمدن، والتخطيط المدني وحركة البناء التي قامت لتستوعب أعداد السكان وأيضا لتواكب الحياة الحديثة، وهو ما نتج عنه ضياع المساحات العامة. ومن جانب آخر أثر ذلك في المدن المهجورة التي يقدم لها أحمد مجموعة من الصور الفوتوغرافية التي التقطها من الجو ونرى من خلالها شوارع عبدت حتى منتصفها وترك الباقي، وصفوف من السيارات المهملة، ومبانٍ من دون سكانها، يشرح أكثر: «على طريق التقدم والنهضة في الجزيرة العربية، انتقل الكثير من الناس للعيش في المدن الجديدة، تركوا خلفهم أراضي قفراء. في عملية الهجرة هذه، لم تهجر السيارات والمباني والمرافق فقط،... بل تسبب ذلك في تدمير البيئة الأصلية والقضاء على قيمها».
في المدن الحديثة التي نراها أيضا من خلال الصور الفوتوغرافية نستطيع رؤية الكثير من التفاصيل التي قد تشغل عين المتفرج ولكن ماطر يقول: إنها مليئة «بالألغاز والاكتشافات»، وهو ما يمثل حافزا لي لأبحث بعيني عن العناصر الموجودة في الصورة وأغفلتها عيني. وبالاقتراب أكثر تستطيع العين تمييز الكثير، فهناك أشخاص في الصورة لا نستطيع تميزها، يعلق: «تناقش الصور نسبة وجود الإنسان إلى متغيرات المدينة مثل المباني، السطوح، الشوارع. قرأت مرة أن المعماريين في المدن الإسلامية كانوا يتعمدون ألا تزيد مساحة الفناء أو الساحة عن 30 - 35 مترا، حتى لا يفقد الناس التواصل مع بعضهم. ولكن الآن الوضع اختلف فقد اختفت الأفنية والمساحات وأقيمت المباني العالية، وتأثرت العلاقات الاجتماعية».
أقول له تعليقا على الصورة المعروضة أمامي: «الإنسان موجود داخل الصورة ولكني لا أراه»، يجيب: «الإنسان اختفى في التخطيط الحديث للمدن، صار الإنسان وحدة لا ترى بالعين. ويجب أن نلاحظ أيضا أن المدن بنيت من أجل السيارات وليس من أجل الإنسان، فأصبحت السيارات هي الوحدة، وحتى في بعض الأماكن لم يعد هناك مكان للمشاة في الشوارع، الرصيف تحول ليصبح حدودا بين المبنى والشارع ليس إلا.. ليس مكانا للإنسان يمشي فيه».
تبرز مكة المكرمة في أعمال ماطر لترمز للمدينة الحلم، يقول: «مكة هي الأساس وهي أكثر المدن رمزية، هي أكثر المدن زيارة في العالم وأكثرها خصوصية. مكة تحمل ذاكرة الرحلة، بالنسبة للمسلمين وأحيانا لغير المسلمين، حيث كان هناك هاجس لمعرفة تلك المدينة التي خرج منها التغيير. المعرض يبدأ بمكة وهي المدينة الرمزية، وهي أول مدينة كوزموبوليتانية في العالم».
يقدم ماطر مجموعة من الصور الضخمة التي التقطها في مكة ويعكس من خلالها التوتّر الشديد ما بين المساحات العامة وتلك الخاصة في المدن الإسلامية ففي حين تشكل مدينة مكة المكرمة موطنًا لأكثر من 3 ملايين نسمة، تتحول باستمرار تلبية احتياجات ملايين الحجّاج والسيّاح، فأصبحت المدينة مجهّزة بالموارد المالية والخبرات المستوردة.
في حين أن المساحات العامّة تتقلّص جرّاء ضغط المضاربات العقارية والتدابير الأمنية، يزداد سعر المنفذ الخاص إليها فيمكن دفع مبلغ 3000 دولار أميركي لمجرّد غرفة في فندق تطل على الحرم الشريف والباحة العامة المحيطة بالكعبة الشريفة.
يشير ماطر إلى ثلاثة عناصر أثرت فيه أثناء تنفيذ المشروع: أولها خماسية «مدن الملح» للروائي عبد الرحمن منيف وهي تعكس التغير في تركيبة المجتمع، هناك أيضا قصص شعبية للكاتب النجدي عبد الكريم الجهيمان جمعها من بيوت الصحراء، إضافة إلى كتاب «ألف سنة ضائعة في تاريخ نجد» لعبد الرحمن السويداء.
* معرض «المدن الرمزية، أعمال أحمد ماطر» في آرثر إم ساكلر غاليري التابع لمؤسسة سميثونيان بواشنطن في الفترة ما بين 19 مارس (آذار) الجاري إلى 18 سبتمبر (أيلول) المقبلبالتعاون مع كلتشر رانرز وبالشراكة مع مبادرة الفن جميل إحدى مبادرات عبد اللطيف جميل لخدمة المجتمع