ما الذي لم يفعله المعاصرون بشكسبير بعد؟ لا يملك المرء إلا أن يسحب من الصدر زفرة حسرة وهو يشاهد هذا العبث الذي لا تنطبق عليه سوى صفة مهزلة. وحتى الهزل، بل مسرح العبث، فن مقبول ومعترف به وله تاريخ حافل ومشرف. لكن ما قدمه المخرج الأرجنتيني رودريغو غارسيا مساء أول من أمس لم يكن من الفن في شيء.
جرى العرض داخل مطعم حقيقي للشاورما التركية أو اليونانية يقع في ضاحية أوبرفيلليه الشعبية اللصيقة بباريس. وتولت مجموعة «إم كا دو» السينمائية تصوير المسرحية ونقلها نقلاً مباشرًا إلى جمهور في صالة للسينما في حي المكتبة الوطنية الجديدة، جنوب العاصمة. وقد توافد عشرات المتفرجين ودفعوا ثمن مقاعدهم ووقف آخرون خارج الصالة وهم يمنون النفس بمتعة فنية تتجاوز الأطر المتعارف عليها في المسرح وتعيد الألق للتجارب الطليعية في هذا الميدان.
لكن الخيبة كانت كبيرة. ولم يفهم كثيرون ما الذي حاول المخرج أن يقوله على لسان ممثليه. هل أراد أن يأتي بهاملت، بطل شكسبير، ليزج به في واقع أوروبي ملتبس تسيطر عليه هواجس الهجرة والخوف من الغريب؟ أم أنه جرب، والتجريب فضيلة، أن ينزع عن الكاتب البريطاني الأشهر هالة التبجيل ويلقي ببطله التراجيدي في معمعة كوميدية معاصرة، حيث الفوارق كبيرة بين عصره ومفارقات الألفية الثانية؟
يبدأ النقل الحي للعرض بمشاهد مشوشة وصوت غير واضح. وجاء من يطمئن الحضور إلى أن المسرحية ستأخذ مجراها الصحيح. هل تقصد المخرج الإشكالي هذا الخلل أم أنه سوء في دائرة النقل؟ ثم يدخل هاملت إلى الحلبة مترجلاً من سيارة زرقاء وهو يرتدي خوذة لاعب مبارزة بالسيف الكهربائي، محاطًا بشخصيات تتكلم بلغة هذا الزمان وبذاءاته، وليس بتلك الإنجليزية الرفيعة التي يطلقون عليها لقب «لغة شكسبير». إنه الموت متنكرًا في زي من أزياء «الهالويين»، جاء ينتقم مما لا نفهم. وما بين مشاهد جنسية ومقاطع مصورة للحوم والسواطير (والد المخرج كان جزارًا)، يمضي العرض وسط ديكور فوضوي وحوارات مملة ومشاهد تعيد التذكير بما سبق أن قدمه المخرج المعروف بميله إلى الاستفزاز من مشاهد منفرة في مسرحياته، حيث يتقيأ الممثل أو يأتي بحركات خارجة وأصوات قبيحة.
لم ينتظر النقاد العروض التالية المقررة للمسرحية بل كتبوا يعبرون عن سخطهم وسخريتهم من العرض. فالمسرحية التي تستغرق ساعة ونصف الساعة، بعيدة تمامًا عن المغزى الفلسفي والنص الشاعري لمؤلفها، وهي «تليق بمخرج مبتدئ»، و«كل الخيانات مغفورة في المسرح إلا عدم النضج»، و«ليت العرض الأول يكون الأخير»، و«رأينا وجبة كباب بدون سلطة ولا بطاطا مقلية». ويغادر المتفرج وهو يتساءل: ما المقصود من تصوير هاملت يقوم بحركات بهلوانية ويلتهم طبقًا من فواكه البحر؟ لقد كان الهدف تقديم معارضة أدبية ساخرة لمسرحية هاملت لكن النتيجة كانت عرضًا كاريكاتيريًا مبهمًا وفاحشًا ويبعث على الملل.
ولمن يود أن يعرف شيئًا عن المخرج، فإنه من مواليد بوينس آيرس في الأرجنتين، عام 1964، ويقيم في إسبانيا حيث اشتهر ككاتب ومصمم مسرحي يدير فرقة خاصة به في مدريد، وسبقت له المشاركة في مهرجان «أفينيون» العالمي للمسرح في فرنسا و«بينالي البندقية». وفي عام 2009، نال جائزة أوروبا للواقعية الجديدة في المسرح.
هاملت يأكل الكباب الحلال في باريس
مسرحية عبثية للأرجنتيني رودريغو غارسيا
هاملت يأكل الكباب الحلال في باريس
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة