مزيد من التكريم لتوني موريسون، أيقونة الرواية الأميركية السوداء الجميلة، التي حازت على جائزة نوبل للآداب (1993) وهذه المرّة من قبل جمعية القلم الأميركية، التي أعلنت يوم الثلاثاء الماضي عن منح جائزتها للرواية الأميركية المسماة باسم نوبلي آخر (شاوؤل بيللو) عن مجمل أعمالها المتميزة في فضاء الرواية الأميركية.
«أعمالها معبّرة، عميقة، جسورة تغوص في أعماق تجربة الأميركي الأسود وفي حياته ووعيه، نسجت من خلال ذلك كله تجربة جمالية أميركية جد متفردة»، هكذا وصفتها المتحدثة باسم الجائزة التي تبلغ قيمتها المالية 25 ألف دولار أميركي والتي تتمتع باحترام واسع لرصانتها وجديتها.
موريسون البالغة من العمر 85 عامًا معروفة عالميًا بنصوصها الملحمية ذات النفس التاريخي والسرد المتماسك الذي تمحور أكثرها حول مسائل العرق، العائلة، الهوية، وغالبًا من وجهة نظر امرأة أميركية سوداء.
أول رواياتها صدرت في عام 1971، وهي «العين الأشد زرقة» (ترجمها للعربية الكاتب والشاعر فاضل السلطاني وصدرت في دمشق)، كانت حينها في التاسعة والثلاثين من عمرها، تعمل محررة في دار «راندوم هاوس».
فازت عام 1988 بجائزة «بوليتزر للآداب» على روايتها (محبوبة) التي اقتبست في فيلم سينمائي من بطولة أوبرا وينفري لتحصل بعدها على أرفع الجوائز الأدبية إطلاقا - جائزة نوبل للآداب - قبل أن يكرمها الرئيس أوباما في 2012 بميدالية «الحرية» الرئاسية الرفيعة.
«في كل المراحل، قدمت موريسون آراءها بشجاعة، ووسعت نطاق الحوار في معنى الهوية: أن تكون أميركيًا أسود، أنثى وإنسانًا ومواطنًا عالميًا»، على حد وصف المتحدثة باسم الجائزة.
ولا شك أن فوزها بالجائزة الأميركية الأدبية الأرفع على مجمل أعمالها هو بمثابة تحد مباشر لحصار غير معلن لكتبها في المكتبات الأميركية، حيث رواياتها مثار جدل دائم عبر السنوات نظرًا لنبرتها العالية في مواجهة العنصرية.
يقول عنها الذين خبروها عن قرب بأنها قليلة الاحتمال عندما يتعلق الأمر بالصحافيين والنقاد، حضورها الشخصي يتشابه مع أسلوبها في الكتابة من حيث القوة والثقة المطلقة، وذلك التدفق الأقرب إلى الشعر أكثر منه إلى النثر.
لم تبخل موريسون بإعطاء الفرص وفتح الأبواب أمام الأقلام الشبابية الجديدة عندما أسست دار النشر الخاص بها، إذ دفعت بها للصعود في سماء الحكاية الأميركية المعاصرة.
نشأتها كانت في أوهايو كواحدة من أربعة أبناء لأسرة أميركية تقليدية من الطبقة العاملة السوداء - والدها موظف في مصنع فولاذ ووالدتها مدبّرة منزل. ويبدو أن كتاباتها لفتت انتباه مدرسيها منذ وقت مبكر فكانت غير مهادنة لا تعتذر عن لون بشرتها القاتم، كما اعتبرت دائما أن نصوصها لا تقرأ بوصفها أعمالاً أدبية بل بوصفها شهادات اجتماعية - سياسية لعرقها وجنسها، الأمر الذي شكل لها قلقا دائما، على اعتبار أن رواياتها كثيرًا ما تقرأ في إطار توقعات مسبقة لنوعية وإطار السرد.
هي كانت بالتأكيد ابنة مرحلة نهوض الأفرو - أميركيين - كما أصبح السود يعرفون في الولايات المتحدة - وتلك المرحلة التي يلخصها شعار (الأسود جميل) لكنها شعرت بأن ذلك النهوض هو استجابة لحظية لضغوط مرحلية دون تحول جذري في حقيقة نظرة الأميركي الأسود لنفسه، حتى قبل التحدث عن نظرة الآخر له. لم تكن تريد أن تعرّف نفسها من خلال نظرة الآخر لها، وكأنه استشراق إدوارد سعيد من وسط نيويورك.
روايتها الأولى كانت بطلتها طفلة سوداء ضحية الثقافة الأميركية التي جعلتها تتقوقع داخل حلمها في الجمال لينحصر جل هذا الحلم في حدود العيون الزرقاء.
لا تدعي موريسون أنها عاشت في نطاق الهوية السوداء المحضة، بل اكتشفت توحدها مع ذوي بشرات وأبناء إثنيات مختلفة: سود وبيض وبولنديون ومكسيكيون وإسبان، من داخل الطبقة الفقيرة، إذ تعايشوا معًا في الأحياء ذاتها، بائسون ومواطنون من الدرجة الثانية لكنهم عموما مفعمون بالأمل وحب الحياة. عاشت مع أسرتها لفترة على المساعدات الخيرية التي لم تمنعها من الغضب والكتابة لمكتب الرئيس روزفلت تشكوه من تلوث المساعدات بالحشرات.
كتبت موريسون أولى رواياتها وهي أم عزباء لولدين تعمل في وظيفة جد متطلبة دفعتها لاختراع زمنها الخاص بها للكتابة التي كانت تقتنصه في الصباح الباكر، كل تلك القوة والإصرار والعزيمة كانت قد ورثتها من جدتها السيدة الفقيرة المعدمة التي هاجرت من الجنوب مع سبعة أطفال تغلبت بهم ومعهم على ظلم الحياة.
تحدثت دوما عن معنى الصداقة كعلاقة بين النساء باعتبارها قيمة إنسانية رفيعة المستوى ترقى إلى مصاف التخليد في الأعمال الأدبية بدلا من قصص الغرام التقليدية، وهذه القيم لا شك أنها تشكلت عندها بعد مساندة شبكة من صديقاتها لها في رعاية أولادها.
الحب استحوذ على مساحة من حياتها رغم طلاقها بعد زواج استمر ست سنوات فقط، وحده الحب كان يحول بينها وبين الكتابة التي تتوقف عنها عندما تقع فيه، أو عندما يعشقها أحدهم، في الحب فقط تخلت عن الندية والصراع في علاقتها مع الآخر وقبلت بأن تكون مجرد موضوع. جائزة نوبل جلبت لها الشهرة بالطبع والمال أيضًا لكنها اعتبرت دومًا في مقابلاتها الصحافية أن تعاطيها مع الآخرين - باستثناء دائرة صغيرة من الأصدقاء - يتسم بكثير من التكلف والتجمل.
لم تكتب موريسون بغزارة كثير من الروائيين الأميركيين المعاصرين. هي تأخذ الأمور بجدية شديدة حتى أنها قضت ثلاث سنوات تفكر بروايتها (محبوبة) قبل أن تكتب كلمة واحدة منها. لقد روّعتها القصة الحقيقية التي كتبت روايتها على أساسها - السيدة السوداء مارغريت جارنر التي قتلت ابنتها كي لا تعيدها إلى العبودية. كان ذلك عملاً إنسانيًا خارقًا يجب استيعابه وتقمصه لتحويله إلى عمل روائي. (محبوبة) جلبت لها الجائزة المرموقة البوليترز، ويعدها البعض أفضل أعمالها على الإطلاق.
انتخاب باراك أوباما رئيسًا للولايات المتحدة كان نقطة تحول بإحساسها بهويتها الوطنية، إذ شعرت عندها لأول مرة بأنها أميركية وأن رموز الحكم الأميركي والمارينز والإعلام صارت تعني لها شيئا رغم قدومه متأخرا لسبعين عامًا على الأقل. ومع ذلك فإن موريسون ليست مقتنعة بحدوث تغيير جذري في العقلية الأميركية بعد، وكثيرًا ما تتحدث بمرارة عن قسوة رجال الشرطة ضد اليافعين السود بالذات.
كتابها الأخير رواية اسمها (هوم - أي البيت) يعود إلى أجواء أميركية في الخمسينات ويحكي قصة جندي أميركي أسود عاش تجارب الحرب الكورية القاسية، وظل يعاني من مصاعب الهوية والتجربة معًا. وقد أهدت الكتاب لابنها الذي مات منذ سنوات قليلة، والذي يشعرها موته بعجزها عن التعبير ومواجهة الكلمات. حاولت كثيرا أن تقرأ لأناس كتبوا أعمالاً عن أولاد فقدوهم لكنها وجدتهم غالبًا يسكنون أحزانهم كأبطال لها على حساب الغالين الذين فارقوهم فيصبحوا هم الحدث والفقد والنحيب.
موريسون لا تزال تعيش مخاض تجربتها الأليمة لاهثة خلف محاولة غوصها داخل أغوار نفسها لتكتب نصا يشابه حزنها لا التي تسجن في تفاصيله منفصلة تماما عن الآخرين.
* كاتبة لبنانية