خلال الأسبوع الماضي تصدرت أخبار أسعار صرف الدولار الصفحات الأولى للصحف المصرية بعد أن تجاوز سعر الدولار حاجز 9 جنيهات في السوق الموازية، بينما لم يتحرك سعره الرسمي عن 7.83 جنيه، ولكنه غير متوافر بهذا السعر، حتى داخل البنوك.
في كل مرة وصل سعر الدولار إلى رقم صحيح «7 أو 8 أو 9 جنيهات» في السوق الموازية، تنتقل أخباره من الصفحات الداخلية للجرائد إلى الصفحة الأولى، وتصبح التحليلات عن مستقبله هي الأكثر قراءة على المواقع الصحافية، ما يدفع صحافي التحقيقات الأقل خبرة بالأمور الاقتصادية للبحث عن الدولار بنفسه، ويحصل عليه بسعر أعلى مما كان يحصل عليه الصحافي الاقتصادي من مصادره عبر الهاتف، وتبدأ المقارنات بعصور سابقة، ثم يتم نقل النقاش إلى الصفحات الساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي، ليترسخ السعر الجديد المرتفع كنقطة دعم في السوق الموازية. ومع هذا الحراك يبدأ المواطنون في البحث عن الدولار، ويرتفع الطلب، وتزيد المضاربات، فترتفع الأسعار، حتى وصلنا إلى 9.30 جنيه لكل دولار.
ووفقا لتحليل عمر الشنيطي، المدير التنفيذي لمجموعة «مالتيبلز للاستثمار»، لـ«الشرق الأوسط» فإنه «من المؤكد أن ارتفاع سعر صرف الدولار من 8.60 جنيه إلى 9.30 جنيه في 5 أيام غير مرتبط بعمليات الاستيراد، بل بالمضاربة والرغبة في الاستثمار في الدولار، لأن شريحة من المواطنين تتوقع أن تتدهور الأوضاع أكثر».
وبعد أن هدأت الأوضاع انخفض سعر الدولار إلى 8.75 جنيه في السوق الموازية، وهو رقم ما زال أعلى من مستويات ما قبل الأزمة، ولكنه أكثر قبولا وفقا للمنطق الاقتصادي، ولكن ماذا دفع الدولار من الأساس لتحقيق هذه القفزة؟
* أسباب الأزمة
تعاني مصر من أزمة نقص موارد النقد الأجنبي على خلفية تردي إيرادات مصادر الدولة من النقد الأجنبي، سواء سياحة أو استثمارات أجنبية مباشرة أو صادرات، فضلا عن تراجع إيرادات قناة السويس وتحويلات المصريين بالخارج، ولكن سياسات البنك المركزي المتغيرة كان لها دور أيضًا في تخفيض قيمة الجنيه.
منذ نهاية 2012، بدأ البنك المركزي في تخفيض تدريجي لقيمة الجنيه أمام الدولار بغرض الحفاظ على ما تبقى من الاحتياطي النقدي، وزيادة جاذبية الصادرات المصرية وجذب الاستثمارات، والتضييق على الواردات. وفي 2015 تم وضع حدود قصوى على إيداع الدولارات في البنوك عند 50 ألف دولار شهريا، بهدف التضييق على السوق الموازية، فأصبح المستوردون غير قادرين على شراء الدولارات من السوق الموازية وتوريدها للجهاز المصرفي بغرض التحويل لبلد المورد. لكن هذه السياسة فشلت لأنها تجبر البنك المركزي على توفير الدولارات بنفسه، وهو أمر غير ممكن مع انخفاض قيمة الاحتياطي، وبالفعل تم حجز الكثير من البضائع في الموانئ المصرية لعدم القدرة على تحويل الدولارات، ومنها مدخلات إنتاج لعدد من المصانع ومواد خام لأدوية.
كما نشطت سوق موازية في عدد من العواصم العربية والأجنبية لبيع وشراء الدولار مقابل الجنيه، بعد القيود التي فرضها البنك المركزي على الإيداعات الدولارية.
ومع تولي طارق عامر منصب محافظ البنك المركزي، ظهر أن الرجل الجديد يتبع نظرية الجنيه القوي مع السماح للمستوردين بالحصول على الدولار من السوق الموازية، ولكنه سيستمر في وضع بعض القيود على بعض أنواع الواردات وإنفاق الأفراد في الخارج، بغرض الحفاظ على ما تبقى من «عملة صعبة» داخل الجهاز المصرفي.
ورفع المركزي الحد الأقصى للإيداع الدولاري إلى 250 ألف دولار لمجموعة من السلع الأساسية، وأتاح للمستوردين فتح أكثر من حساب بنكي، وبالتالي مضاعفة هذا الرقم، أي أن المستورد يستطيع إيداع 250 ألف دولار في 20 بنكا على سبيل المثال، ما يتيح له الوصول إلى رقم 5 ملايين دولار شهريا، وهو رقم كافٍ لإتمام صفقات الاستيراد وفقا لتقديرات «المركزي».
* انتقادات للسياسات النقدية
ويرى الشنيطي أن البنك المركزي حاليا يتحمل تبعات أخطاء السياسة النقدية التي تم اتباعها العام الماضي، من فصل السوق الموازية عن السوق الرسمية عن طريق وضع حدود الإيداع. ويقول: «طارق عامر أدرك هذا الخطأ، وقام برفع حد الإيداع، وصرح لرجال الأعمال بأنه يمكنهم أن يستخدموا 10 بنوك».
إلا أن الأمر المستغرب هو قيام البنك المركزي بإغلاق شركتي صرافة عقب ثبوت تورطهما في أعمال غير قانونية، وذلك في إطار الحملة التي أطلقها البنك لمراقبة أعمال شركات الصرافة، وقال مصدر في سوق الصرافة، لـ«رويترز»، إن هناك قائمة بأسماء 10 شركات لدى المركزي سيتم إغلاقها نهائيا.
وهو أمر مبرر قانونا، ولكنه غير مبرر ومستغرب اقتصاديا وفقا لتوجه البنك المركزي لزيادة التعاون مع الصرافات. وبلغ احتياطي النقد الأجنبي لدى المركزي المصري 16.5 مليار دولار في نهاية يناير (كانون الثاني) الماضي، إلا أن شركة «بلتون القابضة للاستثمارات المالية» كشفت أن البنوك المحلية قامت بإيداع 3.6 مليار دولار من ودائع العملاء بالبنك المركزي، لإخفاء انكماش حاد في أرصدة الاحتياطي الأجنبي خلال الربع الثاني من العام المالي 2015 / 2016، وهو التدخل الأعلى في التاريخ الحديث حتى بالمقارنة بحجم التدفقات النقدية التي تم ضخها خلال عام كامل.
وإذا تم تجنيب أثر الودائع ستهوي أرصدة الاحتياطي إلى 12.5 مليار دولار، وهو ما يغطي شهرين ونصف الشهر فقط من الواردات السلعية، وطالبت «بلتون» باتباع سياسة صرف أكثر مرونة في غضون أسابيع، لا شهور.
هذا بالإضافة إلى أن المركزي في عهد عامر تباطأ في تسديد مستحقات شركات البترول من العملة الأجنبية، لتتجاوز المديونية مبلغ 3 مليارات دولار.
* تجربة عامر
ورغم أنه من المبكر أن يتم الحكم على تجربة عامر الذي تولى قيادة البنك المركزي في نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، فإن بعض الخبراء يشيرون إلى أن بطء عامر في التنفيذ هو السبب في اضطراب سوق العملة.
وتقول عالية المهدي، أستاذ الاقتصاد والعميدة السابقة لكلية الاقتصاد بجامعة القاهرة، لـ«الشرق الأوسط» إنه ينبغي على عامر أن يلغي كافة حدود الإيداع، مضيفة: «ماذا يعني أن يكون الحد المسموح 250 ألف دولار في كل بنك، ومصر بها 40 بنكا؟ هل المقصود إرهاق المستوردين فقط بفتح حسابات في جميع البنوك؟»، مشيرة إلى أن الأولى بالمحافظ الجديد أن يلغي هذه الحدود فورا بدل من التدرج في الانفتاح، مع احتمالية وضع قوائم «سوداء» لبضائع كمالية، لا يتم توفير الدولار لها.
كما انتقدت المهدي تأكيد عامر في أكثر من مناسبة على سياسة «الجنيه القوي»، معلقة بقولها: «لا أحد يصدق هذا».
من جانبه، يوضح الشنيطي، أن «محافظ البنك المركزي لا يرى أن تخفيض الجنيه سيؤدي إلى جذب المزيد من الاستثمارات في الوقت الحالي، وأنا متفق معه في هذا الشأن»، هذا على الرغم من إقرار الشنيطي بصعوبة تحقيق هذا الهدف على المدى الطويل.
وقامت الحكومة المصرية بالفعل برفع سعر الدولار في موازنة العام الجديد 2016 / 2017، إلى 8.25 مقارنة، بسعر 7.83 جنيه حاليا، كما أن كثيرا من الشركات الأجنبية العاملة بالسوق قد حددت سعر الدولار عند 8.50 جنيه، والبعض الآخر اختار 9 جنيهات، كمتوسط لموازنة العام الحالي.
كما انتقدت المهدي خطوة غلق الصرافات، قائلة: «هذا القرار يوقف حال الاقتصاد كله، السفن تعود محملة بالبضائع لأننا لا نستطيع سداد قيمتها، وبعض المصانع توقفت بسبب توقف وصول مدخلات الإنتاج».
وتوقفت أعمال شركتي «جنرال موتورز» و«إل جي» مؤقتا خلال هذا الشهر بسبب نقص الدولار بالفعل.
واتفق الشنيطي مع المهدي على أن الحل لهذه الأزمة هو التعامل مع شركات الصرافة ك«شركاء» وليس كـ«أعداء» أو منافسين للبنوك، مؤكدا أن «هناك مشكلات اقتصادية وأمنية تسببت في نقص العملة، ولكن غلق الصرافات كان قرارا خاطئا أيضًا، والأفضل أن يتم التنسيق معها، فهذه الخطوة أظهرت أن البنك المركزي غير قادر على السيطرة على سعر السوق السوداء، وبالتالي يلجأ للحل الأمني». وقال الشنيطي إن الحكومة تسير بالفعل في طريق توفير التمويل عن طريق الاقتراض، وهو حل معقول في الأجل القصير، وأضاف: «مجرد التزام المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي والبنك الأفريقي بإقراض الحكومة المصرية، سيكون له أثر إيجابي وستستقر الأسعار، حتى قبل وصول المبالغ نفسها».
الدولار في مصر.. حركة بطيئة في الاتجاه الصحيح
خبراء يرصدون إيجابيات وسلبيات «تجربة عامر» لـ «الشرق الأوسط»
الدولار في مصر.. حركة بطيئة في الاتجاه الصحيح
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة