في اتفاق تاريخي توصلت الأرجنتين لاتفاق يسمح بسداد ديون سيادية لصندوقين من صناديق التحوط بعد 14 عاما من الصراع القضائي، بعد أن عرضت الأرجنتين تسديد 6.5 مليار دولار لمجموعة من صناديق التحوط لاسترداد سندات بقيمة 9 مليارات دولار، تخلفت الأرجنتين عن سدادها منذ بداية الألفية، وقبلت شركتا «شركاء مونترو» و«دارت»، بالعرض، بعد أسبوع من المحادثات رفيعة المستوى بين كبار المسؤولين في الحكومة الأرجنتينية وممثلين عن حاملي السندات، بينما غاب عن الاتفاق صندوق NML كابيتال، الذي يملك جزءًا من هذه السندات.
وفي وقت سابق من هذا الأسبوع، عقدت الأرجنتين اتفاقًا لدفع 1.35 مليار دولار إلى مجموعة أخرى من حاملي السندات، هذا بعد أن تعهد موريسيو ماكري رئيس الأرجنتين المنتخب حديثا، بحل النزاع مع صناديق التحوط كجزء من خطة أوسع لإصلاح الاقتصاد بلاده.
المعركة القانونية تعود إلى عام 2001، عندما تخلفت الأرجنتين عن سداد مليارات الدولارات من الديون، ثم قدمت الحكومات في عهد نستور كيرشنر وكريستينا فيرناندز، آخر رئيسين للدولة اللاتينية خلال الفترة بين عامي 2003 إلى 2015، عرضين لإعادة جدولة وتسديد جزء من قيمة السندات، ونجحت هذه الحكومات بالفعل في إعادة جدولة 93 في المائة من ديونها، لكن الصناديق المضاربة التي تملك 7 في المائة من هذه الديون رفضت إعادة الهيكلة، حيث كانت الحكومة الأرجنتينية تسدد 30 في المائة فقط من قيمة السندات.
وبالنظر إلى رغبة الرئيس الجديد في إنهاء مشكلة الديون خلال أسابيع ندرك أن الأرجنتين ستشهد تغيرا كبيرا في سياستها الاقتصادية الداخلية والخارجية، حيث يظهر بوضوح رغبة الرئيس الجديد في العودة إلى أحضان الاقتصاد العالمي والأسواق العالمية، بدلا من سياسات كيرشنر وفيرناندز، المرأة التي ودعها آلاف الأرجنتين بالدموع ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
وخلال عهد كيرشنر وفيرناندز، قامت الأرجنتين بتطبيق حزمة كبيرة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية تمثلت في إصلاح نظام المعاشات والتقاعد، وتأميم شركة الطيران الوطنية، وشركة البترول الوطنية، واتبعت تلك الخطوة موجة من التأميمات امتدت لفروع شركات أميركية عاملة بالأرجنتين، كفرع عملاق صناعة الطائرات الحربية لوكهيد مارتن، إضافة إلى كثير من الشركات التي خُصخصت في عهد الحكومات اليمينية السابقة.
كذلك احتل موضوع العدالة الاجتماعية موقعا مركزيا في منظومة السياسات الجديدة، تمثلت في خفض فاتورة الطاقة، وذلك عبر برنامج نووي طموح بالمشاركة مع البرازيل، مع التوسع في الاعتماد على الطاقات المتجددة. وتشير بعض التقديرات إلى أن تلك السياسات أدت إلى إخراج نحو مليوني أرجنتيني من مصيدة الفقر ليصبح مستوى الذين هم تحت خط الفقر نحو 15 في المائة من السكان.
كما فرضت حكومة كريستينا كريشنر قيودا صارمة على سعر صرف العملة المحلية عام 2011 لمنع خروج رؤوس الأموال من البلاد، مما اعتبره محمود عبد الفضيل أستاذ الاقتصاد في جامعة القاهرة، خروجا عن «إجماع واشنطون» ومثالاً لسياسات الاستقلال الوطني. ويعتبر العيب الرئيسي الذي لم تستطع سياسات كريشنر وفيرناندز القضاء عليه هو شدة اعتماد الاقتصاد الأرجنتيني على العالم الخارجي، وهو ما ينعكس في إضعاف قيمة العملة المحلية بشدة، وقد نمى الاقتصاد الأرجنتيني بنسبة 0.1 في المائة في وقت الأزمة المالية، ثم انتعش بأكثر من 9 في المائة في عام 2010، ثم عاد وتباطأ في 2014 ليبلغ معدل النمو 0.5 في المائة فقط، وما زال معدل التضخم يدور حول نسبة 30 في المائة.
وفي ديسمبر الماضي، انتهى هذا العصر، فالرئيس الجديد، موريسيو ماكري، أعلن عن خطة جريئة لتنشيط الاقتصاد، تتضمن إلغاء أغلب الضرائب على الصادرات، وأغلب ضوابط العملة، كما خفضت الحكومة الضرائب على الدخل، وحررت سعر الصرف، الأمر الذي سمح بانخفاض فوري في قيمة البيزو بلغ نحو 30 في المائة.
ويرى محمد العريان، الخبير الاقتصادي العالمي، ومستشار الرئيس الأميركي، أنه على حكومة ماكري حشد مساعدات مالية خارجية كبيرة، وتوليد موارد محلية إضافية، وتنفيذ إصلاحات بنيوية أكثر عمقًا، «إذا فعلت، فسوف تصبح الاستراتيجية الاقتصادية الجريئة، التي تبنتها الأرجنتين نموذجًا تحاكيه بلدان أخرى، سواء الآن أو في المستقبل، أما إذا تعثر هذا النهج سواء بسبب التسلسل غير الصحيح أو ارتفاع مستويات السخط الشعبي فسوف تصبح البلدان الأخرى أكثر ترددًا في رفع الضوابط، وتحرير عملاتها بشكل كامل، وقد تكون عواقب الارتباك السياسي الناجم عن هذا وخيمة على الجميع».
وذكرت وكالة بلومبرغ للأنباء الاقتصادية أن البنك يمكن أن يلجأ إلى عدة مصادر لزيادة الاحتياطي، منها الاقتراض من البنوك الأجنبية وعائدات صادرات الحبوب الأرجنتينية والشركات الخاصة الموجودة في الأرجنتين، وحتى يستطيع الرئيس الجديد الحصول على القروض من المؤسسات والدول والبنوك الأجنبية عليه أن يحل أزمات الديون القديمة. لهذا عرضت الأرجنتين تسوية بقيمة 6.5 مليار دولار لإنهاء نزاع مستمر منذ سنوات، مما وصفه دانيال بولاك الوسيط الذي عينته محكمة أميركية، بأنه «انفراجة تاريخية»، ولا مبالغة في تعبير الوسيط، فهناك اختلاف جذري في رؤية الحكومة لقضية الديون، ففي 2014، وجهت الأرجنتين اتهاما للولايات المتحدة بالمسؤولية عن إعلان تعثرها في سداد الديون، ووصفت الوسيط الأميركي الذي شارك في المحادثات الفاشلة بأنه «غير كفؤ»، كما قال رئيس الوزراء الأرجنتيني في هذا الوقت، جورج كابيتانيتش، إن بلاده تفكر في رفع دعوى قضائية لدى المحكمة الدولية في لاهاي، هذا كله بسبب فشل مفاوضات بين الحكومة الأرجنتينية ومجموعة من حاملي السندات في نيويورك، طالبوا بسداد دفعة كاملة من مستحقاتهم من الفائدة بقيمة 1.3 مليار دولار.
هذا يشير إلى تحول كبير في السياسة الاقتصادية الخارجية الأرجنتينية من رفض أي حوار إلى المبادرة بالحل. وبقي أن ينجح الرئيس الجديد في حل أزمة الأرجنتين التاريخية، وهي التضخم، فالمواطن الأرجنتيني ما زال مضرب المثل في المعاناة من ارتفاع الأسعار، سواء في عهد الاستقلال الوطني أو الاندماج في العالم الخارجي.
* الوحدة الاقتصادية
بـ«الشرق الأوسط»
الأرجنتين تعود لأسواق العالم.. وتودع سنوات الانغلاق
اتفاق تاريخي بسداد ديون سيادية مقابل إسقاط ربعها
الأرجنتين تعود لأسواق العالم.. وتودع سنوات الانغلاق
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة